شارك المقال
  • تم النسخ

الطائفية في المجتمع الإسلامي المعاصر.. من المسؤول؟

غير خاف على المتتبع أن مجتمعنا الإسلامي المعاصر يعاني من فيروس الطائفية الذي ينخره من الداخل، وهو الداء الذي يصل إلى حد التكفير والتكفير المضاد، وهذا من الأدواء الحالقة، حالقة للدين، وحالقة للحضارة، وحالقة للسلم، وحالقة للتعايش.

قبل أن نقارب هذا الموضوع في راهنيته، أضطر لممارسة تقنية إخواننا السلفيين، وبالخصوص، تقنية الركون إلى السلف الصالح في قرونه الثلاثة الفضلى، وسأعتمد على نموذج الإمام البخاري (ت:256هـ).

والاعتماد على البخاري له قيمته من عدة زوايا، أهمها أنه أحد المراجع المتفق على جلالتها عند أهل السنة، وأن كتابه ارتقى إلى درجة الأصحية التي لا يدانيها كتاب آخر من كتب العلماء المسلمين عبر العصور.

كان الإمام البخاري كثيرا ما يعتمد في نقل الأحاديث التي يرويها في الجامع الصحيح على رواة من الشيعة، سواء كانوا من شيوخه أو من شيوخ شيوخه، ومنهم من كان شيعيا جلدا مُوغلا في تشيعه داعية له، مثل: محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي وعوف بن أبي جميلة الأعرابي البصري ومالك بن إسماعيل النهدي وعبد الملك بن أعين الكوفي وخالد بن مخلد القطواني الكوفي، بل منهم من كان يشتم عثمان بن عفان كعباد بن يعقوب الرواجني الكوفي.

لم يكن تشيع هؤلاء الرواة حائلا دون الرواية عنهم، كما أنه لم يحل بينهم وبين الإمام البخاري الذي شد الرحلة إلى بعضهم وجثا على الركب أمام مجالسهم، كما أن تشيعهم لم يفرض على علماء أهل السنة التنقيص من الجامع الصحيح، بل إن المغاربة كانوا يتوسلون إلى الله تعالى برجال البخاري دون تمييز بين شيعي أو ناصبي، وذلك في دعائهم المشهور: [اللهم بجاه النبي وآله، والبخاري ورجاله].

هذا الصنيع إن أردنا فهمه بموازين حضارية، ندرك أن الإمام البخاري كان رمزا من رموز التعايش والسلم وعدم الجنوح إلى التكفير، بل إننا قد نقف مشدوهين إذا رأينا كيف أن الإمام البخاري كان شديدا جدا على أبي حنيفة السني، ولم يستعمل شدته تلك على الرواة الشيعة. والأمر ذاته نجده عند أحمد بن حنبل المعروف بتشدده، فإنه كان يروي عن شيخه الشيعي محمد بن فضيل المذكور أعلاه، وكان يوثقه، ويروي عنه في المسند، وفي المقابل، فإنه كان شديدا على أبي حنيفة وكان يغلظ فيه القول ويجتهد في عدم التلفظ باسمه، وذات مرة حين اضطر إلى إيراد حديث يوجد أبو حنيفة في رجال إسناده، كنّى عنه وقال: أبو فلانة، وقد تعمد عدم ذكر اسمه كما حكى ذلك ابنه عبد الله.

إذن، نحن الأن أمام رؤية سلفية لا تعمد إلى تكفير الشيعة وإن غلوا، ولا تعمد إلى التبخيس منهم لأسباب مذهبية، فلماذا هذا التجييش المذهبي الذي نحياه الآن؟ وما أسبابه؟

هناك من ينسب هذا التحشيد الطائفي إلى الشيعة قولا واحدا، وهناك من ينسبه إلى شيعة إيران بالضبط، وهنا نتساءل؛ والسؤال هو الدواء؛ هل كان شيعة إيران يمارسون التحشيد الطائفي قبل ثورة الخميني أو بعدها؟
بالعودة إلى التراث الإسلامي المعاصر، فإننا لا نجد هذا الصراع المذهبي في مرحلة ما قبل الثورة، بل إن الأزهر وهو مرجعية دينية سنية أفتى بجواز التدين وفق المذهب الجعفري، وأنه مذهب إسلامي كالمذهب المالكي أو الحنفي.
وإذا تبين أن هذا التحشيد لم يكن قبل الثورة، لزم أنه حضر بقوة بعدها، وهنا يثار سؤال آخر، من الذي اشتغل بهذا التحشيد الطائفي؟ ومن الذي اتخذه وسيلة من وسائل الصراع السياسي؟

للجواب عن هذا السؤال، سأعتمد على الدكتور بشار عواد معروف، وهو مؤرخ عراقي، مهتم بتحقيق المخطوطات التراثية، واشتغل مستشارا لوزارة الأوقاف العراقية في عهد حزب البعث، وكلامه أعتبره حجة، لأنه شاهد على العصر بل فاعل فيه ومنخرط في أحداثه.

حكي الرجل في شهادته على عصره التي أدلى بها لفضائية عراقية، وهي موجودة على موقع اليوتيوب، أن الدولة العراقية البعثية لم تكن تحبذ الاتجاه الديني الإسلامي، بل كانت تحاربه، وحكى عن بعثيين فُصلوا من حزب البعث لمجرد أنهم كانوا يؤدون الصلاة، وبعد الثورة الإيرانية، تولى حزب البعث مواجهتها بالتحشيد الطائفي القومي، فكان يرفع شعار العروبة مقابل الفرس والصفويين، (وما كان يصلنا من مجلات عراقية شاهد على ما قاله الدكتور بشار).

واسترسل الدكتور بشار في شهادته مبينا أن الدولة العراقية اكتشفت أن التحشيد الطائفي القومي لم يكن مجديا، لأن الشارع الإسلامي كان متعاطفا مع ثورة الخميني واستمر على ذلك التعاطف ولم يتأثر بالبروباغندا العراقية، والسبب في ذلك أن إيران الثورة كانت تطرح الفكر الإسلامي المجرد، ولم يكن خطابها الديني خطابا شيعيا أو سنيا، لذلك كان الخطاب الإيراني مؤثرا جدا في الأوساط الإسلامية.

هنا نتوقف مع شهادة هذا الدكتور العراقي، حيث يركز على سلامة الخطاب الإسلامي الإيراني من الطائفية، وهذه شهادة خصم وليست شهادة موافق يمكن أن نعمد إلى تجريحها.

نسترسل مع شهادته، حيث يؤكد أن الدولة العراقية قررت الانتقال في صراعها مع إيران من التحشيد القومي إلى التحشيد الديني، وهنا ستدخل الطائفية المذهبية إلى الأمة، حيث قال بأن وزارة الأوقاف العراقية كانت تشتغل أثناء الحرب أكثر من وزارة الخارجية، فقررت وزارة الأوقاف سنة 1983 عقد مؤتمر لعلماء المسلمين المدعويين من كل الأقطار، وصاروا يركزون على الشذوذات العقدية للخميني ونظامه، ثم عقدوا مؤتمرا ثانيا سنة 1985 حضره أكثر من 350 عالم، وتطور هذا المؤتمر إلى أن صار منظمة “مستقلة” تحمل اسم: منظمة المؤتمر الإسلامي الشعبي، وكان الدكتور بشار عواد معروف أمينها العام، وكان قبل ذلك دينامو المؤتمرات العلمائية السابقة.

يشار إلى أن الدكتور بشار عواد معروف كان مرتبطا بالنظام العراقي مستخدما عنده، ومما قاله في موطن آخر أنه ألف أكثر من ثلاثة كتب باسم مستعار كلها ضد الشيعة والتشيع، لندرك مدى استعمال الخطاب الطائفي البغيض من قبل الأنظمة السياسية و”علمائها”.

من خلال الشهادة أعلاه الصادرة عن أحد خصوم إيران الثورة، يتبين لنا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تبدأ في التحشيد الطائفي ولم تستثمره ولم تتخذه وسيلةً للصراع مع الخصم العراقي أو غيره من دول الخليج، وأن التحشيد الطائفي بذرةٌ من بذور البعث العراقي إضافة إلى الوهابية السعودية التي كان شيوخها على أتم استعداد للاستعمال في هذه الحرب القذرة، خصوصا أن فتاواهم الطائفية التكفيرية ضد الشيعة كانت قبل ثورة الخميني، لأنهم استعملوها ضد شيعة السعودية أنفسهم، فما بالك بالشيعة الأجانب.

هذه الطائفية التكفيرية هي التي تطورت ونمت في المجتمع الإسلامية، حتى صرنا نسمع مقولات متخلفة مثل: هل يجوز الترحم على الخميني؟ هل يجوز الترحم على حسن نصر الله؟ وهل يجوز اعتباره شهيدا وهو الذي يسب الصحابة ويطعن في شرف أمهات المؤمنين ويقول بتحريف القرآن وغير ذلك من الأكاذيب؟ إلى آخر السردية التي روجت لها المخابرات العالمية وتلقفها العقل السلفي وروج لها على لسان شيوخ الدين بمسوح دينية مستعملين سلاح الفتوى، خصوصا أنهم على يقين أن الخطاب الديني هو الأسهل نفاذا إلى عقول العاطفيين، لأن كلام شيوخ الدين يؤخذ بالتسليم والإذعان دون تعقيب أو تعليق أو نقطة نظام.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي