انتقلت لعبة كرة القدم منذ عشرات السنين إلى إيديولوجيا قائمة بذاتها، تستغل محليا وإقليميا وقطريا ودوليا. فـ «الفيفا» هي في العمق من الشركات العابرة للقارات، حيث نجد حجما ماليا يضاهي أعتد الشركات العالمية، بل يفوق أغناها. وبحكم تنظيمها الداخلي الأممي، فإنها تستمد مشروعيتها من مشروعية الأمم المنظمة لها والقابلة لقراراتها. وبالنظر إلى الأموال الطائلة التي تديرها وتصرفها، فقد أصبحت قوة اقتصادية تفتح آفاقا رحبة للمستثمرين، بل تخلق مناصب شغل لا حصر لها في ميادين مختلفة، ابتداء من صناعة الكرة الجلدية المدورة، إلى ملايين الدولارات التي تُصرف على بناء الملاعب وأجور المدربين واللاعبين وحقوق بث المباريات، بل وحتى شركات القمار المختصة. وبما أنها مؤسسة على المال، فإن «الفيفا» هي البنت الشرعية لليبرالية السوق، المتحكمة حاليا في العالم ومصيره.
إن كرة القدم، باعتبارها أيديولوجيا، تؤدي وظائف لا حصر لها، ولا يقتصر المرء على استثمارها كأيديولوجية مالية/تجارية. فهي أيديولوجيا دينية، طبقا للكثير من الباحثين، لم تعوض الأديان الممارسة في العالم، أكانت صغيرة أو كبيرة، بل أصبحت هذه الأديان جزءا منها، ويتضح ذلك في مثالين بسيطين: صلاة ودعاء وتضرع «المؤمنين»، المختلفين دينيا وعقائديا عندما يكون فريقهم يلعب أو سيلعب مبارة ما -تشجيع كرة القدم غير المباشر على التعددية الدينية- ، وإعادة إحياء، أو إيقاظ، بقايا الدين الأسطوري الخيالي في بشرية اليوم: التعاويذ والشعوذة والسحر إلخ. كما أن ملاعب كرة القدم، أصبحت في العمق كنائس ومساجد وأماكن عبادة بطقوسها الخاصة وكلمات سرها. وفي هذه الوظيفة الدينية لقرة القدم، تقبع وظيفتها التي تهمنا في هذا المقال، أي مساهمتها الفعلية أو المُتخيلة في بناء الهوية.
تذكرنا ملاعب القدم اليوم بحلبات الصراع الروماني- الإغريقي، حيث كان المتصارعون يمثلون مدنهم أو دوائرهم الثقافية والجغرافية. لم يكونوا يخرجون من الحلبة إلا وهم منتصرون أو ميتون، يعني أن الدفاع عن الهوية الخاصة كان يحمل في طياته أيضا خطر الموت، وحتى وإن كان هذا الخطر في كرة القدم الحالية غير جسدي، إلا أن الفريق الذي يخرج من مبارة ما خاسرا، يُقتل معنويا، وما دموع اللاعبين حسرة على إخفاقهم إلا تمظهر بسيط على الخوف من هذا الموت المرعب. يُهاجم الفريق ولاعبوه، وتأتي الضربات من كل حدب وصوب، مصحوبة بالشتم واللعن، لأن الدفاع عن «الهوية» الوطنية لم يتم من نخبة تمثل كل الشعب، وتتقاضى أكثر من الشعب. هؤلاء الجنود المحترفون يشبهون إلى حد ما الجنود الحقيقيين، الموكول لهم حماية حدود البلد. إذا كان البكاء في حالة الخسارة تعبيرا عن خيبة أمل مقرونة بحزن، فإنه يحدث على الصعيد الشخصي والجماعي نوعا من تذبذب الذات، بما أن الخسارة مقرونة ذهنيا بالسلب، ويعتبر هذا الأخير تهديدا للهوية.
يلعب البكاء، من ناحية أخرى، وظيفة مهمة عند المنتصرين، فهو تحليل نفسي وتخلص من «السلبية Negativität“، أي من الخوف من الهزيمة ومن شماتة الشامتين، وتحرر من الإخفاقات الداخلية بالنسبة للاعب، وتحرر جماعي من سلبيات لا حصر لها للمجتمع عامة. وحتى وإن كان هذا التحرر مؤقتا، لحظويا، إلا أنه جد مهم بالنسبة لإعادة النظر في الهوية الشخصية والوطنية والقطرية، كما حدث حاليا مع تأهل المغرب لنصف نهائي كأس العالم في قطر. أصبح فريق المغرب بقدرة قادر رمزا لنجاح الأفارقة والعرب، بل لمجموع العالم الثالث. تخطت هذه الشعوب عقدة النقص والضعف وقصر اليد والإحباطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتتماهى مع فريق لم يحسب له المرء أي حساب، بل لم ينتبه حتى لحضوره في „المونديال“. ومن هنا بالضبط تنبثق „الملحمة البطولية“ الأسطورية، ذلك أن البطل الحقيقي هو الذي „ينبثق“ متحديا كل ظروفه الخاصة، بما فيها وضعه المأساوي المهمش. فتقمص صفة „المغربية marocanité» من طرف بشر مختلفين في كل شيء: أمازيغ، عرب، كرديين، مسيحيين، يهود، مسلمين، سود، بيض، صُفر إلخ، هو في العمق تعبير عن عطش «الإنسان المقهور» إلى إعادة بناء هوية جديدة، وهي ممكنة، كما تُبرهن على ذلك مباريات إقصائيات كأس العالم، إن توفرت الشروط في الحاكم (المدرب) والشعب (اللاعبين). هذه العلاقة الوثيقة، حيث تكون الثقة هي المحرك الذي لا يتحرك بين الحاكم والمحكومين، وحيث لا يعد (المدرب) بجنة الخلود، بل يرسمها في باب الممكن، واشتغال (اللاعبين) طبقا لمؤهلات كل منهم بعزيمة وجلد وبمنطق وفلسفة الفريق المتراص، هو الذي يبني هذا الممكن، أي هذه الهوية «الضائعة» أو التي ضُيعت.
في حالة مشاركة المغرب الحالية في «المونديال»، تستمد الهوية قوتها من الغطس في الماضي أيضا، وللرمزية هنا مهمة لا يمكن الاستغناء عنها: في مباراته ضد الإسبان، كان حضور المعارك التاريخية مع جارتنا في الشمال حاضرا بقوة. فقد حضرت معركة الزلاقة رمزيا في أذهان المتعلمين من المغرب وخارج المغرب، كما أن معركة وادي المخازن واستسلام «القيصر رولاندو» للأمر الواقع وبكاءه على عدم انتصاره، يحمل رمزية قوية في طياته.
إن بناء هوية جديدة، قوية، نقدية، مسؤولة، على أعقاب كرة القدم غير ممكن من طبيعة الحال، لأن الأمر لا يتعلق بمباراة عمرها تسعون دقيقة ونيف، بل بمعركة طويلة الأمد، يُؤسس لها ويُشارك الشعب في هذا التأسيس وتتحقق العدالة الإجتماعية والإقتصادية والقانونية، ويصبح كل مواطن ملكا، ليشعر بمسؤوليته قبل المطالبة بحقوقه، ويستغني السياسي عن اعتبار نفسه متميزا، وله الحق في امتيازات بعينها، لأننا داخل الملعب نلهث جميعا ونتلطخ جميعا ونُجرح جميعا. إذا كان فريق كرة القدم الوطني في المغرب قد أعطى مثالا عن إمكانية بناء وطن شريف للشرفاء ومع الشرفاء، فعلى مسيري الشأن العام في المغرب الاستفادة من هذا الإنجاز لبناء هوية وطنية قوية. فما نحتاجه حاليا ليس هو بناء معامل صُلب وطائرات، بل في المقام الأول بناء هوية وطنية صلبة، نستطيع بمساعدتها رفع كل التحديات.
تعليقات الزوار ( 0 )