على مدى السنوات الثلاث الماضية، تلقت فرنسا العديد من الضربات الموجعة في مستعمراتها السابقة بإفريقيا الغربية، حيث توالت الانقلابات التي أطاحت برؤساء كانوا أقرب إلى موظفين سامين بالكي دورسي، منهم إلى حكام بلدان تحظى بالعضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة.
ولعل آخر مشهد قد لا تسدل به ستارة النهاية على هذه التطورات المتلاحقة وغير المتوقعة، هو مغادرة السفير الفرنسي العاصمة النيجيرية نيامي بتلك الطريقة المخزية، بعد طول تمنع، وهو الذي كان قد نزل قبل شهور فقط، من منصة كان يحاضر منها ليحاول ضرب فاعل جمعوي نيجري لم يستسغ جناب السفير مداخلته.
قد يكون مبرر هذه التطورات دخول لاعبين جدداً، لا يجرون خلفهم ماضيا استعماريا في القارة السمراء، ويركزون على الجوانب الاقتصادية بجشع أقل، كما أنهم لا يتدخلون في الشؤون السياسية ولا يتاجرون بشعارات حقوق الإنسان، عكس فرنسا، التي ظلت دائما الحاكم الفعلي المسيطر على كل شيء، تتدخل في تعيين الحكام، ولا تقبل شريكا في نهب المقدرات التي لم تكن تلقي حتى بفتات منها لأصحابها وملاكها الأصليين، وفوق ذلك تقدم مواعظ في الديموقراطية وحقوق الإنسان.
لكن بالمقابل هناك أيضا، تخلي الحلفاء الغربيين التقليديين عن فرنسا في معركتها الإفريقية، بل تردد إعلاميا أن أمريكا هي من أجهضت الخيار العسكري لاستعادة الرئيس المطاح به عقب انقلاب النيجر.
وفي كل الأحوال، فإن فرنسا التي مجدت احتلالها لهذا البلدان بقانون قبل سنوات، وإن سحبته لاحقا، وعملت دائما على الهرب إلى الأمام لتفادي الخوض في ماضيها الدموي، اكتشفت في نهاية النفق أن هذا الماضي المخزي وغير المشرف سيطاردها إلى الأبد.
إن من قرأ مذكرات الجنرال ديغول، سيلاحظ أنه عقب دخول قوات هتلر إلى باريس، لم يكن همه الأول تحرير بلده ولا خوض معركة تخليصها من الاحتلال النازي، بل إن هاجسه الأكبر، كان الحفاظ على ما يعتبره “ممتلكات” الأمبراطورية الفرنسية، وهي في الحقيقة مستعمرات.
لقد كان خائفا فقط من أن يستغل الحلفاء، وخاصة بريطانيا، استسلام فرنسا لهتلر، للسطو على مستعمراتها خاصة في إفريقيا.
إن هذه الوقائع التاريخية التي مضت عليها قرابة ثمانية عقود، هي ما يفسر “فلسفة” فرنسا في التعامل مع مستعمراتها القديمة، بعد منحها استقلالا شكليا، عنوانه الرئيسي والوحيد هو تنصيب أنظمة عميلة، والاستمرار في الاستحواذ على مقدرات هذه البلدان التي تغرق شعوبها في الفقر والتخلف، مع أن ثرواتها الطبيعية تؤهلها لتحقيق تنمية ترفعها إلى مصاف الدول المتقدمة.
ومن المفارقات الكاريكاتورية، أن النهب لم يعد يقتصر على ما هو مادي صرف، بل إن فرنسا العظيمة، لم تستطع أن تنجب 11 لاعبا بدماء فرنسية خالصة، للفوز بكأس العالم، بل حققت هذا الإنجاز مرتين، بأقدام وعرق أبناء مستعمراتها السابقة، الذين لم تتوفر لهم في بلدانهم الأصلية أدنى فرصة لاستثمار مواهبهم، وقس على كرة القدم غيرها.
وإلى ذلك، هناك اليوم، شبه إجماع في أوساط المحللين والإعلاميين والباحثين الموضوعيين، وحتى بعض السياسيين المعارضين، على أن سبب اندحار فرنسا في إفريقيا -الوحيد ربما- هو شخصية الرئيس ماكرون، الذي ينفرد باتخاذ القرار في الشأن الديبلوماسي، ولا يقبل ولا يستمع حتى لآراء مستشاريه “الشباب” الذين عوضوا خبراء السياسة الخارجية في كواليس قصر الإليزيه.
بل إن بعض المصادر الإعلامية تداولت مؤخرا، أن هناك تململا، ليس فقط في الأوساط الديبلوماسية، بل حتى في الجيش، بسبب الكوارث التي تسبب فيها ماكرون ليس فقط في دول كانت تعتبر -تقليديا- حديقة خلفية لفرنسا على مدى قرون، بل حتى مع حلفاء تقليديين كالمغرب مثلا.
والغريب في الأمر، أن البوصلة الديبلوماسية الفرنسية يبدو أنها ضيعت جميع الاتجاهات، حيث يلاحظ أن إجراءات عقابية تتخذ ضد الشعوب، وحتى ضد فئات مرتبطة بفرنسا وثقافتها ولغتها (فنانون وطلبة..)، وليس ضد “الأنظمة” أو ضد الانقلابيين.
فالتأشيرات أصبحت سلاحا يطال حتى بعض خدام الفرنكوفونية المعروفين في المغرب وبعض الدول الإفريقية “المارقة”، مما يؤدي تلقائيا إلى مزيد من توفير الحاضنة الشعبية لـ”الأنظمة الانقلابية” التي تعتقد فرنسا أنها تعاديها.
وبهذا تكون حكومة ماكرون، قد فتحت جبهات خارجية إضافية، إلى جبهاتها المفتوحة داخليا، ضد هويات وثقافات وديانات ولغات، شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، وجدت نفسها فرنسية صدفة وبحكم الأمر الواقع، بسبب سياسة النهب الممنهج للمقدرات المادية والبشرية.
وأتوقع -من باب التبكيت لا التنكيت- أن تكون فرنسا أول دولة في العالم، تفرض على التلميذات كشف أجزاء محدد من أجسادهن تحت طائلة الحرمان من حقهن في التعليم.
وإذا كانت الشؤون الفرنسية الداخلية، لا تهمنا إلا في حدود انعكاساتها على دولنا ومحيطنا القريب، فإن السؤال الأهم يتعلق بما إذا كان هذا “الربيع الانقلابي الإفريقي” سيقود فعلا إلى تجسيد استقلال حقيقي هذه المرة، أم أنه سيكون مجرد حلقة في سلسلة ممتدة على مدى قرون، بحيث تكون محصلته، استبدال سيد أبيض بآخر أبيض أو أصفر أو أحمر، ومحتل قديم، بآخر جديد؟
هذا طبعا، إذا لم تعد فرنسا أصلا من النافذة بعد أن أخرجت من الباب.
نثير هذا السؤال، لأن بناء استقلال حقيقي، مسار شاق يتطلب تضحيات جسمية، خاصة وأن طرد السفير الفرنسي، أو قطع العلاقات معها، لا يعني التخلص من فرنسا، التي لها أذرعها النافذة في مختلف المجالات، من الاقتصاد والسياسة إلى الفن والثقافة، وهي أذرع مرتبطة روحيا ووجوديا بالمحتل السابق.
وعلى سبيل المثال فقط، فرغم أن العلاقات المغربية الفرنسية بلغت في الشهور الأخيرة مستويات غير معهودة من التأزم، ورغم الصلافة التي يتعامل بها ماكرون من ملك البلاد، ورغم التجند غير المسبوق لوسائل الإعلام الفرنسية بكل توجهاتها، للتهجم على رئيس دولة مستقلة وذات سيادة، إلا أننا لم نسمع حتى عن حملة فيسبوكية لدعوة أصحاب المحلات التجارية والخدماتية -مثلا- إلى نزع اللوحات التي تحمل كتابات فرنسية في مداخل محلاتهم.
وإذا كان هذا هو الحال في المغرب الذي له، في كل الأحوال، تاريخ عريق، وثقافة غنية ومتنوعة، وجهاز بيروقراطي عمره قرون، فما بالك ببلدان لغتها الرسمية هي الفرنسية، وكل ما ومن فيها مفرنس؟
تعليقات الزوار ( 0 )