حين لاحظ البائع الشاب بجوار مسجد الحسين بالقاهرة لكنتي المغاربية، سألني هو حضرتك من أي بلد؟ أجبت: من المغرب، فراح قائلا: أحسن ناس، بس نحن من سيغلب، وليس الوداد. قبل أن أعقب، كان شاب مصرى قد تولى ذلك نيابة عني: المهم أن البطولة ستكون عربية أيا كانت النتيجة، فابتسمنا نحن الثلاثة.
حين دخلت إلى مصر لحضور مؤتمر الصحة الافريقي في نسخته الثانية ، وجدت أن لا حديث للناس وللنخبة ايضا إلا عن موقعة الدار البيضاء المنتظرة، أو هكذا خيل لي بعد أن صُيرت وداديا دون استشارتي… حتى حادثة سمكة القرش لم تكن لتستطيع شغل المصريين كثيرا عن تمني وترقب الفوز، فلـ”الأهلوية” كما يعلم القاصي والداني ذكريات ثخينة مع المنافس المغربي، خصوصا وقد زاد من قيمة المباراة أيضا في أعين كل المصريين ما حققه المنتخب المغربي بقطر وتحوله بها إلى أيقونة لمصر أيضا، ولكل بلاد العرب والمسلمين. لا غرابة إذن أن يتركز كل زحام القاهرة قبل المقابلة بساعات في البيوت والمقاهي ونوادي الأهلي. أنا الآن أكتب الأسطر الأولى للمقال قبل بداية اللقاء بساعة محاطا بشباب ومواطنين مصريين تعرفت عليهم للتو في مقهى بشارع هدى الشعراوي بوسط البلد. في القاهرة لا يخطئ المصريون التعرف الى المغاربة من سحناتهم فقط، فهم يميزوهم بقلوبهم لا يضللهم عن ذلك تشابه القسمات بيننا.
المقهى يغص بالشباب والنساء وحتى بالأطفال والعجائز. منهم حتى من ظل واقفا مرابطا قبل الموعد بساعات بانتظار النتيجة. قال بعضهم لي، إنه دورنا كي نفرح في إشارة إلى إنجازات المنتخب المغربي بقطر. لكنه كان يقر مع ذلك بصعوبة اللقاء على الأهلي. لكم يشبه الشعب المصري شقيقه المغربي في حب الساحرة المستديرة! هو مثلنا متيم بها. أصبحت لنا مثلما قال طه حسين عن التعليم مثل الماء والهواء.
لم يكن الوداد للحقيقة أعزل بالقاهرة، فقد كان له تقريبا نصف سكانها أو ينقص عن ذلك قليلا. مشجعو الزمالك، وما أكثرهم أيضا، كانوا يعلنون عن أنفسهم لا يهابون أحدا، كانوا يشهرون على الملأ تمنيهم الفوز للأفضل، ولو كان هذا الأفضل هو الوداد. لم أر من جهتي في ذلك نقصا في الوطنية، ولكن تعبيرا عن الغيرة من ضرة تنافسهم على حب القاهرة الجميلة الآسرة ولربما طريقة لإغاظة “الأهلوية” كي يتأجج الجدال. ما لاحظته أن الانتماء الكروي لدى المصريين لم يكن يصحبه تعصب مفرط ولا عدم تسامح ولا عنف. بل يصرف بأخلاق ومسؤولية. المصريون يحبون بلدهم، ويطلبون لها أن تبقى هكذا آمنة مستقرة بعيدة عن عبث المغامرين والفاشلين، فبدون أمن، لن تكون هناك كرة ولا رياضة، ولا تعليم، ولا صحة، ولا أي أفق بالمرة، قال لي أحدهم قبل المباراة: بلدنا جميلة، وعلينا أن نحافظ عليها. مصر صارت صمام الأمان الأول في محيط ملتهب تمزقه الفتن والصراعات في كل الدول التي على حدودها، ازدهار وأمن مصر صارا الآن من أمن العالم، هذا ما استخلصناه بعد أن تشعب بنا الحديث. كل هؤلاء الزملكاوية الذين قابلتهم يذكرون أشرف بنشرقي، والغريب أنهم يطلبون مني أن أبلغه السلام لكأنه جاري بالمغرب، يرد عليهم “الأهلوية” قائلين لي نحن أيضا كان لنا بدر بانون، هو زي ابننا. النقاش كان محتدما وأنصار الأهلي ينتظرون كما يقولون ضربة حظ شعارهم في ذلك “اديني الحظ، وارميني في البحر”. فجأة وجدتني ممثلا للمغرب، بل وحكما بينهم.
بدأت المباراة، ولقد كنت ربما المغربي الوحيد بينهم، لكني كنت أشعر كما لو أني أتابع المباراة من الرباط، كانوا خلوقين في تعليقاتهم، حتى لما سجلت الوداد، وظهر أن الأهلي سائر الى الهزيمة لا محالة، ساد صمت رهيب، لكنهم ظلوا على حبهم وعلى احترامهم للمغرب. لقد صنع لنا المنتخب بنجومه من أمثال الركراكي والنصيري وأمرابط مجدا وشأوا كبيريين بمصر وغيرها. أطفال صغار التقيناهم بالأزهر تتبعوني انا وصديقي د سعيد لزرق، والتقطوا صورا معنا، وهم يهتفون بأسماء بونو وحكيمي. أقر أن هذا المنتخب العبقري غير نظرتي للكرة ودورها بالنسبة للمغرب. الركراكي، ورغم انه أوجع الأهلي السنة الفارطة، يحبونه هنا بالقاهرة حبا لا يوصف. هو نجمهم أيضا.
للمصريين عدة نبال بقوسهم: إذا ربحت مصر، فذاك منتهى مبتغاهم، وهي أهل لذلك لأنهم يعتبرونها أم الدنيا، عبارة سيتمثلها كل من زار مثلي المتحف القومي المصري الجديد بموميات ملوكه وملكاته الاثنتين والعشرين، الذي يضاهي اللوفر بباريس، إلا أنه يتفوق عليه بكونه لا يعرض إلا العبقرية المصرية ذات الجذور الموغلة في التاريخ الدالة على أن مصر مهد للحضارة البشرية، بينما تعرض فرنسا ما سرقته من الدول الأخرى من تحف، وإذا فاز الوداد أو المغرب، يعود المصريون إلى انتمائهم العربي لينسوا ويفرحوا معك، إنها مصر ذات الأعماق والمجالات الحيوية المتعدة، عربية إسلامية، افريقية، شمال أفريقية، متوسطية. هذه هي مصر التي تشعر أن المصريين بصدد بعثها من جديد. ولذلك فنتيجة الفوز التي انتهت لها المقابلة مهمة للمصريين لأنها تشيع طاقة إيجابية إضافية، والكرة سجال كما يقال.
حين انتهت المباراة، قال لي صديقي المصري، حمدا لله أني خرجت عن إجماع العائلة منذ كنت شابا يافعا، وأدمنت حب الأهلي، تصور لو أني كنت زملكاويا لكنت ظللت أجتر الخيبة عشرين سنة، الزمالك لم يحرز الا كأسا واحدة منذ سنة 2001 في مقابل 10 كؤوس أفريقية للأهلي. نقلت كلامه للسياسة، وفهمت منه أن الشعوب العربية لم تعد تريد شعارات، ولا ترغب في مرجعيات منمقة خاوية الوفاض، بل تريد إنجازات حقيقية على أرض الواقع، أن ترى نجاحات وابداعات وسياسات تغير واقعها المعيش وتدفع بها نحو منصة النماء والتقدم، فهذا هو التتويج الحقيقي، وما الكؤوس الرياضية الا تمهيد لسبق يجب أن يتم في مجالات أخرى.
المؤكد أن القاهريين لن يناموا هذه الليلة، وأنهم سينتظرون عودة الأهلي على أحر من الجمر كي يفرحوا، والمؤكد أيضا أن الوداد شرف المغرب، وقام بأداء جيد، وأنه يتعين مع ذلك أن يستخلص الدروس الواجبة خصوصا بعد تعثره بأرضه في بطولة العالم للأندية بالمغرب وخسارته غير المتوقعة لهذه المباراة. في المغرب زخم رياضي وقوة دفع ولدها المنتخب، لكن نجاح المنتخب ينبغي له أن يتوطد أكثر على أقدام النوادي المحلية، حتى لا يصبح مجرد فلتة، تجب استدامة هذا النجاح. هناك صورة ملهمة للآخرين قد تشكلت لنا في أذهان الجميع، وهي تطوقنا بمسؤولية كبرى. مسؤولية أن نحافظ على هذه القوة الناعمة التي تهيأت لنا، بل وأن نعض عليها بالنواجذ وبالأقدام.
*طبيب وباحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )