المصطلحات وانتقاؤها بعناية عامل حاسم في كسب الحرب ضد كورونا ،وفي انجاح عملية التلقيح ، ولذلك لا ينبغي أبدا أن تصبح مصطلحاتنا وتعبيراتنا ولغتنا التي نستعملها هي الحرب نفسها ،وهي النقاش نفسه ،وننسى النقاش الأساس الذي يجب أن ننكب عليه حول الفيروس وسبل التصدي للجائحة ،في الآونة الأخيرة طرأ تحور على النقاش الدائر بشأن مقبولية اللقاح من طرف السكان، فقد أفقنا فجأة في المغرب وفي دول العالم الذي يعد السير نحو المناعة الجماعية على مصطلحين وافدين من حقل السياسة إلى حقل الطب، مصطلحان أثارا جدلا ومناوشات ومناكفات على مواقع التواصل الاجتماعي ،حين أصبحنا نسمع البعض يتحدث عن “اغلبية” ملقحة و”أقلية” غير ملقحة، عن تقسيم جديد للمجتمع ما خطر على بال أخصبنا خيالا حتى بعد أن شرعنا في التلقيح وقطعنا فيه أشواطا وأشواطا.
ولقد تطور الأمر كما رأيتم جميعا إلى حد الحديث عن ديكتاتورية “للأغلبية” الملقحة التي لها أن تجبر “الأقلية” على جواز التلقيح ، قابله استنكار في الاتجاه المعاكس ينتقد أن تخضع او تتضرر “الأغلبية” بقرار “للأقلية”، والحال أن هذه الجدل الصاخب أو الزائد لم يكن ليحصل لولا أن البعض التقط كلمة “اقلية “واستغلها لينمي شعورا بالاضطهاد والوصم والتمييز لدى من تخلفوا عن تلقي جرعات اللقاح راميا الى دفعهم نحو مزيد من العناد و التصميم على عدم التلقيح، وبالتالي التمكن من تحويل سلوك معين بشأن التلقيح قابل للتغيير مع مرور الأيام والأحق الآراء الى عقيدة راسخة لا تقبل التراجع ،مما يخدم رؤيته هو الساعية إلى تصليب مواقف من امتنعوا ورفضوا اللقاح، وتطويرها الى أن تستحيل مواقف نهائية.اي خلق نوع من الحدية في الاستقطاب، ومد من يراهم في صفه بهوية وكيان يوحدهم حول شرط جامع هو رفض اللقاح. مثل هذه المناورات التي تحمل الكلام عن أغلبية وأقلية بخصوص التلقيح أكثر مما يحتمل، وتخرج به سياقه الطبي المحض و من دائرة التعبير التلقائي العفوي الوصفي الى اعتباره دعوة للوصم والتفرقة قد تتسبب في اعاقة نجاح حملات التلقيح وإيقافها.
صحيح أن نسبة من تلقحوا بالمغرب يجاوز 25 مليون نسمة ،ويفوق بأكثر من 20 مليونا من لم يتلقحوا و الذين لا يتجاوز عددهم 5 ملايين نسمة،وأصح من ذلك أيضا أن هذه الفئة على صغرحجمها تتضاءل يوما بعد يوم بسبب مغادرة العديد لصفوفها عن اقتناع او لرغبة في حيازة جواز التلقيح لاستئناف حياتهم الطبيعية دون منغصات كباقي الملقحين. من الواضح أيضا أن هناك بمنطق السياسة أغلبية وأقلية،ولكن ذلك لا ينسحب على المنطق الطبي ،فالطب يتسامى عن هذه التقسيمات، وبنود قسم ابقراط دليل على ذلك،فالخبراء يقاربون هذه المشكلات كقضايا صحية ،ويحللونها كسلوكيات ينبغي توصيفها توصيفا ذكيا براجماتيا بما يخدم الغاية النبيلة التي يمثلها تعميم اللقاح.
منظمة الصحة العالمية سكت سنة2019 ,و قبل أشهر من اندلاع جائحة كورونا مفهوما جديدا للتعبير عن الظاهرة،حيث تتحدث عن التردد بشأن اللقاح ،والذي تعتبره أحد المخاطر العشرة الأولى التي تهدد الصحة بالعالم ،فتعرفه بانه التأخر في تلقي اللقاح او رفض اللقاح رغم توفره وسهولة الحصول عليه.ولذلك تدعونا إلى الحديث عن هذه العينة من الأشخاص بوصفهم مترددين بشأن اللقاح لم يستطيعوا حسم قرارهم، أي نعتهم بصفة قابلة للتعديل. والحقيقة أن هذا الوصف لايجافي الحقيقة ،فكم مترددا قبل بالللقاح بمجرد مشاهدته لحوار تلفزي أو بعد عدم معاينته آثارا جانبية جدية على قريب أو صديق له سبقه الى اللقاح،او تشجع وتلقح بمجرد أن فرض جواز التلقيح.
التردد أمر عادي جدا في اللقاحات خصوصا في حالة كورونا التي تغذي سياقاتها مثل هذا التردد، فقد صممت لقاحاتها على عجل ،كما أنه قد رافقها سيل عارم من الأخبار الزائفة التي ترهب من اللقاح،واحاطتها وساوس وتوجسات من الرهانات التجارية للشركات الكبرى على اللقاح ،ناهيك عن الشك في امد المناعة التي تعطيها ،وظهور المتحورات التي تعيد كل مرة طرح قضية فعالية اللقاح . وكل هذه نقاط ومخاوف يتعين على السلطات الصحية ملاحقتها وتفكيكها في لاشعور الناس.
سيكون من الأصوب أن نعتبر أن المغرب يوجد الآن في وضعية التردد المناعي هاته التي تتبناها منظمة الصحة العالمية ، هناك الآن تباطؤ في تلقي الجرعة الأولى، وشكوك لدى الناس حول ضرورة تلقي الثالثة، بينما اللقاح متوفر والمخزون منه وفير جدا والصناعة الوطنية للقاحات على أهبة الانطلاق، ولذلك علينا أن ننصت، أن نحاور، أن نشرح ونعبئ ونلح ونكرر خطاب التلقيح ولكن بإبداع في طرق التواصل والاقناع حتى نصل الى النتيجة المرجوة التي هي المناعة الجماعية .
أول خطوة في هذا المضمار هي أن ندقق مصطلحاتنا ،وان نتكلم عن الملقحين او المبادرين الى التلقيح، والمترددين بشأن التلقيح .هذا التصنيف بعيد جدا عن الوصم بل هو يبقي الجميع في سلة واحدة .ويظل بهم جميعا على نفس الطريق ،طريق التلقيح ،فالتردد هو المرحلة التي تسبق عادة المبادرة ،وهو مسألة وقتية ، ومرحلة أولى يحتاجها البعض قبل الانضمام إلى قافلة الملقحين.
في مجال اللقاح الأغلبية والاقلية متحركتان،وبالتالي لاوجود حقيقي لها ، وذلك لا ينبغي أبدا النظر إلى الأمر من هذه الزاوية . لان المهاجمين للقاح يتحينون مثل هذه التعابير لينفخوا فيها ويشتتوا الانتباه ويغيروا النقاش الحقيقي نحو نقاشات هامشية تعطل السير نحو المناعة الجماعية التي لا عذر لنا في عدم بلوغها خصوصا مع خطر المتحورات والموجات .لذلك سنظل نلح على المترددين حتى يلتحقوا بالركب وسنحافظ في نفس الآن على المبادرين الى التلقيح حتى لايغادروا الركب .فنحن جميعا في مركب واحد . ولحد الآن السلاح الوحيد الذي بأيدينا هو اللقاح، ومن يدري فقد تظهر غدا أدوية فعالة تجعلنا نعيد النظر في كل المقاربة من جديد.
تعليقات الزوار ( 0 )