إن اختيار مغاربة المغرب القروي و سكان الجبال والواحات والسهول والسهوب وضواحي المدن، و إن شئتم قلتم (مغاربة الحاشية السفلية)، وجعلهم من أولويات الطريق الرابع، هو اختيار نابع من الموضوعات الإشكاليّة المرتبطة بهموم هؤلاء المغاربة على اختلاف شرائحهم وفئاتهم وسياقاتهم المجاليّة والتاريخيّة والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو أيضا اختيار نابع عن قناعة و وعي فكريّ وسياسيّ يعي جيدا أن التقدم والتطور في المغرب رهين بالقضاء على واقع “الحاشية السفلية” المقصية من أبسط شروط العيش الكريم، وإدماج هؤلاء المغاربة في المجتمع وفي وطنهم، وتمكينهم من حقهم في مواطنة كاملة وفاعلة و مؤثرة.
من هنا تغدو مقاربة الطريق الرابع مقاربة عملية لمناهضة التفاوت والإقصاء والتهميش والحيف الممنهج ، واحتكار السلطة العملية والرمزية، في أفق رد الاعتبار الكامل لتاريخ التضحيات المسكوت عنها، و التاريخ الوطني النضالي المغيب، و كذا لكرامة الفلاحين الصغار والعمال الزراعيين ورعاة الغنم والصناع التقليديين والحرفيين، وعموم الشرائح الاجتماعية التي تزاول أنشطتها في القطاع الخاص أو في القطاع العمومي داخل تراب وجغرافية مغرب “الحاشية السفلية”.
ويعد هذا الاختيار قضية مبدئية ورهانا استراتيجيا من أجل خلق شروط التغيير الاجتماعي، والدفاع على وحدة الوطن بصمود كبير و استقامة عالية، لا تتوقف عند محطات التاريخ و سيرورته، بل تستحضر الراهن، وتستشرف المستقبل، مع رصد ، و توصيف ظواهر الاستبعاد الاجتماعي بعيدا عن الخطابات الأيديولوجية أو الدعوية المسيسة بالدين.
إنه تفاعل مع تقاطع أشكال الاستبعاد الاجتماعي الذي فرض على ملايين من مغاربة “الحاشية السفلية” المحرومة من مختلف الحقوق والفرص و الموارد الأساسية التي تمكنها من الظفر بنصيبها القانوني من الحقوق الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية والشغل والسكن، والحقوق المدنية كالمشاركة السياسية والديمقراطية، والحقوق الإنسانية الفائضة كالحق في الكرامة، حتى لا تبقى إلى الأبد تعاني من هذا الحرمان الذي يمنعها من المشاركة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية.
ويُقِرُّ الطريق الرابع على أن الاستبعاد الاجتماعي، يكثف من الهيمنة المتعددة الأبعاد ، ومن التفاوتات الاجتماعية – طبقية وتمييزية-، يخضع لها هؤلاء المغاربة في وطنهم.
مما يستدعي تأملا قانونيا، وتفكيرا اجتماعيا وسياسيا، وضرورة تشكل وعي ثقافي، و جيل جديد من المؤمنين بالمساواة بين المغاربة، بين مغاربة “الحاشية السفلية” ومغاربة الجهات الغنية والمدن المركزية الكبرى.
ففي واقعنا المعاش، و كما هو معلوم، فإن حالة المرأة في هذه الجغرافية تعتبر أكبر تجسيد لهذا التقاطع السلبي بين الأوضاع الاجتماعية -الطبقية و الجنس وكل أشكال الهيمنة الأخرى ، وهو ما تناولته العديد من الدراسات و كشفت عنه أبحاث وتقارير وطنية ودولية.
إن الطريق الرابع، يعتبر أن الحركة الفكرية المغربية تناولت في العديد من إنتاجاتها واقع “الحاشية السفلية” قبل الاستعمار، وخلال المرحلة الاستعمارية وما بعدها، وعلينا اليوم أن ننكب على استثمار خلاصاتها، المتعددة التخصصات، لفهم تعقيدات الهويات المحلية والجهوية، و مظاهر عدم المساواة الاجتماعية، وغياب العدالة المجالية والترابية من خلال نهج متكامل و موسع.
وانطلاقا من رؤيته النقدية العملية يدحض، الكريق الرابع، تأويلات ما تبقى من اليسار للصراع الطبقي في المغرب واختزاله في لوحات تقليدانية، منقولة لا تمت للواقع المغربي بصلة، كما يؤكد على أن التمايز الاجتماعي تزداد هُوَّتُهُ كذلك بين مجالين جغرافيين هما:الجهات الغنية والمدن الكبرى و مغرب مغاربة العالم القروي وسكان الجبل والواحات والسهول والسهوب وضواحي المدن الهامشية.
ويعترف الطريق الرابع بأن واقع هؤلاء المغاربة، موشوم بتعدد الممارسات القمعية الحكومية منها والسياسية ُ، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تكرس تكاثر التفاوتات الاجتماعية التي يجب مناهضتها، و اتساع رقعتها.
إن أشكال الهيمنة المسلطة على مغاربة ” الحاشية السفلية”، متعددة، مما يجعلها تغذي بروز هويات محلية معقدة، تكشف عن الموقع الاجتماعي الحقيقي لهؤلاء المغاربة، حيث لم تعد تلك المفاهيم الكلاسيكية، من قبيل التهميش والفقر كافية لتغيير السياسات الحالية، بل تحتاج إلى رجة مجتمعية خلاقة ينخرط فيها الجميع بأساليب إجرائية عملية حديثة.
و من هذا المنظور، فإن ما يطرحه الطريق الرابع، هو قضية تحرر مغاربة “الحاشية السفلية” ، و تخليصهم من قيود التمييز الاجتماعي، الذي بسببه يعاني هؤلاء من التفرقة ومن الانتماء الفئوي المبني على الفوارق الاجتماعية والمادية والجغرافية وحتى العقائدية والأيديولوجية.
وهذه الدعوة إلى التحرر هي التي لم يستطع ما تبقى من اليسار الجهر بها ، بل للأسف الشديد، هم أيضا من ساهموا في تكريس هذا الواقع المر لمغاربة “الحاشية السفلية”، بانفصالهم عنهم، فكرا وميدانا، و تركهم يعانون ظلما مزدوجا: ظلم الطبيعة والجغرافية، وظلم التمييز الاجتماعي المجحف.
إن الطريق الرابع، ينحاز سياسيا إلى اليسار المواطن المغربي فكرا و ممارسة، و يهدف إلى إقرار العدالة الاجتماعية و بلورة أنظمة خاصة بمناهضة التمييز الاجتماعي، وتحرير مغاربة “الحاشية السفلية” من قبضة السياسات الحزبية والمدنية والحقوقية والثقافية المركزية. إنه مشروع طموح، يؤسس لإنتاج معرفة متقاطعة بالواقع، تكشف زيف النضالات المركزية حول المساواة، و نظرتها التجزيئية و التفييئية للمغاربة.
فلقد أبان الواقع أن التوتر الذي تعاني منه فئات واسعة من مغاربة “الحاشية السفلية”، هو توتر ناتج عن صراعات وصدامات السياسات المركزية، المنحازة للطبقات المسيطرة المسؤولة على الواقع الحالي لهؤلاء المغاربة، الذين لم يجدوا من يدافع عنهم في المراكز التي صمتت عن نقل معاناتهم، و اختارت الانتصار لأبناء المركز لأغراض نفعية لا حقوقية.
وحرِيٌّ بالذِّكر أن الخصوصيات المجالية و الاقتصادية و الثقافية لهؤلاء المغاربة، تتطلب فحصها كإنتاج ديناميكي لعوامل تاريخية، يتم اليوم إعادة إنتاجها من خلال الحفاظ على أعيان القبيلة، وعلى الزوايا، و من خلال عالمين مختلفين حد التناقض في مغرب واحد: عالم مركزي تسيطر فيه علاقات الإنتاج الرأسمالية، وعالم “الحاشية السفلية” المخترقة من طرف العلاقات الرأسمالية، مع الحفاظ على علاقات انتاج ما قبل الرسمالية. الشيء الذي أدى إلى بروز حالة شاذة و وضعية شوهاء، أسفرت عن خلق فئات وشرائح واسعة منبوذة مجتمعيا، ومحرومة من الحقوق الأساسية، كالحق في تعليم جيد، والرعاية الصحية والعمل المنتج والسكن اللائق وفضاءات الثقافة والترفيه والتسلية والرياضة، و أضحى التعامل معها يتم بالشفقة، باعتبارها فئات ناقصة تحتاج للصدقة (السكر والزيت والألبسة والأفرشة والأدوية والادوات المدرسية ولعب الأطفال)، و قفة المناسبات، و رميد الكوارث.
إن الطريق الرابع، يعتبر اللجوء إلى توزيع ” المساعدات” بهذا الأسلوب المنحط في التعامل مع مغاربة “الحاشية السفلية”، هو محاولة للتهرب من معالجة الأسئلة الاجتماعية الحقيقية الكلية والجزئية، من خلال النظر في تداخل أشكال الهيمنة الطبقية لفهم آثار عدم المساواة على حياة الأفراد والجماعات التي تنتج بها هذه التقاطعات هويات مختلفة و متخلفة عن ركب التحديث والحداثة. كما يعتبر الطريق الرابع، أن هذا الأسلوب في التعامل الرسمي مع مغاربة “الحاشية السفلية” هو ماكينة خطيرة لإنتاج الظلم الاجتماعي وتنظيم وصيانة التفاوت الاجتماعي الذي يناهضه الطريق الرابع منذ نشأته عام 2017.
إن المغربي الذي ينشأ و يترعرع، و يكبر، و يشتغل في المغرب القروي و الجبل والواحات والسهول والسهوب وضواحي المدن، يعيش استبعادا اجتماعيا أقسى مما يعيشه المغربي في الجهات الغنية والمدن الكبرى.
إنها معاناة واحدة، لكن درجة بؤسها تختلف. فالأول معاناته مزدوجة تنشأ منذ المراحل الأولى التعليمية المرتبطة ببناية المدرسة والمدرسين والإدارة، وأقسام الإعدادي والثانوي، ثم التعليم العالي لمن استطاع إليه. بالإضافة إلى طبيعة التربية والتكوين والمعاناة البدنية و النفسية الناتجة عن الإهمال التلقائي والمتعمد، وكذلك الشعور ب”الحكرة” من ممارسات ساخرة، وتعابير وألفاظ جارحة تتعلق باللون أو اللهجة أو اللباس أو الانتماء الجغرافي، أو بسبب ممارسات بعض العادات والتقاليد المحلية. و ما ينتج عنها من أشكال تسلطية وتأديبية وهيمنية يتعرض لها أبناء مغاربة “الحاشية السفلية” خاصة البنات منهم.
.
إن الطريق الرابع، منذ تأسيسه اختار أن يكون نهجا للنضال من أجل الاعتراف بالهويات المتعددة والمتغيرة، الناتجة عن العمليات الديناميكية المرتبطة بالحق في السلط والحد من هيمنة السلطة الواحدة ومؤسساتها المركزية، وتحرير هذه الهويات من السياسات الحكومية الجائرة التي تختزل المساواة الاجتماعية في التقسيم الترابي وما يترتب عنه من تفاوتات معقدة ومن تمييز متعدد الأبعاد.
كما يعتبر (الطريق الرابع) قضايا التنمية أهدافا ومحاور تقاطعية في رؤيته الاستراتيجية وخاصة قضايا تعزيز وضعية المرأة و الشباب و التمكين لهما.
وينبغي الإشارة إلى أن تنفيذ مقررات وخلاصات الطريق الرابع منذ انطلاقته بمناهضة التفاوت الاجتماعي، باتت قضية محورية يركز عليها الطريق الرابع بشكل أكبر، لتفكيك الديناميكية والعلائقية للهوية الاجتماعية لمغاربة “الحاشية السفلية”، من أجل الحد من استدامة التوتر بين الفاعلين المحليين والهيكل المركزي، و كذا البحث عن أجوبة عملية لتجنب التفكير الطبقي الأحادي والتشجيع على الاندماج المثمر والفاعل في الوطن.
وكما لا يخفى فإن المنظومة التشريعية لا تزال تشكو من خلل واضح، يقلل من حماية مغاربة “الحاشية السفلية”، وذلك بعدم تجريم ريع الأعيان واستغلال الأطفال والنساء في الحقول الزراعية والمزارع الفلاحية من دون حقوق ولا ضمانات، وتزويج القاصرات، والحرمان من الماء ومن البنيات التحتية كالطرق والمواصلات و وسائل الاتصال.
و إذا كانت مؤسستنا الرسمية تعترف أن هؤلاء المغاربة يمثلون أزيد من نصف المجتمع، فلماذا نسلب منهم مواطنتهم عنوة في حين أنهم مغاربة مثل مغاربة الجهات الغنية والمدن الكبرى قادرون على العمل والإنتاج في محيطهم ومجتمعهم؟
لقد بات من الضروري القطع مع الدوغمائية الرافضة للاستبعاد الاجتماعي المزدوج الذي تعاني منه “الحاشية السفلية”، والاعتراف بالتسلسل الهرمي للامساواة على جميع الأصعدة، باعتباره نتاجا طبيعيا لهياكل اجتماعية تاريخية مختلة، متداخلة في بعضها البعض، أفرزت و تفرز تقسيمات طبقية في العملية الاقتصادية للإنتاج والاستهلاك في مناطق محرومة من الاعتمادات والمشاريع لإحداث نوع من التوازن الاجتماعي والاقتصادي، و النقلة النوعية داخل فضائها الجغرافي.
إن تحديد الأدوار الاجتماعية لمغاربة “الحاشية السفلية” من خلال اختلافهم الاجتماعي والهوياتي، بات قضية وطنية تستدعي تغيير جذري في المنظومة التعليمية لإدماج بناتهم وأبنائهم في منظومة تراعي خصوصياتهم عند التحصيل التربوي والعلمي والفكري، من دون إهمال أو تمييز، كما تستدعي حكامة أفضل في تدبير المجالات المؤسساتية مثل الاقتصاد والسياسة والمجتمع المدني، والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بالأصل الطبقي والجنس والثقافة.
.
أخيرا، و ليس آخرا، إن الطريق الرابع هو إطار ديمقراطي يسمح لنا برؤية الطرق التي تؤثر فيها المشاكل الاجتماعية على كل أفراد المجتمع المغربي عامة، وعلى أفراد مجتمع “الحاشية السفلية” خاصة، من أجل الحد من المعاناة والعزلة، وتفكيك واقعنا المعقد والمركب، وتحويل أفكاره إلى أدوات عملية يمكن أن تستخدمها المدافعات والمدافعون السياسيون والمدنيون والحقوقيون، للنهوض بثقافة حقوق المواطنة لمناهضة التفاوت الاجتماعي واللامساواة وعدم تكافؤ الفرص، ورؤية الصراع الطبقي من زاوية معاناة الناس من أضرار متقاطعة، تعمق الاستبعاد الاجتماعي والعزلة، لا من زاوية الاستغلال السياسوي الحزبي، و الاسترزاق من آلام الناس، و اعتبارهم مجرد حاشية تابعة مغلوب على أمرها.
*أستاذ باحث، فاعل مدني وحقوقي
وحدها مقاربة منذمجة وذامجة، تضع التهميش في وسط اهتمامها وتتعامل مع المغاربة في وضعية الحاشية بنوع من التمييز الإيجابي، وتدعم المكتسبات وتفعل الآليات وتقويها بتشاور مع المعنيين، قادرة على تقليص “تأثير الهامش”…
ما قلتموه جيد أستاذي في جانبه الفكري والتحليلي للواقع الذي يعيشه المغاربة اليوم في هذا الوطن؛
لكن تساؤلي أستاذ، ما هي السبل التي يمكنكم من خلالها المرور من هذا المشروع النظري إلى خطوات عملية ملموسة تتجسد في الواقع ؟! وتظهر نتائجها…