قال المؤرخ الفرنسي والمختصّ في تاريخ الاستعمار والإعلام في فرنسا وشمال إفريقيا، آرثر الصراف، إن الرسائل المصادرة التي كتبتها نساء إسبانيات إلى رجال مغاربة منذ عقود، تكشف عن تاريخ من المحظورات خلال الحقبة الاستعمارية.
وكشف الصراف، الذي يدرّس في جامعة كامبريدج منذ 2017، ضمن مقالة له على شبكة الـBBC البريطانية، عن نماذج من الرسائل “المحظورة” آنذاك، نظير: “متى ستعود إلى إسبانيا؟”، حيث تم كتابة النداء اليائس بعناية على الصفحة الرئيسية، وهي علامة على مدى أهميته بالنسبة لكارميلا.
وكتبت من غرناطة عام 1944: “أخبرني أنك لا تنظر إلى أي امرأة أخرى”، لكن الرجل الذي كانت هذه الكلمات مخصصة له لم يتمكن من قراءتها أبدًا، ورسالة الحب الدولية هاته التي أرسلتها كارميلا لم تصل إلى وجهتها في المغرب.
وبدلاً من ذلك، انتهى بها الأمر مخبأة في الأرشيف الإسباني، ضمن مخبأ غير متوقع يضم مئات الرسائل الغرامية بين النساء الإسبانيات والرجال المغاربة، حيث تم الاستيلاء عليها بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين، وهي تؤرخ للعلاقات الحميمة المحظورة.
وبحسب الكاتب، فإنه ولعقود من الزمن، قامت السلطات الاستعمارية التابعة للحماية الإسبانية في المغرب بمصادرة هذه الرسائل البريدية بشكل منهجي، وكانت الصناديق مليئة بالكلمات العاطفية: “أنا مجنونة بك…”، كتبت امرأة من فالنسيا.
ويحتوي بعضها على صور فوتوغرافية تم إدراجها في رسالة تلو الأخرى، وهناك العشرات من الصور لنساء إسبانيات بتصفيفات شعر نظيفة لتذكير عشاقهن البعيدين بالشكل الذي يبدون عليه، حيث أرسلت إحداهن صورة لنفسها وهي تركب دراجة، وهي لقطة خالية من الهموم للحياة اليومية.
وقالت المؤرخ الفرنسي، إنه تم حفظها جميعها بعناية في مظاريف من قبل بيروقراطيين ذوي ضمير حي، ثم تم نسيانها وسط الوثائق الإدارية الروتينية، وقد تراكم الغبار عليها حتى تم العثور عليها ونشرها من قبل الأكاديميين جوزيب لويس (ماتيو ديستي) ونيفيس موريل غارسيا.
وتحتوي كل رسالة على لمحة محيرة عن العلاقة بأكملها، لكن كل واحدة منها تخبرنا أيضًا عن القمع الذي واجهته هذه العلاقات، إذ بذل المسؤولون الإسبان كل ما في وسعهم لجعل هذه العلاقات مستحيلة.
وكما جاء في أحد التوجيهات في عام 1937: “كقاعدة عامة، يجب منع الزواج بين الجنود المغاربة ونساء أسبانيات”، ومنذ عام 1912، طالبت إسبانيا بالسيادة على جزء من المغرب كمحمية، وقسمت البلاد إلى منطقتين، إلى جانب فرنسا.
وقاوم المقاتلون من الأمازيغ هذا الأمر، وكان أشهرهم في حرب الريف الطويلة والدموية بين عامي 1921 و1926، والتي شهدت تدمير الجيش الإسباني على يد القوات بقيادة الأسد المغربي، عبد الكريم الخطابي.
وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، كان هناك شريط طويل على طول شمال البلاد، من ساحل المحيط الأطلسي في أصيلة حتى الحدود مع الجزائر في الشرق، كان يخضع لإدارة فعالة من قبل إسبانيا وعاصمتها تطوان.
ومن القواعد العسكرية في هذه المنطقة، قام الجنرال فرانسيسكو فرانكو في عام 1936 بانقلاب ضد الحكومة الجمهورية، مما أدى إلى بدء الحرب الأهلية الإسبانية، ومع احتدام الحرب، تم فجأة إرسال آلاف الرجال المغاربة المجندين في الجيش الإسباني عبر البحر إلى إسبانيا للقتال إلى جانب قوات فرانكو.
وإلى جانب الجيش، انضم إليهم أيضًا الطلاب والتجار وغيرهم من العمال، وانتهى بهم الأمر بالعيش في جميع أنحاء البلاد، في المدن، فضلاً عن المواقع الريفية النائية، وفي نهاية المطاف، وعلى عكس العديد من الممتلكات الاستعمارية الأوروبية، تقع هذه المنطقة على مرمى حجر من إسبانيا نفسها عند أضيق نقطة لها في مضيق جبل طارق.
ومضى المؤرخ الفرنسي والمختصّ في تاريخ الاستعمار والإعلام في فرنسا وشمال إفريقيا، آرثر الصراف، قائلا: أينما ذهبوا، التقى الرجال المغاربة بالنساء الإسبانيات، وفي سالامانكا، التقت امرأة تدعى كونشا بنصار، وهو جندي مغربي متمركز في مكان قريب.
وكانت واقعة في حبه بشكل جنوني، وكتبت إلى رؤسائه للحصول على إذن بالزواج منه في عام 1938، لكن بالنسبة للسلطات الاستعمارية الإسبانية، كان لا بد من حظر مثل هذا الاتصال تمامًا.
وكانت الأوامر الرسمية تقضي بوضع “أكبر عدد ممكن من الصعوبات” لمنع هذه العلاقات “دون حظرها علنًا”، كما جاء في أحد الأوامر في عام 1937، ولم يجعلوا مثل هذه العلاقات غير قانونية بشكل واضح، وبدلاً من ذلك، طوروا سلسلة كاملة من الوسائل لجعلها مستحيلة في الممارسة العملية.
وعلى سبيل المثال، إذا وجدت امرأة تكتب لرجل مغربي، فسيمنعونها من دخول المغرب، وفي كثير من الأحيان، يمنعون الرجل المغربي من دخول إسبانيا، مما يجعل علاقتهم مستحيلة.
وفي عام 1948، تم اعتراض رسالة بين كارمن من سرقسطة إلى حبيبها عبد السلام في المغرب، ومنعت السلطات في تطوان على الفور كلاهما من العبور إلى الجانب الآخر، وفي الرسالة، قدمت كارمن أخبارًا عن ابنتهما، التي ستكبر الآن دون رؤية والدها على الإطلاق، ولم يأخذ المسؤولون الطفل بعين الاعتبار.
ويرى الكاتب، أن حكومة فرانكو، كانت كارهة للنساء بشدة، وسيطرت بشكل صارم على حركة النساء وقيدت حصولهن على العمل، كما رأت نفسها مدافعة عن الكاثوليكية، ولأسباب دينية، كان يُنظر إلى النساء المتزوجات من رجال مسلمين على أنهن “فاقدات للإيمان”.
لكن السبب الأكبر كان ما أطلق عليه المسؤولون “prestigio de raza”، “هيبة السباق”، ولكي يستمر الحكم الاستعماري، كان لا بد من اعتبار إسبانيا متفوقة على المغرب، وبما أن الحكومة فهمت الزواج على أنه خضوع المرأة للرجل، فإن أي زواج عبر الانقسام الاستعماري من شأنه أن يجعل المرأة الإسبانية خاضعة لرجل مغربي.
وأشار المؤرخ الفرنسي، أن هذا الحظر لم يكن خاصًا بإسبانيا: فالخوف من دخول النساء الأوروبيات في علاقات مع الرجال المستعمرين كان شائعًا في جميع الإدارات الاستعمارية الأوروبية.
وفي المنطقة الفرنسية المجاورة، أعرب المسؤولون عن رفض مماثل للعواقب السياسية لهذه العلاقات، ورأى الهولنديون في جزر الهند الشرقية والبريطانيون في الهند أن العلاقات بين النساء الأوروبيات والرجال المستعمرين أكثر تهديدًا من العكس، وقاموا بمراقبتها وفقًا لذلك.
وفي حين أن نطاق التدابير الرامية إلى تثبيط هذه العلاقات انتقل من الرفض إلى الحظر التام، فإن القاعدة الأساسية ظلت هي نفسها: مثل هذه العلاقات تشكل تهديدا.
ولفت الكاتب، إلى أنه عندما حصل المغرب على استقلاله عام 1956، أغلقت حكومة الحماية في تطوان أبوابها ونُسي معظم أرشيفها، وانتهى الأمر بمعظمها بالقرب من مدريد، في الأرشيف المركزي للإدارة في مدينة ألكالا دي إيناريس الجامعية، حيث تم نسيانها مثل معظم التاريخ الاستعماري الإسباني في أفريقيا.
تعليقات الزوار ( 0 )