اختيار العثماني لتصريف موقف المغرب من صفقة القرن اختيار موفق لعدة أسباب.
ينبغي أن نستحضر أولا أن سعد الدين العثماني سبق له أن شغل منصب رئيس الإدارة الديبلوماسية للمغرب، وأنه أمين عام حزب إسلامي يجعل قضية القدس إحدى اهتماماته الخارجية الكبرى، وله تقاطعات نظرية مع عدد من فصائل المقاومة الفلسطينية، إضافة إلى أن تصريحاته واتصالاته مؤخرا بُعيد صدور صفقة القرن، عناصر تؤهله لتصريف موقف المملكة بخصوص القضية بشكل دقيق لا لبس فيه.
عادة يستعمل رجال السياسة لغة شاسعة المعاني، يصعب على المتلقي تأويلها بشكل دقيق، لفهم الرسالة والمعنى المبتغى. خطاب السياسي المشبع بثقافة الإعداد للانتخابات ونتائجها، ولقاء الجماهير المتحمسة، غالبا ما يميل إلى إرضاء الجميع وإعطاء العبارات التي قد يؤولها كل على هواه، غير أنه يحمل في ثناياه معان مضمرة مستترة يمكن الكشف عنها بطرح أسئلة معهودة، من المخاطب بكسر الطاء: رئيس الحكومة وليس بصفته كأمين عام حزب أو أي وزير، متى خاطب وكما يقال المناسبة شرط: واقعة صفقة القرن وموقف وزير الخارجية غير الواضح الذي أثار الغضب؛ كيف: بلاغ رسمي عن طريق وكالة أخبار رسمية؛ ماذا: موقف رسمي مغربي من صفقة القرن؛ لماذا: لتوضيح اللبس ورفع الضغط وتصحيح موقف وزير الخارجية غير الواضح
غير أن تصريح رئيس الحكومة، سواء كتب له أو تشاور بشأنه، نظرا لحساسية وسيادية الموقف، والذي لم يكن بصفته الحزبية أو الشخصية ولم يكن بمناسبة لقاء حزبي أو تصريح إعلامي عابر على بوابة إقامته، بل كان بشكل رسمي جدا، وتبنته مؤسسة إعلامية رسمية وهي وكالة المغرب العربي للأنباء، لإعطائه الصبغة الرسمية على المستوى الداخلي والخارجي، كان بلاغا دقيقا ومصاغا بعناية فائقة.
تصريح يحمل نفس التوجه والموقف حول القضية منذ استقلال المغرب الذي رسخه الملك الراحل الحسن الثاني، وتوافقت عليه الحركة الوطنية والأحزاب السياسية وأيضا الرأي العام المغربي منذ ذلك التاريخ.
من أهم ما جاء فيه: “إن موقف الحكومة المغربية مما يعرف ب(صفقة القرن) ينطلق من ثوابت المملكة، ملكا وحكومة وشعبا، في تعاملها مع القضية الفلسطينية، ودعم الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه، وفي مقدمتها إنشاء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ورفض كل محاولات تهويد القدس والاعتداء على الحرم القدسي والمسجد الأقصى”.
تبنى التصريح نظام جملة ابتدأت بحرف ناسخ مشبه بالفعل يفيد التوكيد “إن”، التي تنصب المبتدأ وترفع الخبر. وللغة العربية مكر لا يعرفه إلا دهاقنة النحو. لم يكن البلاغ إنشاء إطناب لغوي حيث أوجز في اللغة وابتدأ بالتأكيد على موقف المغرب “مما يعرف بصفقة القرن”، بمعنى أن الرسمي المغربي لم يعترف بعد بها بشكل مباشر، وأن الموقف الرسمي المغربي الذي يعبر عنه العثماني لا يريد الخوض أبدا في تفاصيل الصفقة ولا يريد أن يناقش الموضوع، لأنها تحمل عيوب شكل أساسية سيوضحها رئيس الحكومة بعد هذه الجملة.
هذا عكس ما جنح إليه ناصر بوريطة عندما خاض في تفاصيلها على هامش لقائه مع وزير الخارجية البرتغالي، حينما قال إن المغرب “يسجل بعض عناصر التقاطع مع مبادئ وخيارات لطالما دافعت عنها المملكة في هذا الملف، ويتعلق الأمر على الخصوص بحل الدولتين، كما يتعلق بالتفاوض بين الطرفين كنهج مفضل للتوصل إلى حل، مع الحفاظ على الانفتاح على الحوار”.
هنا يبدو أن المغرب راجع بسرعة موقف وزير الخارجية، ودققه وأعطى للعثماني إمكانية تصريفه، نظرا للتشنج الحاصل لبوريطة مع مختلف المهتمين المغاربة بالموضوع بسبب تصريحاته غير الدقيقة.
وهنا سنوضح دقة الموقف المغربي الذي عبر عنه العثماني، المتناقض مع تصريح بوريطة عندما قال أننا لا يمكننا “أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين”، ذلك أن تصريح العثماني يقول العكس.
جاء في التصريح “إن موقف المغرب ينطلق من ثوابت المملكة، ملكا وحكومة وشعبا، في تعاملها مع القضية الفلسطينية، ودعم الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه، وفي مقدمتها إنشاء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ورفض كل محاولات تهويد القدس والاعتداء على الحرم القدسي والمسجد الأقصى”.
هكذا وضعت قضية فلسطين في نفس مستوى ثوابث المملكة، وهي الإسلام والنظام الملكي والوحدة الترابية أي قضية الصحراء المغربية. معتبرا أن موقف المملكة ينطلق منها، وأنها بذلك تعد امتداد للثوابت الوطنية، وأن هذا هو توجه الملك والحكومة والشعب، مما يؤكد على أن القضية من التوابث السياسية للمملكة.
أيضا عبر موقف المملكة على لسان رئيس الحكومة بشكل واضح ودقيق، على أن الدولة الفلسطينية التي يرجوها المغرب هي التي يسترجع فيها الفلسطينيون كل حقوقهم، وطبعا وبشكل ضمني حق العودة. وهي الدولة التي عاصمتها القدس الشريف. بذلك استعمل مصطلحات ذات دلالة دينية مستقاة من محبرة ولغة إمارة المؤمنين، “القدس الشريف” “تهويد القدس”، “الحرم القدسي”، “المسجد الأقصى”، باعتبار إمارة المؤمنين معنية بالدفاع عن هذه الأماكن المقدسة بمقتضى عقد البيعة، وبمقتضى الأعراف التاريخية والالتزامات الدينية.
في المقابل استعمل بوريطة مصطلح “القدس الشرقية”، هذا الناتج عن القانون الدولي بعد احتلال إسرائيل لفلسطين وللقدس، ولا يمكن اعتباره مفردة تنتمي إلى قاموس التاريخ والدين الذي استعمله العثماني.
بين الموقفين الأول للخارجية المغربية، والثاني لرئيس الحكومة، تسبح كميات كبيرة من المعاني والدلالات، تختلف فيها المدخلات والمخرجات، وتتفوق فيها الأصول الخطابية والعناصر اللغوية المغربية التقليدية في حمل المعنى السياسي السليم إلى المتلقي، على عناصر اللغة الوضعية المعلمنة والمنفصلة عن جذور المؤسسات الحاكمة، وذلك بهدف تجنيب المجتمع والدولة أي اشتباكات أو تصادمات أو إحراج أو قراءات مضللة غير منسجمة مع الحقيقة والواقع ومع التاريخ.
* باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )