منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، تنبأ الحسن الثاني بإصابة الحقل السياسي بالسكتة القلبية، وهو ما اضطره إلى التسريع بإنعاشه عبر تقنية التناوب، وهو التناوب الذي مر بمرحلتين:
1 ــ مرحلة التناوب المجهض الذي رفضت من خلاله الكتلة الديمقراطية الانخراط في مشروع الملك، وكان ذلك بقيادة أحزاب ذات خلفية سياسية وذات مشروع سياسي وذات خطاب سياسي وذات إعلام سياسي وذات كوادر سياسية، وكان ذلك بقيادة الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة رحمه الله.
2 ــ مرحلة التناوب التوافقي الذي نجح الملك في تحقيقه أواخر التسعينيات بقيادة الزعيم الاتحادي الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وهو تناوب ذو طعم سياسي وإن اختلفنا مع بعض تفاصيله.
بعد ذلك، عرف المغرب خروجا عن “المنهجية الديمقراطية”، ورفع حزب الاستقلال شعار “مولة نوبة”، وانتقلنا بعد ذلك إلى صباغة التقنوقراط بألوان سياسية، مرورا بوضع ورقة تضم لائحة أعضاء الحكومة في جيب الوزير الأول المعين على هامش حفل ديني، وهذه التمظهرات وما خفي وراءها تدل على أن الحقل السياسي كان فعلا في مرحلة الاحتضار في أفق انتظار مُخَلّص آخر من السكتة القلبية التي تحدث عنها الراحل الحسن الثاني.
قد لا نختلف حول مبادرة الحسن الثاني من حيث هويتها السياسية، لكن الجميع سيتفق بعد عقد ونيف على أن الإنقاذ الحسني لم يدم طويلا، وأن الحقل السياسي في حاجة إلى منقذ ومخلّص آخر، وبدل أن يتدخل القصر مباشرة كما فعل الحسن الثاني، أخذ زمام المبادرة رجل مقرب من القصر، وأنشأ ناديا سياسيا أزعج الجميع وأقلق الجميع وارتمى على أعتابه الكثيرون، ومنهم من ألبسه لبوس المنقذ المخلص، لكنه في الحقيقة لم يكن إلا “وافدا جديدا” أسهم في تعجيل موت السياسة بالمغرب حقيقة لا مجازا.
فمن حيث الأفكار، طرح المُخَلّص أطروحته السياسية التي لا تختلف عن أطروحة زين العابدين بنعلي، وهي أطروحة تعطي الأولية للتنمية على السياسة.
ومن حيث الممارسة، قام الوافد الجديد بعد نجاحه في البرلمان بممارسة الحصاد السياسي، فجمع البرلمانيين من كل جوانب القبة وضمهم أو انضموا إلى فريقه في عملية تُمعن في قتل السياسة التي حاول الحسن الثاني تجنيبها السكتة القلبية.
بعد ذلك، انتقل الوافد الجديد إلى تأسيس حزب سياسي مجموع من كل ألوان الطيف، لا يجمع بين مكوناته أي خيط ناظم، وهو ما حدا بمولاي إسماعيل العلوي (قيادي يساري) إلى وصفهم بالملاكيط، وهو الحزب الذي ما فتئ أن أظهر إلى الوجود زمرة من “السياسيين”، منهم من اغتنى بسرعة، ومنهم من صار ذا نفوذ أوهم من خلاله الأغيار أنه هو الدولة.
هذا الزلزال السياسي الذي ما فتئ المغرب يعيش تحت وطأة بعض هزاته الارتدادية، قدم شهادة وفاة للحركة السياسية المغربية، فانتقلنا من معارضة برلمانية شرسة وصلت إلى حد وضع ملتمس رقابة ذاتَ برلمان، إلى مرحلة سمعنا فيها المعارضة البرلمانية ترفع شعار “معارضة جلالة الملك” وَسْماً لها، ولم تتوقف عند هذا المدى، بل بلغت إلى أدنى دركات الممارسة السياسية حين اجتمع قادة “معارضة جلالة الملك” إلى تقديم شكاية للملك برئيس الحكومة آنذاك عبد الإله بنكيران. فهل ننعش السياسة بهذه الكائنات؟ أم نعجل بسكتتها القلبية؟
هذا الموت السياسي لن يستغله إلا بارونات المخدرات وبعض رجال الأعمال الذين لن يترددوا في الانخراط القوي في “الشكل” السياسي الفاقد للجوهر، فصار الفساد ــ في كثير من الأحيان ــ ممارسةً سياسية، وصار الفاسدون ــ في كثير من الأحيان ــ رموز العمل السياسي، بعد أن كان رموزه هم علال الفاسي وأحمد بلافريج والمحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد وبنسعيد أيت يدر وامحمد بوستة وعبد الرحمن بنعمرو غيرهم.
وهكذا، انتقل المغرب من ظاهرة اعتقال قادة العمل السياسي بسبب مواقف سياسية، إلى ظاهرة اعتقال قادة العمل السياسي بتهم الاتجار في المخدرات أو باقي مظاهر الفساد اللامتناهية.
في هذا السياق، سياق موت السياسة، تظهر جماعة العدل والإحسان لتصدر وثيقتها السياسية يوم 6 فبراير 2024، وهي الوثيقة التي أُبرزت في حفل نتوقف عند بعض ملامحه من خلال الآتي:
أولا: أعلن عن الوثيقة في لقاء/حفل حضرته ثلة من الفاعلين السياسيين والحقوقيين والدعويين والباحثين من شتى الألوان والمشارب، وهو ما يرمز إلى التعددية.
ثانيا: حضر اللقاء جمع من الصحفيين من مواقع مختلفة، وأتيحت لهم فرص طرح الأسئلة وأخذ التصريحات، وهو ما يرمز إلى العلنية في الممارسة.
ثالثا: تدوول في اللقاء خطاب سياسي متعدد الزوايا، بعيدا عن التهريج وتقطير الشمع على الآخر، وهي التقنية التي صارت عنوان اللقاءات والمهرجانات “السياسية” الراهنة، وهو ما يرمز إلى رقي الخطاب.
رابعا: إضافة إلى الخطاب السياسي، حضر موازاة معه خطاب فكري، وهو منعدم في غالب اللقاءات السياسية اليوم، وهو ما يرمز إلى العمق في الخطاب.
وبالرجوع إلى الوثيقة التي عممتها الجماعة رقميا وورقيا، نجدها لا تتحدث عن برنامج سياسي، بل تصر على تسميته “مشروعا سياسيا”، وهو المشروع الذي يظهر من خلال بنيته أنه نتاج جهد جماعي لكوادر التنظيم من باحثين وأكاديميين.
وبنظرة عجلى على الوثيقة، نجدها تتحدث عن “بناء الإنسان” و”تشييد مجتمع العمران الأخوي” و”المواطنة” و”دولة المجتمع” و”الدستور الديمقراطي” و”حكم المؤسسات”، وغيرها من المفاهيم التي تغيب عن كثير من التنظيمات المغربية، مما يدل على العمق الفكري للوثيقة والبعد الاستراتيجي للمشروع.
وبعد البنية المفاهيمية المشار إليها، نجد الوثيقة تتعدى كل الحدود المؤطرة للحركة السياسية المغربية، فتخصص جزءا منها رصدا واقتراحا للسياسة الأمنية والسياسة الدفاعية، وهذا لعمري اقتحام لعقبة غير معهودة في الحقل الحزبي المغربي.
وإذا حاولنا الاطلاع العمودي والأفقي على بنية الوثيقة، فإننا نرصد شموليتها من حيث التطرق إلى مواضيع شتى، مثل الضرائب والتنمية المستدامة والزكاة والتمويل الخارجي والأسرة والطفولة والتربية والتعليم والفلاحة والحماية الاجتماعية والفن والسياحة والرياضة والصحة دون إغفال مواضيع ذات الصلة بربط المغرب بالخارج، مثل ربطه بسلاسل الإنتاج العالمية مع الحفاظ على الاستقلال الاقتصادي، والتمويل الخارجي، والرأسمال الأجنبي، والتجارة الخارجية …
هذه النظرة للوثيقة تجعل المتتبع لهذا التنظيم يعتقد أنه ليس أمام تنظيم دعوي يتخذ الدروشة مسلكا، بل أمام تنظيم قادر على المشاركة والمطارحة، وأنه قوة اقتراحية ذات استعداد للانخراط في العمل المجتمعي الذي سمته الوثيقة في بعض مواضعها “نهوضا” و”تنمية” و”بناء”.
ومما يلاحظ على الوثيقة أنها لامست جوانب لا يقاربها أو يدانيها أحد، مثل “مراجعة السياسة الطاقية” و”تثمين استغلال الفوسفاط”، وغني عن البيان أن كثيرا من التنظيمات السياسية يتعاملون مع هذه المواضيع وأمثالها وكأنها طابوهات.
هذه المقاربة قد تفرض على منتسبي الجماعة نقاشات متعددة ذات صلة بالوثيقة، وقد تنأى بهم عن الخوض في نقاشات تؤثر سلبا على التنظيم، مثل ما أثير سنوات خلت حول موضوع الصحبة.
يبدو لي أنه يمكن تحقيب مسار جماعة العدل والإحسان عبر الآتي:
المرحلة الأولى: مرحلة الظهور، حيث كان التوجس منها ومن شيخها سيد الميدان، ولا أدل على ذلك الصراعات الفصائلية التي كانت الساحة الجامعية مسرحا لها، وفرض الحصار على القيادة إنْ إقامةً جبريةً أو اعتقالا.
المرحلة الثانية: مرحلة طرح المشروع متعدد الجوانب، وهو المشروع الذي كان يُطرح في شكل تآليف للمؤسس المرشد رحمه الله.
المرحلة الثالثة: مرحلة التواصل الحقيقي على أرض الميدان مع بعض اليساريين في سياق الربيع العربي وما بعده من لقاءات وندوات، هذا التواصل الذي ردم الهوة بين الفصائل، فانتقلت من الصراع/الطفولة إلى التعاون/النضج.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة أمس، أقصد مرحلة طرح المشروع التفصيلي العملي ببنوده وفصوله واقتراحاته العملية الواضحة البعيدة عن المؤلفات المطولة التي تتيه مقترحاتها وأفكارها بين ثنايا الفصول والمباحث.
تعد مرحلتا التواصل وطرح المشروع التفصيلي من أهم المراحل التي تمر منها جماعة العدل والإحسان، وقد أثمرتا إشارات حول الشركاء المحتملين، وهم:
أولا: الحركة الإسلامية، خصوصا حركة التوحيد والإصلاح، حيث لم تنقطع العلاقة بين التنظيمين رغم الإشكالات العميقة أو العابرة التي تؤثر على علاقتيهما.
ثانيا: القيادة التاريخية والحقوقية لحزب الاستقلال، وليس حزب الاستقلال في حلته الحالية، يظهر ذلك جليا في حضور مولاي امحمد الخليفة لبعض أنشطة الجماعة، إضافة إلى التعاون الذي يظهر بين بعض الوجوه الحقوقية للحزب وبعض كوادر الجماعة خصوصا من الجيل الثاني.
ثالثا: الحركة اليسارية والحقوقية، ويكفي أن لقاء أمس حضره كل من الأستاذ بنعبد السلام وأحمد السنوسي بزيز والمعطي منجب وخديجة الرياضي وفؤاد عبد المومني وآخرين.
ولو عدنا إلى التاريخ القريب، حيث كانت القطيعة شعار اليساري ــ الإسلامي، فإننا نعيش مع هذا التواصل الحاصل اليوم طفرة نوعية لا تكاد تجد لها نظيرا في عالمنا العربي الإسلامي، وهي نقطة ضوء مغربية، “ومن عجب كون المشارق من الغرب”.
هذا التواصل في حاجة إلى تعميق وتمتين، ولا أنجع في ذلك من عقد اللقاءات الفكرية والسياسية لطرح الأفكار بجدية وبدون أدنى مواربة من الطرفين، ولعل أول مبادرة تواصلية فكرية بين الجبهتين يجب أن تُعقَد حول موضوع “المرجعية الكونية” الذي طرحته الأستاذة المناضلة خديجة الرياضي وأجابها الأستاذ محمد الحمداوي، هذا الموضوع لوحده يحتاج إلى ندوة أو يوم دراسي، يُناقَش بمقاربة علمية غير إيديولوجية، وتتبلور من خلاله ورقة تسطر مخرجاته الفكرية التي تنبني عليها المواقف السياسية.
وختاما، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع جماعة العدل والإحسان وأطروحتها وتفاصيل مشروعها، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن ما قامت به أمس هو من نقط الضوء القليلة في راهننا، تستحق عليه الإشادة والتنويه، ولعل إرجاع النقاش السياسي إلى الواجهة ــ إن بقي في الساحة الإعلامية والفكرية من يعترف بالسياسة ودورها ــ يكون له أثر فعال في توعية أبناء هذا الجيل وتأطيرهم من خلال النقاش الفصائلي الذي يؤمن بالاختلاف التكاملي الباني بدل الاختلاف الصراعي الهادم.
تعليقات الزوار ( 0 )