غير خاف عن دارس مهتم بموضوع الماء عموما، ما كان لهذا العنصر الحيوي من دور معبر في بلورة الحضارة المغربية وعمارة وثقافة .. مدنه وبواديه منذ القدم، فقد كان موجها لأحداث تاريخية عدة على مر أزمنة البلاد وعلى عدة مستويات. وعليه، فالحديث عن الماء بها ومن خلاله عن تراثها المائي هنا وهناك من الأمكنة، ليس ترفا فكريا، نظر لِما كان له من علاقة بما حصل من وقائع وما طبع المجتمع المغربي منذ العصر الوسيط، من أنماط عيش وأنشطة اقتصاد وعلاقات واختلافات ونزاعات وعقليات وذهنيات ..
ويسجل أن من الدارسين الباحثين المهتمين، من اعتبر أن الماء بالمغرب في علاقته بالبوادي والمدن منذ هذه الفترة من الماضي، كان عنصرا فاعلا مؤثرا متحكما في إنتاج الرخاء والأزمات معا. من خلال ما كانت عليه أمور العيش والاستقرار من تأثر بندرته وتقلب أحواله لعوامل مناخية وبشرية وترابية وثقافية وغيرها. وهي السياقات التاريخية التي جعلت سبل تدبيره من الأولويات هنا وهناك خلال هذه الفترة وتلك، دون نسيان ما كان للماء من أثر فيما حصل من نزاعات وصراعات وضرر في فترات حرجة، من قبيل ما كان بين بعض المدن والبوادي/ القبائل كما الحال بالنسبة لتازة، وهو ما يحضر من خلال ما أحيط به من إشارات في مصادر تاريخية مغربية منذ العصر الوسيط. ولعلها احداث ووقائع بقدر ما أفرزته من ضوابط عرفية وأنظمة استغلال محلي وتقاسم وتشارك فضلا عن طبيعة حلول ومخرجات، بقدر ما حصل من قراءات وفتاوى وتدخلات على اثرها، وقد ظهرت جلية في نوازل المياه وما أثير من إشكالات مائية لأسباب عدة.
هكذا اذن ما طبع المغرب من وعي محلي جماعي بقيمة الماء وأهميته في حياة المغاربة منذ العصر الوسيط، ومن ثمة غنى التراث المائي المغربي على مستوى المدن والبوادي، ومعه غنى سبل تنظيم وتدبير المجال وتدخل الانسان، من خلال تجليات توفير الماء ونقله وسبل حفظه وتوزيعه وتقاسمه.. عبر ما تم إحداثه من آليات وبنيات (سواقي وآبار وخزانات وخطارات وغيرها من أليات التوفير والتموين) حسب طبيعة تضاريس الجهات والمناطق ومناخها بين سهل وصحراء وجبل، وفق ما تم بلوغه من ضوابط مؤسساتية مرتبطة ”بالجماعة” وما كان يؤطرها من أعراف. وهكذا ايضا بعض من الماء والتراث المائي في المغرب، وما هو عليه من حمولة طبيعية واقتصادية وثقافية واجتماعية وروحانية وكذا غرائبية اسطورية وغيرها. الماء الذي كان بدور في مستقر وعيش وفعل وتفاعل وحرف وحرفيين وانتاج وحركة وتنقل وهجرة، فضلا عن نزاع وأحوال سلم وعمران وعمارة وحضارة، بل أيضا بدور وأثر في نشأة دول وقيام وانهيار تجارب سياسية بالمغرب وكذا تأسيس مدن واختيار مواقع ومواضع.
سياق من المفيد الإشارة فيه يسجل فيه لما هو بحث ودراسة، ومن ثمة ما هناك من نصوص بحثية ذات صلة، بقدر ما أغنت الخزانة المغربية موفرة مادة معرفية تاريخية وثقافية، بقدر ما توجهت بأسئلتها ونهجها ومقاربتها للماء، لِما هو مجالي فزيائي وزمني وانساني وثقافي وبيئي وتنظيمي وقانوني..، ولعلها نصوص على درجة من الأهمية والقيمة المضافة، لِما بلغته من خلاصات واستنتاجات وتراكمات، ولما سلطته من اضواء في محاولة لفهم اشكالات وتجليات وتفاعلات وعلائق وصور حياة وأنماط عيش ووقائع وعقليات وذهنيات، ارتبطت بهذا العنصر الحيوي هنا وهناك بالمغرب على مستوى المدن والبوادي، إن في حالة الوفرة أو الندرة مع ما رافق ذلك من صعاب طبيعية وغير طبيعية، لعل من صورها ما طبع تازة بجوارها حول عنصر الماء على امتداد فترات تاريخها حتى مطلع القرن الماضي. وعليه، ما هناك من تراث مائي محلي بمشاهد وتجليات مادية ولا مادية فضلا عن سلطة جبل ذات صلة وطبيعة أثر جوار وأحواز، من المفيد اثارته والحديث عنه وإبراز جدله في أزمنة المدينة وأمكنتها تنويرا للمهتمين وعموم الناشئة.
وانفتاحا على تيمة الماء والتراث المائي بتازة باعتبارها واحدة من مدن المغرب العتيقة الضاربة في القدم، وعيا بما عليه هذه الحاضرة من معالم وزخم تراث مادي ولا مادي واسع ومتنوع، وتعريفا وابرازا لزمن المدينة المائي وما هناك من بصمات، وتقريبا للمادة التاريخية التراثية التي تخص عنصر الماء بتازة للمهتمين والناشئة المغربية. انفتاحا ووعيا بكل هذا وذاك، ارتأت إذاعة مكناس الجهوية تسليط بعض الضوء حول الموضوع “الماء والتراث المائي”، من خلال ما تحتويه وتحضنه وتزخر به تازة في هذا الاطار. ولعل ما تقدمه هذه المحطة الاذاعية الجهوية من مادة إعلامية خدمة منها للجهة ولِما هو رافع لترابها، يجعلها بحضور وتميز وجهد واجتهاد معبر تنويرا لمستمعيها، عبر ما يتقاسم أثيرها من برامج على درجة من القيمة الأدبية، منها المنفتحة والمهتمة بما هو تراثي حضاري هوياتي جهوي، نذكر منها برنامج “أسماء ودلالات” وما يقوم عليه من بحث وتنقيب وتنويع وتنوير وتثقيف، أكثر انصاتا والتفاتا لِما هو تراث مادي ولامادي جهوي، تنويرا للناشئة بما هناك من ذخائر في هذا المجال على صعيد مدن وبوادي الجهة عموما. وهكذا وانفتاحا على تاريخ وتراث مدينة تازة عبر برنامج “اسماء ودلالات”، من خلال عدة حلقات هي الآن جزء من أرشيف هذه المحطة. حلقة جديدة منه مساء 20 نونبر الجاري من تأطيرنا مع أخرى ثانية بعد فاصل أسبوعين، ارتأت توجيه عنايتها لموضوع الماء والتراث المائي بهذه الحاضرة التاريخية، لأثارة وإبراز ما كان لهذا العنصر الحيوي من أثر وتجليات في زمن تازة وعمارتها ووقائعها وجدلها المحلي .. منذ زمن العصر الوسيط، علما أن ما يطبع المدينة من غنى حضاري هو نتاج عوامل عدة ومتداخلة منها عنصر الماء.
تعليقات الزوار ( 0 )