إضافة إلى المهارات القتالية لسكان الريف المكتسبة عبر أجيال مقاومة الغزو الإبيري. عاش الريف قبل انتصارات مثلث التحرر المتوج بأنوال، تجربتين، بل مفخرتين سابقتين في المقاومة: الأولى كانت ضد جيش الجيلالي الزرهوني (بوحمارة) الذي قرر إخضاع قبيلة أيث ورياغل لسلطانه في أواخر صيف 1908، لكي يتسنى له ترسيم سلطانه على الريف؛ فهُزم شر هزيمة في النكور – بوسلامة. الهزيمة التي كانت السبب الأكبر في نهاية مغامرته التسلطية لتثبيت نفسه سلطانا على المغاربة؛ وهو الأمر الذي قلما تتعرض له الكتابات المغربية. أما التجربة الثانية، أو المرجعية الأهم في مقاومة تمدد الاحتلال الإسباني المعاصر، ونهب ثروات الريف؛ وخاصة نهب حديد جبل أُيكْسان؛ فهي تجربة الشريف سيدي محمد أمزيان ما بين 1909 و 1912.
انطلقت المعارك الأولى للمقاومة بقيادة الشريف محمد أمزيان من معركة سيدي موسى في 9 يوليو 1909،، وتُعد معركة إغزر ن وُشّن بمثابة عودة الروح للتاريخ الفاعل لدى المغاربة؛ ففيها خسرت إسبانيا، وفقا لإحصائياتها الرسمية، 1046 قتيلا، بينهم الجنرال بينطوس و68 ضابطا من رتب مختلفة. (رشيد يشوتي، إسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان، ص 147 و 148).
وما يجدر التذكير به بأن انتصارات الشريف أمزيان ورفاقه لم تصدر عن الفراغ، بل كانت لها جذور في مقاومة أهل المنطقة ضد التمدد الإسباني، منذ الاستيلاء على مدينة مليلة. وآخر هذه الجذور تمثلها مقاومة سيدي ورياش 1893. وإذا كانت مقاومة سيدي ورياش مثلت مرجعة لمقاومة الشريف محمد أمزيان ورفاقه، فإن معارك الشريف أمزيان، وفي مقدمها معركة “إغزر ن وُشّن” أصبحت بدورها مرجعا لانتصارات أنوال.
ومن المعروف أن مقاومة أهل الريف للاستعمار كان لها صيت كبير في القارات الخمس، كما كان لها وقع إيجابي على الشعوب المستعمَرة التواقة إلى التحرر، قلما عرفته حركة تحررية في العالم قبل ذلك، وربما كان تَقْييم “شاين” الصحافي الأمريكي “فرنسا انتصرت، ولكن المجد يبقى للريفيين”. (نقلا عن مذكرات مالك بن نبي، ص 223)، تقييما معبرا عما جرى، ولأن مقاومة أهل الريف كان لها امتداد في مسارات التحرر العالمي. فهل كان الفضل في ذلك يعود إلى الحنكة العسكرية لقيادة المقاومة فقط، أم إلى ما يمكن تسميته بـ”مشروع مجتمعي شامل” مصاحب لحركة التحرر بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، واستحق أن يُطلق على ما حدث في الريف مصطلحا يحمل عنوان “انتصار المنهزمين”؟
وأثناء التنقيب والاستقصاء على الأسباب والدوافع التي أدت إلى انتصار أصحاب الايمان بوجودهم الحر في وطنهم، على غزو الإسبان، حضرتنا بقوة ما عبر عنه المتنبي في إحدى قصائده:
“على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتصغر في عين العظيم العظائم”،
رأينا أن ذلك الوصف كان مجسَّدا في المغاربة الريفيين، وفي تفاعل الحركات والشعوب الساعية إلى استعادة حريتها من الاستعمار، وتحقيق فعالية وجودها في الحياة، لأن الحركة التحريرية في الريف التي أكدت اصالتها وتميزها عما سبقها؛ بينت للشعوب المغلوبة على أنها قادرة على تجاوز واقعها المنافي لقيم الحرية والعدالة والكرامة، إن هي أدركت واقتنعت، كما اقتنع الخطابي، بأن سبب ضعفنا لم يكن سببه الاستعمار، بل أن الاستعمار غزانا نتيجة لضعفنا، الناجم عن جمودنا التاريخي أزمنة طويلة، بعد أن انسحبنا من حركية الحضارة، بإغلاق أبوابنا ونوافذنا أمام رياح التغيير. ولذلك لم يكن مفاجئا تعاطف وتفاعل أهل شمال إفريقيا في فرنسا (العمال المهاجرين) وتفاعلهم مع مقاومة الريفيين، فأسسوا، بعد التوقف المضطر للمقاومة، سنة 1927، أول جمعية أو حزب مغاربي في التاريخ المعاصر والراهن؛ ألا وهو “نجم شمال إفريقيا”. ويروي مالك بن نبي مظاهر من هذا التفاعل العمالي من داخل مقهى باريسي (في نصف العقد الثالث من القرن العشرين)؛ مقهى يرتاده العمال المهاجرون من شمال إفريقيا. (أنظر مذكرات شاهد القرن، ص 269).
وتفاعل في الوقت نفسه بعض الفرنسيين مع الأحرار كذلك. ونشير هنا إلى الحزب الشيوعي، الذي سخّر تجمعاته العمالية وجريدته، المسماة “الإنسانية L’humanité “، للتعبير عن تضامن الشيوعيين مع الأحرار في الريف. وفي مقابل ذلك تجندت فرنسا لتخويف الغرب الاستعماري من انتصار طلاب التجديد والحرية، فكتب قائد الاحتلال الفرنسي للمغرب، وحاكمه الفعلي، الجنرال ليوطي في أحد تقاريره، (كمثال) إلى دولته قائلا: “لن نسمح له (أي لعبد الكريم) بأن يكون مركز جذب لكل من يطمح إلى استقلال الغرب الإفريقي المسلم” (بيير ليوطى، نصوص ورسائل حول الثورة الريفية، ص 22).
مقاومة الريف والشاعر لويس أرغون
لكن لم يكن أمر التفاعل والتضامن مع حركة المقاومة وقفا على عمال شمال إفريقيا في فرنسا، وعلى الحزب الشيوعي الفرنسي فقط، بل أن تيارات فكرية وأدبية فرنسية عارضت الحرب على الريف كذلك، ومن أبرزها جماعة “السورياليين”، وفي مقدمتها الشاعر لويس أراغون، (تـ 1982)، الذي يعترف أن حركة التحرر الريفية ساهمت في تحريره من النزعة العدمية، التي كان منخرطا فيها مع صديقه “تزارا تريستان “Tzara Tristan، (تـ1963) في مجلة “داداDADA”. وبسبب التحول الذي ألحقته المقاومة الريفية بأراغون أضحي يعرف منذ ذلك الوقت بشاعر المقاومة، بدلا من انتمائه السابق لشعار الجماعة القائل “كفي من كل هذه السخافات، لا شيء أبدا، لا شيء، لا شيء (عصام محفوظ، شعراء القرن العشرين…، ص11).
حركة التحرير وتصحيح صور نمطية عن العرب
الواقع أن التفاعل الخارجي لم يكن وقفا على المناهضين للأمبريالية في فرنسا فقط، بل رأينا، فيما سبق، تقييم صحافي أمريكي لمكانة الريفيين في التاريخ، على الرغم من الهزيمة العسكرية أمام فرنسا. أما الكاتب والمؤرخ الإنجليزي، روبيرت فورنو، فيورد ما سجله الصحافي الإنجليزي “وارد برايس” بجريدة “الدايلي ميل”، الذي أجرى مع الأمير الخطابي لقاء وحوارا سنة 1924. ومن جملة ما جاء في استخلاصاته، أن الروائيين البريطانيين ظلوا عقودا من الزمن ينشرون أوهاما حول الشيخ المسلم أو العربي المتغطرس في التوحش، والقاسي الذي يخطف فتاة انجليزية جميلة، ويرغمها بسوط ذي قبضة ذهبية مرصعة على أن تحبه. (فورنو، عبد الكريم أمير الريف، ص 90). لاحظ برايس في سلوك الخطابي سلوكا مخالفا لما تعود عليه المخيال الإنجليزي، فقال: ” لم يكن (سلوكه) يومئ بأي استعداد همجي عنده، كان الانطباع الذي يعطيه بالأحرى انطباع البداهة الحاضرة؛ وكان في تصرفه الهادئ، البعيد عن الادعاء والتكلف، الشيء الكثير من الثقة بالنفس” (فورنو، المرجع السابق، ص 97).
*مفكر ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )