خلال الحجْر الصحّي الاحترازي الذي عشناه مؤخراً عن كثب، وعلى مَضَض توجّساً واتّقاءً من وباء الجائحة اللعين الموسوم ب ( كورُونا)، وهو نعتً موضوعٌ فى غير محلّه وبدون أحقيةِّ أو معنىً أو استحقاق ف (كرُونا) فى اللغة الإسبانية تعني ( التاج ) وأين من هذه الجائحة من التاج ! هذا الوباء الخطيرالذي ذهب بغير قليلٍ من أحبّائنا ،وأقربائنا، وخلاّننا ،ومواطنينا ، والذي أربك حياتنا، وطريقة تفكيرنا ، وقضّ مضجغنا ،وحيّر عقولنا ،وغيّر أسلوب عيشنا .. هذان المخلوقان الوسيمان اللطيفان اللذان نراهما فى الصورة المرفقة بهذا المقال، الكبير والخطير يُسمّى (كيلر) ( وهو من فصيلة روتوايلر) وهو قادم معنا من كولومبيا ،والثانية الصّغرى البريئة المسالمة التي تُسمّى ( ليندا) (من فصيلة بيجل) وهي قادمة من بريطانيا اللذان يعيشان معنا منذ سنواتٍ بعيدة خلت والموسومان بأنبل معاني الأمانة ،والاخلاص، والنبل ،والوفاء، لابدّ أنهما كانا خلال مدّة الحَجْر الذي كان مفروضا ًعلينا فرضاً كسجن منزلي أُرْغِمنا عليه إرغاماً يتساءلان معنا حائريْن، قلقيْن ،حذريْن ، يقظيْن، متوجّسيْن : ماذا جرى فى علم الله …؟ لماذا أصبحنا لا نبرح مقرّ سكنانا إلاّ بالكاد ،وبشروط إعجازية بالحصول على شهادات تطعيمية وتراخيص طبيّة إلخ ؟..
دنيا الكلاب !
بالمناسبة إليكم حكاية (الكلاب والضيُوف) الواردة فى أحد كتبي وهو ( رجال ونساء.. قصص وطرائف ) الصّادر مؤخّراً فى الأردن الشقيق التي جاء فيها : وُجِّهت الدّعوة لعالمٍ مُحاضرٍ مغربي للمشاركة فى إحدى اللقاءات الثقافية فى بلدٍ شقيق وصديق ،وعندما وصل المحاضر إلى هذا البلد ،إستقبله علماؤه ببرود شديد، وبنوعٍ من الأستهزاء، والآزدراء ولم يُحسنوا وفادته، ولم يُولوه أيَّ أهميةٍ تُذكر، فى حين كانت وفود البدان الأخرى المُشاركة موضعَ عنايةٍ ورعايةٍ كبيريْن من طرف مُنظمي هذه التظاهرة الثقافية التي كان موضوع المشاركة فيها حرّاً وغيرَ مُعلن ليشكّل نوعاً من المفاجأة للحاضرين والمشاركين ، وبعد أن تحدّث العديد من المُحاضرين من المدعويين الذين قدِموا من مختلف الأقطار والذين عوملوا بمنتهى اللطف، والتقدير، الشئ الذي لم يتمّ مع المحاضر المغربي، قال له الرئيس المُسيّر للجلسات مُستخفّاً -على ما يبدو- من طريقة وضع السؤال : ماذا أعددتَ لنا للحديث فى هذا المحفل يا مغربي…؟؟!! تريّث المُحاضر المغربي قليلاً ثم قال له : إذا أَذِنَ لي السيّد الرّئيس فإنّني إخترتُ أن أتحدّث عن موضوع الكلاب..!! فصار الجميع ينظرون إلى بعضهم البعض فى شدوهٍ ،وإندهاش ، وتعجّب ،وترقّب ..وبما أنّ إختيار المواضيع كان حرّاً ، لم يجد رئيس الجلسة أيَّ حرجٍ إذ قال له : لا بأس تفضّل.
أشعار وأمثال وأقوال
صارالمحاضر يتحدّث عن الكلاب، وقد أجاد وأفاد ، وعدّد وأعاد، وأبلغ وأقنع، تحدّث عن الكلاب منذ أقدم العُصور مُروراً بمختلف الأحقاب التاريخية السّحيقة فى القدم إلى اليوم،تحدّث عن أشهر الكلاب: ( قطمير) “كلب أهل الكهف” فى القرآن الكريم ، وعن لهثان الكلاب، وعن وفاء الكلاب، وعن الكلب فى الأدب العربي القديم فى الجاهلية،راوياً حكاية (على نفسها جنت براقش) الشهيرة ! والعصر الإسلامي، والأموي، والعباسي فى المشرق والأندلس وفى عصريْ الإنحطاط والنهضة ،وفى وقتنا الحاضر،مُستدلاًّ بالعديد من النّصوص الأدبية والأشعارالشهيرة التي قيلت فى صديق الإنسان المخلص …وممّا سرده أبيات ابن الرومي الشّهيرة التي مطلعها :
وَجْهُكَ يَا عَمْرُو فيه طولُ / وفى وجوه الكِلاَبِ طولُ !.
وذكّر بتراشقات، ومفاكهات، و إخوانيات أمير الشّعراء أحمد شوقي و(شاعر النيل) حافظ إبراهيم، حيث قال حافظ ذات صباحٍ مداعباً ليُخْرِجَ شوقى من صمته وبرودته :
يقولون إنَّ الشَّوقَ نارٌ ولهفةٌ / فما بَالُ شوقي أصبحَ اليومَ بَارِدَا..؟
فردّ عليه شوقي مداعبًا قارصًا :
أودعتُ إنساناً وكلباً وديعةً / فضيّعها الإنسانُ والكلبُ حافظُ…!! .
وذكّر المحاض بالأشعار الجميلة التي قيلت فى الكلب الشهير فى الأدب العربي الحديث وهو (هُول) وهو أوّل كلبٍ بوليسيّ من فصيلة ( الرّاعي الألماني) استُخدِم فى مصر وكان شديد الذكاء، وبالغ الفطنة حيث قال فى حقه الشاعر المصري محمود غنيم قصيدة طريفة مطوّلة منها :
كلبٌ ينمّ عن الجُناة / تمشي العدالة فى خطاه…
إن قال أرهفت النيا / بةُ سمعَها وصغى القُضَاة ..!
وأورد الأبيات الشّهيرة عن الفقير، والثريّ، والكلاب التي تُنسب تارةً للإمام الشافعي رضي الله عنه وفى أطوار أخرى تُنسب لعبّاس ابن الأحنف والتي تقول: يَمشي الفقيرُ وكلُّ شيءٍ ضدَّهُ / والناسُ تُغلِقُ دونَهُ أبوابَها
وتراهُ مكرُوهاً وليس بمُذنِبٍ / ويَرى العداوةَ لا يَرى أسبابَها
حتى الكلابَ إذا رأتْ ذا ثروةٍ / خضعَتْ لديهِ وحرّكتْ أذنابَها
وإذا رأتْ يوماً فقيراً عابراً / نبحتْ عليه وكشّرتْ أنيابَها.
وذكّر المحاضر بقصّة الشاعر القرشي عليّ ابن الجهم عندما قدم من البداوة الى الحضارة فى بغداد لأوّل مرّة وذهب لمدح الخليفة المتوكّل فقال له :
أنتَ كالكلب في حفاظك للود ّ / وكالتّيس في قِراع الخطُوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوًا / من كبار الدلا كثير الذنوب
فأدرك الخليفة المتوكّل حسن مقصده ،وخشونة لفظه، وأنه ما رأى فى بيئته سوى ما شبهه به، لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان حسن، يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح، والجسر قريب منه، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به، فكان ابن الجهم يرى حركة الناس ،ولطافة الحضر،ورقّة التمدين، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدّة لينشده، فحضرإليه وأنشد قائلاً :
عيُونُ المها بين الرّصافة والجِسر / جلبنَ الهوىَ من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوقَ القديم و لم أكن / سلوت و لكن زدن جمراً على جمر
خليليّ ما أحلى الهوى وأمرّه / وأعرفني بالحلو منه وبالمرّ
كفى بالهوىَ شغلًا وبالشيب زاجرًا / لو أنّ الهوىَ مما ينهنه بالزجر.
وذكّر المحاضر بمقولة رئيس الوزراء البريطاني السّابق وينستون تسرشل عن الكلاب عندما كان يطوله الإنتقاد اللاّذع من كلّ جانب فقال : لا يمكننا أن نظلّ نرمي بالجحارة فى كلّ وقت على كلّ الكلاب التي تنبح علينا فى الطرقات .. فلنستمرّ فى طريقنا دون اكتراث لتحقيق أهدافنا ” ،وهذا يقودنا الى القولة الشهيرة : الكلاب تنبح والقافلة تسير ..!
الكلاب والأدب
وذكّر المحاضرالمغربي الحاضرين فى هذا الملتقىَ الدولي بالطرفة التي قدّمتها السّينما والتلفزيون المصريان فى الستينيات من القرن الفارط فى مسرحية ” سيّدتي الجميلة” مقتبسة عن مسرحية My fair Ladyللكاتب الايرلاندي الساخر برنارد شو ، حيث من المعروف أنّ “القاهريّين” الأقحاح و” القاهريّات” الأصيلات لا ينطقون ولا ينطقن حرف “القاف” ويستبدلونه تخفيفاً بحرف ” الكاف” ، فهم يقولون فى ( القاهرة) مثلاً ( الكاهرة) ، وعندما كتب معلّم اللغة العربية ( فؤاد المهندس) على الصبّورة العبارة التالية : ( أنتَ القلبُ الكبير .. أنت بحكمتك تختال علينا ..) وطلب من ( شويكار) قراءة هذه العبارة قالت بصوتها السجيّ بنغمةٍ لا تخلو من دلالٍ ودلع : ( أنتَ الكلبُ الكبير.. أنت بحكمتك تحتال علينا ..!) حيث نطقت القاف كافاً ، والخاء حاءاً على طريقة بعض قاطني سكّان القاهرة .! فظلّ المُعلّم ينظر إليها فى شدوه.
كما لم ينس ان يعرّج عن الكلاب والأدب المعاصر مستشهداً بروايتيْن مشهورتيْن فى هذا المجال ،الأولي فى أدبنا العربيّ، والثانية فى الأدب المكتوب باللغة الإسبانية ، الرواية الأولى للكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب، وهي روايته ” اللصّ والكلاب” التي تلقفتها السينما المصرية بعد صدورها واخرجتها بنجاح باهر ، والرواية الثانية هي ” المدينة والكلاب” للأديب البيروفي-الاسباني المعروف ماريو برجاس يوسا الحاصل على جائزة نوبل كذلك ،والتي كانت باكورة أعماله الرّوائية التي نقلته إلى الشّهرة العالمية ، ومن غرائب المُصادفات الغريبة أنّ الروايتيْن نُشرتا فى نفس التاريخ وهو عام 1962 على الرغم من بُعد المسافة بين البلدين والكاتبين فالأوّل من مصر و الثاني من البيرو .
كلاب العصر
وتحدّث المحاضر بإفاضة عن كلاب العصر وما أدركته من مكانةٍ مرموقة فى العالم الذي يُوسم بالمتمدين والمتحضّر (!) فقال : نذكّر فى هذا المقام أنّ هناك كلاباً جابت الفضاء.. ورائدتهم فى هذا المجال كانت الكلبة ( لايكا) !.
الكلب صديق الانسان منذ القدم، فهو الحارس الوفيّ الأمين ، ولعلّ معظمنا يتذكّر حكاية الطفلة الصغيرة التي تركتها أمّها فى البيت وتركت معها كلبها يحرس الطفلة،فلمّا عادت وزوجها إلى المنزل لم تجدا الطفلة فى مهدها ، ووجدا كلّ شئٍ مبعثراً ، ولاحظا أنّ فى فم كلبيْهما كانت باقية آثار دماء فخُيّل لهما أنّ الكلب قد أكل الطفلة فقتلاه غير أنهما سرعان ما اكتشفا الطفلة نائمةً فى احدى زوايا البيت لم يمسسها سوء، ووجدا أيضاً ذئباً صريعاً قتله الكلب على إثر معركة ضارية، وكلنا نتذكّر النهاية الرائعة لهذه الحكاية الحزينة ، وهي أنهم أقاموا لهذا الكلب ضريحاً كبيراً ،وكتبوا على رخامة مرمرية ناصعة تعلو الضريح قصّته مع العبارة التالية : ” هنا يرقد الكلب الوفيّ !
الكلب إذن حيوان أليف وهو مشهور بوفائه لصاحبه، وفيه منافع شتّى لا حصر لها فى الذود عن حوض المنزل، والحراسة، والصيد، والطّرد ،والقنص وغيرها ، غير أنه يبدو أنّ كلاب العصر الحديث اصابتهم عدوى الحضارة المعاصرة فتطوّرت حياتهم بالتالي، فأصبحنا نرى سباقاً للكلاب، ومعرضاً للكلاب، بل ومباريات للكرة يلعبها الكلاب، وكما ان هناك مسابقات للجمال بين البَشر ذكوراً وإناثاً فقد اصبحت هناك مسابقات للجمال والأناقة بين الكلاب ..!
كلاب مُدلّلة..!
هناك أيضاً كلاب مُدلّلة فبعضها تأكل الشيكولاته ،وأخرى لا ترضى بغير أنواع وأصناف معيّنة من الطعام، كما أن هناك كلاباً تحبّ التدخين، وبعضها يتعاطى المُخدرات ،وهناك كلاب أصبحت ترتدي معاطف وسترات واقية من لفحة البرد القارص فى عزّ الشتاء ,وهناك كلاب اخترعوا لها مؤخّراً عطورزكيّة خاصّة بها من صُنع دار راقية للمُوضة العالمية فى إيطاليا ، وقام جدل واسع حول هذا الموضوع نظراً لأرتفاع حاسّة الشمّ عند الكلاب بمستوياتٍ عاليةٍ جدّاً بالنسبة للإنسان، ولابدّ أنّ هذه العطور ستسبّب أضراراً بالغة للكلاب، ممّا دعا جمعيات الرّفق بالحيوان فى العالم للأحتجاج على هذا الصّنيع ! ولقد أقيمت منذ سنوات فى نيويورك وباريس، وروما ،ولندن ،وبروكسيل،وأوسلو، وفى مدن أخرى مقابر خاصّة للكلاب !
وتساءل المحاضر : ما هو السرّ يا ترى حتى أصبحت الكلاب تحظى بهذه العناية وتحتلّ هذه المكانة من الاحترام والدلال والدلع فى قلوب الكثيرين ؟ بل حتى أنّها استطاعت أن توفّر لنفسها عيشة أحسن من عيشة بعض الناس فى كثير من الأشياء فى المأكل ،والمشرب ، والملبس، والمسكن،والمأوى، ولعلكم سمعتم عن أغنى كلب فى العالم الذي ورث عن صاحبته الثرية الملايين من الدولارات فضلًا عن ممتلكاتها العقارية الواسعة بناءً على وصيّتها ! الأسباب والدواعي متعدّدة ، وبعضها مجهول، و وأخيراً قال ساخراً : ومن يدري قد تحمل إلينا الأخبارغداً أو بعد غدٍ، أو فى قريب الأيام أنّ بعض الكلاب قد دخلت مجلس العموم البريطانيّ أو شاركت فى اجتماعات البيت الأبيض.!
ومع ذلك فيها عيبٌ واحد
وأفاد وأفاض المُحاضرُ فى سرد أطرف القصص والحكايات عن الكلاب، وعدّد مزاياها ، وفوائدها ، ومناقبها ،كما أفاضَ فى وفاء الكلاب وإخلاصها لصاحبها وووو…وفى آخر محاضرته ..توقّف المحاضر قليلاً، وصار يُحدِّق النظرَ فى رئيس الجلسة وفى أعضائها الذين لم يُحسنوا وفادتَه،وإستقباله بل إنّهم تحدّثوا عنه بإجحاف حين قدُومه ووُصوله إلى هذا البلد ونزل عليهم فيها ضيفاً … فقال فى إصرار ليتمَّ، وَيَختِمَ محاضرته وهو ما فتئ ينظر إليهم جميعاً بإمعان : ولكن يا سيّدي الرّئيس على الرَّغم من كلّ ما قلته وعدّدته فى الكلاب آنفاً من مزايا، وسجايا، ومحامد ، وخصالٍ إلاّ أنّها فيها عيبٌ واحدٌ مُسْتهْجَن ..كَونُها تنبحُ على ضيوفها ..!!
*************************************************************
*كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.
تعليقات الزوار ( 0 )