Share
  • Link copied

العودة من الموت.. والرجوع إلى الحياة !!

وأخيرا اقترب موعد الخروج من مصحة العزل الصحي بكوفيد ومغادرة المكان ولا اخفيكم سرا اصدقائي أنني سعيد وحزين ، سعيد لانني سأرجع  لأبنائي، وعملي  ومنزلي وزملائي الاعزاء الذين اكتشفت فيهم  ما كان مختبئا  العاطفية والروح الإنسانية  ولمهنتي ولزبنائي  ولردهات المحاكم والعودة  للحياة العادية الطبيعية ولكنني حزين لأنني ساترك هذا المكان الرائع ، الذي تلقيت فيه هذه النفحات الإيمانية الربانية  ، والتي غيرتني للابد ، فساخرج نسخة أخرى من سعيد منقحة ومزيدة ،  أسأل الله الثبات والإنتباه والإخلاص.

 لقد تعلق قلبي بهذه الخلوة والعزلة وقد قال سيدي ابن ابي عطاء الله  السكندري في حكمه ، ادفن نفسك في أرض الخمول فما نبت، من فكرة إلا في عزلة ، ولا تكن كحمار الرحى ينتقل من كون إلى كون ولكن انتقل من الكون الى مكون الاكوان.

لقد وجدت ربي هنا في هذا المكان ، فملأ قلبي بالإيمان ومنحني القوة  وأنا العبد الضعيف الخواف فيما سبق من ايام ، لكنه  أمدني بالمدد ،فلم اخف للحظة من الموت ، وقد ايقنت اننا كلنا يوما ما راحلون ، طال الزمن ام قصر ، وقد مات ابي وماتت امي ومات  هتلر  وصدام  ،  وإينشتاين  ، وعلمت ان هذا الوقت وهم ،  ولكن ورغم ذلك اؤكد للمرة الألف اننا بشر نصيب ونخطأ وان الله لم  يردنا ملائكة نعبده ونسبحه فقط ، بل اراد  ان نعمر الأرض  بالعمران وبالعلم والخير والعمل الصالح.

لن أنسى هذا المكان وبالذات الغرفة رقم 12  وبأثاتها  البسيط ،سريرين عاديين ومنضدتين ونافذتين تطلان على ساحة صغيرة بحشائش خضراء ، لقد اخذت الدواء لمة تفوق 14 يوما في الوريد باليد اليمنى والذي تعطل واخدث الدواء عبر وريد اليد اليسرى ، ولا زلت واخذت من الحقن ما لم آخذه في حياتي حقنة ضد تخثر الدم كل يوم. وحقنةالانسولين كل ثلاث ساعات او اربع ، ومع ذلك شكرت  الله ،  وكنت في غاية الفرح بهذه التجربة الفريدة  من نوعها ، والمؤلمة ، والتي كانت مفيدة لي وضرورية ، لأنها اضافت لي  الشيء الكثير.

واسمحوا لي فقد اثقلت عليكم  بذكر حالتي وباخباري لمدة  تزيد عن عشرة أيام ولكنني لم  اقم بذلك إلا لعلمي وتيقني من محبتكم  ، وأنكم  لم تقنطوا او تتأففوا ، أو تتبرموا   وتعرضوا. عني وما انا  إلا  انسان ضعيف لا شأن لي في هذا الكون ولا سلطة لي ولا قوة ،ولا مال ،وأنه  ستسطع شمس أخرى ويطلع نهار  آخر ،  بحضوري  او  غيابي وسيذهب الناس لاعمالهم واشغالهم  وينسواحشرة كانت تدب على الارض ، ومن اكون أنا في ملك الله وقد مات من هو أفظل مني علما وعملا وقد مات خير من طلعت عليه شمس ، حبيبي رسول الله ، قال الله تعالى :(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)صدق الله العظيم.

هذه المصحة الخاصة بكوفيد معزولة عن المستشفى ،  كانت معي عندما دخلت لها  تقريبا سبع حالات من الإصابات ، وحالات عادية اخرى ذهبت لقضاء الحجر الصحي  بمنازلها ، وعند اول يوم دخول لي ، توفيت امرأة  بسبب كوفيد. وقد رايتهم يحملونها وانا داخل في التابوت ،فقلت مع نفسي إنا لله وإنا له راجعون وتبت نفسي وقلت لا تخف كلنا راحلون يوما ما ، واوراقك يا سعيد غير سوداء وغير مبعثرة كثيرا ، وان الله يحبك فقد كان معك في محطات كثيرة فلا تخف  من الموت ، وفعلا لم اجزع وتوكلت على الله ، واستلقيت على السرير وبدأ العلاج ، وقد حدث انقلاب في حالتي من اليوم الأول فبدأت أشعر بالراحة وانخفضت الحرارة والحمى ، وبدأ حالي يتغير رويدا رويدا يوم إثر  يوم ، وفي اليوم الثالث اظن جاءت حالة أصابة لرجل في الخمسينات من عمره ، وقد كانت الممرضة المشاكسة الخلوقة  وهي شابة في العشرينات من عمرها  تأتي عندي وتطلب منى آلة حساب مستوى السكر لقياس سكر  ذلك المريض وقد اعطيتها ما طلبت ،لكنها جاءتني المسكينة على الساعة الرابعة ليلا وقالت لي بأسى وحزن ، لقد فعلنا المستحيل لكن ذلك الرجل الذي كان ينام في الغرفة رقم 13  بجانبي قد ، مات ، فحزنت عليه وطلبت له الرحمة والمغفرة ، وهناك حالة لسيدة اصيبت بكورونا رغم انها قد اخذت التلقيح الأول والثاني ، ففوجئت لما وقع لها ، ولهذا  لا  تتركوا التدابير الإحترازية والنظافة وغسل اليدين وتجنبوا  العناق والمصافحة الزائدة والتجمعات الكبيرة فكورونا ، لا زال يتجول في أزقتنا  واسواقنا ومقاهينا ، وهناك حالة لسيدة  تعرضت لكسر نتيجة حادثة سير ، جاءت للمستشفى وهي لا تعلم أنها مصابة بكوفيد ، وهي تتماثل الأن للشفاء.

لقد عشنا نحن المرضى حالات إنسانية ونشأت بيننا  علاقات اجتماعية واختفت بيننا الفوارق الطبقية والثقافية ، فكنا جميعا متساويين ، وانا عندما دخلت للمستشفى لم اتخذ واسطة ، ولم اتصل باحد. من أجل المساعدة واعتصمت يالله فأنجاني ، وقد كان للماجور والطبيبة والممرضين جزاهم الله خيرا ، دور كبير جدا ، وقد أخبرتني الدكتورة  مؤخرا  أنني  دخلت المصحة بنسبة 97%  من كورونا بجسدي في حالة حرجة ميؤوس منها ، ولم يخبروني حينها بحالي حتى لا انهار نفسيا ومعنويا ، وحسنا فعلوا ، واخبرتني ، كذلك ان حالي تحسن كثيرا وانه لم  يبق  في جسمي إلا نسبة 20% في تطور ملموس ، وقد  عدت فعلا  من الموت ، فاكتشفت أن الموت لا يكون إلا باجل وليس بمرض أو قوة  بعد اجتماع وتظافر  الاسباب والشروط  الموضوعية لكتاب الموت  التي وضع الله قوانينها  الطبيعية منذ الازل، وعلمت انه إنما لكل اجل كتاب ، وانه إذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون.

 كل الناس يخافون من الموت لانهم لا يعرفون مصيرهم ،ومآلهم. والمهم ذاهبون للمجهول  ولا يعلمون  هل هم من أجل الجنة أو النار ، ولكن إذا قويت العزيمة واستمسكنا بالله فإننا سنتغلب على الخوف ، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم :(ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ) صدق الله العظيم.

 لقد خرجنا من العدم وسنعود  إليه ولذلك قال الله تعالى :(كَیۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَ ٰ⁠تࣰا فَأَحۡیَـٰكُمۡۖ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یُحۡیِیكُمۡ ثُمَّ إِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [البقرة ٢٨].

 عيشوا حياتكم إخواني  وحققوا احلامكم وطموحكم  وخوذوا من الدنيا بنصيب ، وخذوا من الشهوات من  الحلال ما تيسر لكم  ،ولا تتورطوا في حب الدنيا كثيرا فهي ليست دار بقاء وقرار ولكنها دار امتحان وزوال مهما عشتم ،وطال عمركم ، وكانت  قوتكم.  فإنهاتختفي تدريجيا  من الشباب الى الكهولة الى الشيخوخة   فانتبهوا   الأن ، لأن  كل مرغوب فيه محزون عليه  وتفكروا اخواني حتى لا تندموا.

ولكن  مع ذلك لا تخافوا فما يفعل الله بعذابكم  إن انتم شكرتكم ، والله هو الرحيم وهو العدل المطلق فهو  ليس منتقم لهوى في نفسه وإنما  من أجل تحقيق العدل الالهي ، والله سيحاسبنا على أعمالنا  ،  من أجل إقامة الموازين والقسطاس المبين حتى لا يفلت الظالم  بظلمه ويأسى الضحية على ضياع حقه ، وحتى لا ينجو الفاسد بفساده، والشرير ، بشره ، ولا يجب ان نتخيل يوم الحساب تخيلتا ماديا دنيويا او أن الله شخص كبير يجلس على كرسيه زالجلادين والزبانية يجرون الناس من رؤوسهم. فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لأن ذلك العالم ليس على مثال موجود وقائمة ولذلك فهو غير معلوم  ، ففي ذلك العالم الغيبي لا يعلم احد الاشكال والطرق قال الله تعالى حكاية عن ذلك اليوم :(فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52).

لا اثقل عليكم  اصدقائي بكثرة الحديث عن الآخرة ، فكلنا يعرفها ، كما أن  الدنيا مهمة لانها دار. التزود. والعمل الصالح ومن خلالها وبها يحصل الناجون على مفازتهم.

سأخرج عما قريب وفي نفسي غصة ، وارتباط بهذا المكان وهؤلاء العاملين وهؤلاء المرضى ، واذكر. هنا في هذا المقام. ان الدولة قامت بمجهودات  جبارة ، في تجهيز المستشفى بأجهزة التنفس  التي تعمل ليل نهار ، وقد تم بناء محطة بقربي يعمل محركها بشكل دائم وقد انقذت أرواح عدة من الموت ، وقد علمت الفرق بين بلدنا وبلدان اخرى ، كالهند ، حيث كان الهنود في الطرقات يتسولون الاوكسجين وقد مات منهم الآلاف بسبب فقدان

سأخرج من هذه الخلوة الرائعة ، واعود لحياتي الطبيعية واعود انسانا عاديا ،كما كنت ولكن انسانا. منتبها ، غير غافل ، سأحسن من علاقتي مع الله والقيام بواجباته وعباداته ، ولن اغلب الشكل على القيم والمضمون ، فأنا أمقت وأكره التدين الزائف  المغرق في الشكلانية والتباهي والرياء ، واحب التدين المخفي الملاماتي  اي من اللوم وهو طائفة من أهل التصوف كانوا يظهرون أنفسهم على خلاف حقيقتها  حتى يكسرون  عجرفتها،، وكبريائها وأنانيتها ، من أجل تحقيق الإخلاص.

واذكر هنا في هذا المقام  حال العارف بالله بن عجيبة  العالم الشرعي والفقيه  المغربي  الذي تلقى العلم بالقرويين وقد اشتغل بالتدريس في مدينة تطوان لمدة خمس عشرة سنة. ـ  وهو صاحب تفسير البحر المديد  وايقاظ الهمم في شرح الحكم  والفتوحات الألهية ، كان راجعاً من فاس فأحب المرور على أحمد الدرقاوي في بادية بني زروال فالتقى بالشيخ محمد البوزيدي تلميذ الشيخ الدرقاوي فقال له: جعلك الله كالجنيد يتبعك أربع عشرة مرقعة.

وقد ذكر الدكتور عبد المجيد بن الصغير ، انه ترك  المظاهر والجاه وتوجه يتسول أمام أبواب المساجد حتى يقهر نفسه ثم  كان يوزع الأموال بعد ذلك على الفقراء ، ثم كان يحمل قربة من الماء ويدخل الأسواق وهو العالم  الفقيه ، يسقي الناس العطشى ، بدون مقابل.

نحن الان في هذا الزمن والعصر  لا نستطيع فعل ذلك لان لكل زمان منطقه وظروفه وحده الفكري ، ولكنها كانت تجارب عرفانية صادقة أنتجت عرفاء كبار كابراهيم بن ادهم وذي النون  المصري وشاعر. التصوف ابن الفارض. والشيخ الاكبر محيي الدين ابن عربي ، وكتابه الذي لم يكتب مثله و هو خلاصة معارف التصوف باعتراف الاولياء  كتابه الموسوعي الفتوحات المكية ، وفصوص الحكم. فكان بحق خاتم الاولياء ،  ومولانا جلال الدين الرومي وكتابه الرائع المثنوي ، والشيخ ابي مدين وغيرهم كثير ، .طبعا لا نستطيع الآن أن نكون  مثلهم  أو أن نعيش تحاربهم  ، ولكن سيكون جميلا ان نستحضرها ونستلهمها ، في زمن التسطح الفكري  والضلال والمادية . والدنيوية ،  والدهرية الدجالية الملحدة  التي لا تحتفل إلا باللذة ، والشهوة ، وعبادة الشيطان.

سأخرج بعد أيام قليلة وكلي امل في غد أفظل ، وتستمر الحياة بروتينها اليومي ، وانسى وينسى الناس ، لكن  كانت تجربة  غيرت حياتي من الداخل  ما احلاها وأغلاها ، من تجربة ، كنت فيها لمدة عشرين يوما في ضيافة الله الرحمان  وقد اكرم ضيافتي وغسلني وصهرني وازال ما في قلبي من  الشوائب والأردان والاوساخ  والوساوس وقد همس لي في وجداني وقال لي انا معك لا تخف ، اعمل واتخذ الاسباب وسارزقك  وارعاك  من حيث لا تدري ، ولا تنساني حتى لا انساك واقبل علي أقبل عليك ، واذكرني تجدني تجاههك.

قال الله تعالى :(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142).

وقال ايضا :(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ )صدق الله العظيم.

Share
  • Link copied
المقال التالي