Share
  • Link copied

الطبقة الحزبية في المغرب والاستثمار في الفقر

لم تعد المغربية الحزبية، في جزء كبير منها، تخجل من الاستثمار العلني في الفقر. وكلما اقتربت المواسم الانتخابية وعلا صوت المعارك، قل منسوب التستر على هذه الممارسات التي يُلْغى فيها التنافس على قاعدة البرامج، وتعويضه بالتنافس على قاعدة “القفف” المقدمة لأوساط شعبية، المتأرجحة بين الفقر والخوف من المجهول. والواضح أن الدولة، في شخص رئيسها ملك البلاد، تنحو نحو تحرير الفقراء والفئات الهشّة من معادلات اشتراطية، تربط بين هشاشتهم وأصواتهم!

والمشروع المقصود هنا سيستفيد منه، في مرحلة أولى، الفلاحون وحرفيو الصناعة التقليدية ومهنيوها والتجار، والمهنيون ومقدمو الخدمات المستقلون، الخاضعون لنظام المساهمة المهنية الموحدة ولنظام المقاول الذاتي أو لنظام المحاسبة، ليشمل، في مرحلة ثانية، فئات أخرى، في أفق التعميم الفعلي للحماية الاجتماعية لفائدة كل المغاربة. وقد اعتبرته المنظمة غير الحكومية، أوكسفام، “مدخلا هاما لمحاربة الفقر، وخطوة إيجابية في مسار تكريس حق المواطنين وكرامتهم”.

وأمام إطلاق مشروع ضخم وثوري بكل المعاني، يسود شعور بأن الذي يحرّك جزءا من الطبقة السياسية هو “القرب” الذي يمنح العائلات الهشة والمحتاجة ضرورات العيش اليومي، ممثلة في “قفة” من لوازم الفطور والطعام، من زيت وسكر وحليب، ومشتقاته.

ومشروع الدولة الثوري، ممثلا في التغطية الاجتماعية الشاملة، وتخصيص مجهود مالي غير مسبوق في التاريخ المعاصر للمملكة، لفائدة الفقراء والمعوزين، يتناقض مع ما تميله الضرورات الاقتراعية الانتهازية، وتسييد منطق الإحسان على منطق مشاريع الحزب والقناعات الحزبية في إدارة التنافس الانتخابي. لم يعد أحد يعد الفقراء بالثورة، وكل ما يقدمه المحزبون كبرنامج انتخابي وإيديولوجي حاليا هو.. قفة. وقد طفت على السطح، في الآونة الأخيرة، مواجهاتٌ بشأن مشاريع إحسانية عابرة وموسمية، تبين أنها جزء من الاستراتيجية الانتخابية.

وفي وقت سابق، كان الهجوم يستهدف دوما حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، وأحيانا فئات الإسلام السياسي، غير المشاركة في العمل المؤسساتي، مثل “العدل والإحسان”، على استثمار الحاجة والفقر والهشاشة في توسيع قاعدتها السياسية والانتخابية على حد سواء. والارتباط بالقهر الاجتماعي، وتضمين سلوكها بخطاب القناعات الدينية، لتجييش المحتاجين ضد السياسات العمومية التي تعيق الانتباه إلى “المغرب العميق”، غير أن أحزابا أخرى لم تصمد للإغراء، واعتبرت أن أحسن طريقة لمواجهته هو .. الاستسلام له. هذه الأحزاب التي تملك الوسائل المالية الواسعة، والفائض من الرأسمال الاقتصادي، حولت الحاجة الاجتماعية إلى أرقام معاملات سياسية، لمنافسة أحزاب الإسلام السياسي، والاقتراب من الناخبين، قناعة منها بأن “تسليع” الإحسان انتخابيا هو ضمانتها في الفوز أو الحضور في المنافسة على الأقل، أمام زحف واسع لمقاطعة الانتخابات، أو العزوف عنها، كما يسميه المصطلح المغربي. وعوض تغذية الصراع الفكري، والاصطفاف الاجتماعي، بتنشيط الدورة الانتخابية والإقناع بالمشاركة فيها، وتعميق الانخراط العملي في تَنْخيبِ المجتمع والدولة، سقطت التكتلات السياسية في الخطاطة التي رسمتها حركات دينية تحولت إلى العمل السياسي. وصار واضحا أنها منافسة غير مقنعة، باعتبار أن الناس، على الرغم من فقرهم، يفضلون الأصل على الصورة، والأصل على نسخته مهما صاحبها من تجييش و”مسرحة” إعلامية! ويبدو أن الحزب المعني بالتنافس الإحساني، والذي يقود الحكومة، أصبح اليوم في وضع مريح، باعتبار أنه “أقنع” الآخرين بدخول معتركه، وبالشروط التي رسم بها رقعة اللعب منذ البداية.

والاستثمار السياسي في الفقر والحاجة، في مواسم بعينها كرمضان، أو فترات اجتماعية معروفة كالأعياد، يؤدّي، في حالات عديدة، إلى تركيب لوائح للمعوزين، يصبحون بين عشيةٍ وضحاها “مناضلين” في الأحزاب المعنية. وهو ما يطرح عمق الأزمة الانتخابية في المغرب، وأزمة الثقة بين الدولة والمجتمع! وتكشف الأرقام الحديثة أن نسبة الذين يثقون في الأحزاب والنقابات ومؤسسات الوساطة الاجتماعية والمهنية تصل إلى الحضيض، عندما يعبر 1% من الشباب عن رغبتهم في الانخراط في العمل السياسي من بوابة الانتماء إلى المنظمات المدنية! وهو ما يكشف، في الوقت نفسه، حدّة التنافس، باعتبار أن رقعة الجغرافية السكانية المعنية بالشأن الانتخابي ضيقة للغاية. وبالتالي، يصير التنافس محموما جدا، والحرارة مرتفعة بخصوصه.
ويعمق استثمار الفقر معاملا انتخابيا من أزمة الثقة، وقد سبق للملك محمد السادس نفسه أن تبرَّم من هذا الوضع، وذهب إلى حد رفع راية الشك إزاء طبقةٍ سياسيةٍ لا تبعث على الثقة. بل وصل الأمر، في خطاب للعرش، إلى أن صرخ في هذه الطبقة: “إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”. وقال الملك “من حق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟”.

وتتبادل الطبقة السياسية الاتهامات في ما بينها بخصوص المسؤولية عن إفساد العمل السياسي، وتزايد رقعة العزوف عن الانخراط فيه، وعن المشاركة في الانتخابات وفي الوقت ذاته، يحسم الملك النقاش بالقول “إن السبب في ذلك، بكل بساطة، أنهم لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل”. وتتبادل الطبقة السياسية التهم بخصوص المسؤول عن هذا الانحدار الرهيب لمعنى السياسة.

وإذا كان بعض الأحزاب قد رافع ضد هذه الموجات الجديدة، وضد الإحسان والمال الوسخ، مال يُصرف باسم الدين وآخر باسم الرأسمال الرديء، فإن اللعبة لا تخلو لدى كثيرين من نوع من الازدواجية المعتادة في الحقل السياسي المغربي، فبعض المال صار الحجة الوحيدة لخوض المعارك الانتخابية، والمعيار الوحيد في اختيار المرشحين، بدون الحاجة لا إلى برامج، ولا إلى توقعات فكرية أو اقتصادية، ولا حتى المناضلين ينتمون إلى أحزابهم، حيث قلَّ المجهود لاستقطاب عناصر جديدة، وذات مناعات فكرية وسياسية، ومنخرطة في تغذية التمايز السوسيو- ثقافي بين التيارات السياسية المتصارعة، فأحزاب المعارضة البرلمانية: الأصالة والمعاصرة، الاستقلال، والتقدم والاشتراكية، أعلنت، في بيان مشترك، “رفضها واستنكارها المبدئي لظاهرة التوظيف السياسوي للعمل الخيري والتضامني، كيفما كانت مُــيُــولُــهَ السياسية، في استمالة الناخبين، بأشكال بئيسة استقبلها الرأي العام بكثير من السخط والاستهجان”. وهي تتوجه بالنقد إلى حزب الحكومة الأول، العدالة والتننمية، والحزب الذي يعانده ضمنها، التجمع الوطني للأحرار، الذي يقوده وزير الفلاحة والصيد البحري والملياردير الشهير الذي يرِدُ اسمه ضمن لائحة أغنى عشر شخصيات في أفريقيا، عزيز أخنوش، وهو ما يعطي لهذا الانحراف الانتخابي، في لحظة دقيقة من تطور المغرب السياسي، كل الأبعاد التي نحن بصدد الكشف عنها، ويجعل قضية “القفة” الانتخابية مسألة جوهرية في صياغة المواقف والبدائل السياسية. أما اليسار، فقد اكتشف، وهو مندهش، أن قراءة “الرأسمال” لكارل ماركس لا تضمن مقعدا في البرلمان، وربما تكون مراكمة الرأسمال أفضل.

والحال أن واقع جائحة كورونا، وما بعدها، جدّد لليسار هويته الإصلاحية، وشدّد على صواب توجهاته في بناء الدولة العادلة والقوية بتوزيع الثروة العادل، وهي فرصته لإعادة عقارب الساعة إلى الدوران حسب ما راكمه من تراث اجتماعي وإصلاحي وتضامني، مبني على قناعاتٍ فكريةٍ لا تستسلم ببساطة لرأسمال الانتخابات المتوحش أو المتدين.

لقد سبق لجزء من الطبقة السياسية أن استثمر في الفقر، عبر شراء الأصوات، مباشرة وكما يحدث في سوق البيع والشراء، ولاقى مقاومة صلبة من المجتمع السياسي والناس، غير أنه تم تبييض هذه الممارسات بالإحسان، بعدما اكتشف الفاعلون الجدد في الحقل السياسي منجمه الذهبي في صناعة الأغلبيات.
ومن مفارقات المغرب الحديث أن مغرب السرعة القصوى أظهر تقدّما رفيع المستوى على مستوى “طاقم الدولة” من النخب الديبلوماسية والاقتصادية والأمنية والرقمية والدينية، مقابل تراجع رهيب في مستوى النخبة السياسية المنبثقة عن المجتمع عن طريق الوسائط التقليدية في التأطير السياسي.

Share
  • Link copied
المقال التالي