سئل محمد بن عبد الكريم سنة 1924 من طرف صحافي إنجليزي على جيش عصري كبير وأنتم على قلتكم في العدد والعدّة؟
كان جواب الخطابي: “إن أيماننا بحقنا في الحياة الحرة وأخلاقنا، كانا يَعْدِلان كفة الميزان بيننا وبين الإسبان”. ويخبرنا التاريخ بأن انطلاق مقاومة هجوم الإسبان جرى بين 1 يونيو 1921 و22 يوليو من السنة نفسها؛ وخُتم بما اشتهر بـ”انتصار أنوال”.
وفعلا، من الناحية العسكرية الصرفة لم يكن هناك أدنى احتمال بانتصار المقاومين، بسبب وجود بون شاسع بين جبهة المقاومين ومسكر الإسبان، وعدم استعصاء إقامة أي مقارنة بينهما. ولا يزال هناك من يشكك إلى اليوم فيمن خطط ونفذ وأدار معركة أنوال، وحرب التحرير الريفية كلها، كما رأينا في حلقة سابقة.
ومن أجل اتضاح الأمور، هناك أسئلة بقدر ما تجتاح منا معرفة كيف نجح المقاومون بهزيمة الجيش الإسباني، تحتاج منا أكثر أهمية قوة الإيمان بالحرية وبقدسية الوطن. ذكر محمد بن عبد الكريم الخطابي، فيما يعرف بـ”مذكرات لارينيون” أن مقاومة الغزو الإسباني بدأ بأربع قبائل فقط، هي: تمسمان، وأيت توزين، وأيت ورياغل، وإيبقوين. قبل أن يتحمل معهم بعد ذلك “العبء ثلاثون قبيلة بمقاتليها وفرسانها”. (محمد بن عبد الكريم الخطابي، أوردها محمد أمزيان في كتابه “عبد الكريم الآخر، ص 130).
ومما هو معروف أنه لم يكن هناك اتفاق كامل بين أعيان القبائل وكبراؤها على مقاومة الاستعمار. وكمثال على ذلك، وجود معارضة قوية من وجوه قبيلة أيت ورياغل نفسها. وذكر محمد عمر بالقاضي، صاحب كتاب مذكرات “أسد الريف”، أن مؤتمرا انعقد بين العازمين على مواجهة اسبانيا بالمقاومة المسلحة وبين المعارضين، يوم 24 رمضان 1339هـ / أول يونيو 1921م في مكان يسمى تْمالقيتْ (أو ضْمارقيث بلسان أهل أيت ورياغل)؛ ، فسجل أنه “عند افتتاح المؤتمر اشتدت المعارضة لمواجهة إسبانيا وأظهرت الذي كان لا يُتصور أن يكون، حيث أنها اكتسبت أنصارا يفوق عددهم عدد المحاربين في محل رباط المجاهدين بتمسمان، (أُنشئ المركز الأول لرباط المجاهدين في مركز القامة (بقبيلة تمسمان)، وصاروا ينادون جهارا لا جهاد ولا دفاع (…) يجب علينا نحن قبيلة بني ورياغل أن نستسلم ونبقى بخير مع الدولة المهاجمة”. (أسد الريف، ص 108 من الطبعة الثانية).
وكاد الخلاف يصل بالفريقين إلى إطلاق النار على بعضهم البعض. غير أن اقتراحا بتأجيل المؤتمر إلى يوم الغد، ليلتئم في سوق أربعاء سيدي بوعفيف، الواقع بين أجذير وإيمزورن، أبطل سقوط القتلى بين الفريقين.
لكن أمرا آخر، لم يكن في الحسبان، حدث أثناء ليلة ذلك اليوم (ليلة الأربعاء) في مركز القتمة بتمسمان؛ وهو اقتحام سرية المجاهدين التي بقيت هناك “موقع ادهار أوباران” الذي احتله الجيش الإسباني. ووصل الخبر إلى المؤتمرين، الذين كانوا قد أجّلوا استئناف اجتماعهم إلى يوم الغد. الأمر الذي جعل الجميع يتوجه صوب جبهة المعركة في حركة متتابعة. (المرجع السبق، ص 110).
توجّه فريق المجاهدين لدعم رفاقهم في رباط المقاومة، ومنهم محمد بن عبد الكريم وعمه عبد السلام. أما الفريق الآخر الذي كان قد عارض بشدة مواجهة الاحتلال الإسباني بالسلاح، فتوجه بدوره إلى مركز القامة خوفا من أن تعيّرهم نساؤهم بقلة رجولتهم وشهامة الريفيين، وتعرّضهم لاستهزاء الأطفال بهم، ووصفهم بما يشبه ما وصف به الشاعر المؤرخ محمد بن الأعرج السليماني المتخاذلين أو المنصاعين لغرائزهم في يوم الملحمة بقوله:
“دع الفتيات تمرح في القصور *** ويمم مسعفا وادي النكور” (عباس الجيراري، تطور الشعر المغربي الحديث، ص 279).
ويبقى أن السر الأعظم في استجابة المواطنين لحماية الوطن والقيام بالواجب يكمن في وجود قيادات تتميز بالوعي التاريخي، والمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، والإيمان بحرية الوطن، قبل المناصب السياسية أو الامتيازات الإدارية والريعية، تتميز بحسن التقدير للأوضاع والأحوال، والتدبير للأمور بالحكمة. ومن أوتي الحكمة والرشاد احتضنه الشعب وخلدته أجيال التاريخ، ومن غرّته نفسه الأمارة بالسوء هوى إلى الدرك الأسفل من الوجود، تتقاذفه لعنات الأجيال والتاريخ.
أما كيف استطاع الفقيه محمد بن عبد الكريم الخطابي، بمعية مجموعة من وجوه القبائل (إمغارن) التي ذكرها في مذكراته، قيادة معارك مُثلث التحرر (دْهار أوباران وإغريبن وأنوال) في ظل الانقسام الذي كان منتشرا في الريف، وتحقيق انتصار بقلة قليلة من المقاومين الوطنيين، الذين لم يتجاوز عددهم، حسب مختلف المصادر، 500 مجاهد، على جيش إسباني عصري ضخم العدد والعدة، ويتميز بلوجستيك عصري منظم، ومجهز بأحدث أسلحة ذلك العصر؟
فمعروف أن الريفيين عاشوا كغيرهم من المغاربة في تخلف علمي واجتماعي وسياسي، بعد عصر الموحدين، كما عاشوا ضعف سلطة الدولة، أو المخزن، وغياب ضبطها للأمن والسلم في ربوع المغرب؛ المغرب الذي أطلق عليه والتر هاريس في كتاب له “المغرب الذي كان”. والأمن الذي كان يوفره المخزن المغربي، أمسى مجاله محدودا جدا، ويتمثل في شن السلطان، وأعضاء مخزنه حملات، أو حرْكات، أي الغزوات على بلاد السيبة. ويُعد السلطان الحسن الأول (1873 – 1894) مثالا لكثرة الحرْكات التأديبية للمناطق والقبائل. وقد يصح الوصف الذي يمكن أن ينطبق على بلاد السيبة هو، الكل يطبق شرع يده على الكل.
والسيبة كانت تشبه مرحلة “الريفوبليك: من حيث الأمن في الريف؛ وهي مرحلة تميزت بانتشار السلاح بين السكان دون رقيب، وقيام كل واحد بتنفيذ شرْع يده على خصمه. وكان تعلُّم فنون القتال والحرب من قبل السكان، أفرادا وقبائل، بقصد الدفاع عن أنفسهم بمثابة ثقافة سائدة بين السكان، في مقابل غياب سلطة الدولة الضابطة للأمن والضامنة للعدل.
ويشير الكاتب الأديب والروائي محمد محمّد خطابي في روايته “تحت ظلال أشجار التين والزيتون”، التي ينشر فصولها بمناسبة الذكرى المائوية لأنوال في صفحة “مئوية أنوال وأخواتها” على الأنتيرنات. ويظهر أن الكاتب استمد مرجعية روايته من الحكايات الشفوية المتوارثة بين أجيال الريف عن زمن أنوال، ووظفها في إظهار مميزات الجيل المعاصر للخطابي؛ حيث كان يتدرب على استعمال السلاح كسلوك فردي وجماعي، ولم يكن نتيجة لمرحلة “ريفوبليك” في الريف فقط، أو انتشار السيبة الأمنية في كل المغرب، بل أنّ تعلم الرماية كانت ثقافة رياضية ودفاعية في الوقت نفسه منذ الصغر. كما كان التدريب من اختصاص الآباء والأمهات كذلك. ويورد قصة أمّ أخذت على عاتقها أن تتولى “تلقين ابنها فنون الرّماية بالأسلحة النارية منذ الصّغر، … تضع له الأحجار فوق بعضها في تدريب يُسمّيه أهل الرّيف (ذحْجُورث)، وذلك بهدف تعليمه فنون الرّماية ودقّة التسديد، وكأنّ قلب الأمّ استشعر وتكهّن، … بالدّور الحيويّ الذي سيقيّض الله لهذا الفتى أن يضطلع به إلى جانب الزعيم محمّد بن عبد الكريم الخطابي، … والعديد من رفقائه”. وكانت المهارة في استعمال السلاح وركوب الخيل من أهم الرياضات في قرى الريف. حيث يمتطي الشباب في ملاعب معدة لذلك “صهوات جيادهم المسوّمة، وهم يتباروْن في فنون الفروسيّة في سَهلٍ فسيح … وهم يمتشقون بنادقهم على أكتافهم في إباء وخيلاء”. (الجمل المكتوبة بين المزدوجتين من الحلقة الخامسة للرواية، المنشورة على “صفحة مائوية أنوال).
*مفكر ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )