شارك المقال
  • تم النسخ

العيسى: بناء الجسور بين المذاهب والفكر الغربي – مسؤولية أخلاقية أم قانونية؟

في محاضرته الأخيرة بجامعة هارفارد، تناول الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى موضوعًا ذا أهمية بالغة في هذا العصر، وهو “الدين والقانون: آفاق السلام ومواجهة الانقسامات المجتمعية”. من خلال هذه المحاضرة، سلط الضوء على ضرورة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية من جهة، وبين الإسلام والفكر الغربي من جهة أخرى. جاء حديث العيسى في إطار محاولة فهم العلاقة بين الدين والقانون، وكيفية تجاوز التباينات بين النصوص الدينية والتشريعات القانونية في المجتمعات التي تتميز بتعددية دينية وفكرية

أحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم هو الاختلافات المذهبية التي غالبًا ما تؤدي إلى الانقسامات الداخلية. رغم أن هذه الاختلافات الفقهية تعتبر مصدرًا للتنوع والغنى الفكري داخل الإسلام، إلا أن سوء إدارتها قد يؤدي إلى نزاعات تهدد وحدة الأمة الإسلامية. وهنا تكمن أهمية “وثيقة مكة المكرمة”، التي جاءت كمبادرة لرابطة العالم الإسلامي لتعزيز التفاهم بين المذاهب الإسلامية المختلفة. فهذه الوثيقة لا تهدف فقط إلى تجنب النزاعات، بل تسعى أيضًا إلى بناء جسر متين من الحوار والتفاهم بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، مؤكدًا أن القواسم المشتركة أكثر من الاختلافات.

لكن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في الحوار الداخلي بين المسلمين، بل في كيفية تقديم الإسلام كمنظومة فكرية وحضارية قادرة على التفاعل مع الفكر الغربي. الفكر الغربي الذي يتسم بالعقلانية والفردانية يقف في كثير من الأحيان على النقيض من القيم التي ينادي بها الإسلام، التي تعتمد بشكل أساسي على التوازن بين الحقوق والواجبات، وتقدير الجماعة بجانب الفرد. ومع ذلك، لا يعني هذا التباين استحالة الحوار بين المنظومتين الفكرية، بل هو دعوة لتعميق الفهم المتبادل.

وهنا يأتي السؤال: هل المسؤولية التي نتحملها كأفراد ومجتمعات تجاه الحوار مع الغرب هي مسؤولية قانونية أم أخلاقية؟ إن الفارق الجوهري بين المسؤوليتين يتجلى في أن المسؤولية القانونية تُفرض من قبل الدولة وتُحدد وفقًا لتشريعات محددة تتغير بتغير القوانين والأوضاع السياسية، بينما المسؤولية الأخلاقية هي مسؤولية ذاتية نابعة من ضمير الفرد وقيمه الدينية والأخلاقية. هذه المسؤولية الأخلاقية ثابتة، لا تتغير بتغير الظروف المحيطة، وهي التي يجب أن تشكل الأساس في أي حوار بين الإسلام والفكر الغربي.

المسؤولية الأخلاقية في الإسلام تحتل مكانة محورية، فهي تشكل جزءًا لا يتجزأ من القيم الدينية التي يدعو إليها الدين الإسلامي. الأخلاق في الإسلام ليست مجرد واجبات تُفرض من قبل السلطات، بل هي مبادئ سامية ترتبط بالعلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان ومجتمعه. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهذا يشير إلى أن الأخلاق هي جوهر الدين الإسلامي، وهي التي تضمن تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات في المجتمع.

إضافة إلى ذلك، فإن المسؤولية الأخلاقية تتجاوز المسؤولية القانونية في الكثير من الجوانب. فبينما تعتمد المسؤولية القانونية على قوانين تفرضها الدولة ويعاقب من يخالفها، فإن المسؤولية الأخلاقية تتطلب من الإنسان أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون. وهذه المسؤولية تشمل جميع جوانب الحياة، سواء كانت علنية أو سرية، وهي التي تجعل الفرد مسؤولًا أمام الله وأمام ضميره. ولذلك، فإن الفرد الذي يتمسك بالأخلاق الحسنة لا يخاف من القانون فقط، بل يسعى دائمًا إلى تحقيق رضا الله والتزامه بالقيم الأخلاقية.

ومن هذا المنطلق، يجب أن يكون الحوار بين الإسلام والفكر الغربي مبنيًا على أسس أخلاقية قبل أن يكون قانونيًا. فالغرب، رغم تقدمه القانوني، يعاني من تآكل في القيم الأخلاقية التي تدعم هذا التقدم. في المقابل، يمتلك الإسلام تراثًا غنيًا من القيم الأخلاقية التي يمكن أن تقدم للعالم نموذجًا للتوازن بين الأخلاق والقانون. ولكن لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا إذا تمكن المسلمون من تقديم هذه القيم بطريقة عقلانية ومدروسة، تجذب اهتمام الغرب وتفتح الباب أمام الحوار الفعال.

النقطة الأخرى التي يجب أن نأخذها في الاعتبار هي أن الحوار لا يقتصر على الجوانب النظرية فقط، بل يجب أن يتجسد في أفعال ملموسة. الأخلاق في الإسلام ليست مجرد تنظير، بل هي أسلوب حياة يجب أن يعكسه المسلمون في تعاملاتهم اليومية مع الآخرين. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”. إن الالتزام بالأخلاق في التعامل مع الآخرين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، هو الذي سيؤسس للحوار الحقيقي ويعزز التفاهم بين الثقافات المختلفة.

ومع ذلك، لا يمكننا أن نتجاهل أن هناك اختلافات جوهرية بين الإسلام والفكر الغربي، خاصة فيما يتعلق بالمسؤولية القانونية والأخلاقية. في الغرب، يعتمد النظام القانوني بشكل أساسي على الفردانية والحقوق الشخصية، بينما في الإسلام تتكامل المسؤولية الفردية مع المسؤولية الجماعية. ومن هنا، فإن الحوار بين المنظومتين يتطلب توازنًا دقيقًا بين احترام القوانين الغربية وتقديم النموذج الأخلاقي الإسلامي الذي يعزز القيم الإنسانية الشاملة.

في الختام، يمكن القول إن بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية من جهة، وبين الإسلام والفكر الغربي من جهة أخرى، يتطلب تبني مفهوم المسؤولية الأخلاقية كأساس للحوار. الإسلام يقدم نموذجًا فريدًا في هذا المجال، حيث يجمع بين القيم الروحية والأخلاقية وبين التشريعات القانونية التي تهدف إلى تحقيق العدل والرحمة في المجتمع. وإذا كنا نسعى حقًا إلى بناء عالم يسوده التفاهم والسلام، فإن المسؤولية الأخلاقية هي السبيل لتحقيق ذلك، لأنها تتجاوز حدود القوانين إلى ما هو أعمق وأسمى: العلاقة بين الإنسان وربه، والعلاقة بين الإنسان ومجتمعه.

في هذا السياق، يجب أن ندرك أن المسؤولية الأخلاقية ليست مجرد واجب ديني أو فلسفي، بل هي ضرورة إنسانية تساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتقدم الحضاري.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي