يحاول بعض المبررين لاستسلام المغرب الرسمي للاستعمار، ووقوفه ضد المقاومين الوطنيين، تأكيد مزاعم شيء اسمه “الأصالة أو الخصوصية المغربية”، في التعامل مع الأحداث؛ وينشرون أنه بسبب تلك الأحداث لم يتعرض المغرب لما تعرضت له أقطار وشعوب أخرى، وأن المغرب فرض على المحتلين له احتراما لتقاليده السياسية. وعلى العكس من ذلك يُقر النظام المخزني فشله في تحريك الأوضاع المغربية، على الأقل، منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، اللذين عرفا محاولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله (تـ 1790) والسلطان مولاي سليمان (تـ 1822) تحريك ما أمسى مستقرا وجامدا بثقافة المغرب في جميع المجالات التي كان يجب أن تتغير وتتطور. وكانت النتيجة أن محمد بن عبد الله فشلت محاولاته؛ وتقديم مولاي سليمان الاستقالة من الحكم، بسبب انتصار رجال التدين والتصوف الشعبوي على الدعوات السلطانية للتجديد. ونعتقد بأن فشل السلطان الحسن الأول (تـ 1894) في الاستفادة من البعوث التي أرسلها بنفسه إلى المعاهد الأوروبية يندرج ضمن تغول معتقد التدين على عقيدة الدين، أو الدفاع عن المصالح بدل الاستجابة لتجديد مسيرة الوطن.
ولذلك لم يتردد الخطابي، في نهاية حركته على الأرض، أن يحمّل جزءا من مسؤولية استمرار سيطرة ثقافة الروابط الثقافية البالية لفقهاء التدين، أي عبدة البشر، ولطرق صوفية شعبوية؛ أولئك الذين كانوا متقوقعين في أقبية المختصرات وحواشيها، المؤثرة تأثير المنومات على أنماط مدارك غالبة الناس في ذلك الزمن، وعلى تعطيل عمل عقولهم التجديدي منذ قرون. ولذلك، هل يجوز لنا أن نعتقد بأن الفئات التي رأت أن مصلحة تجديد هواء المغرب لن يتحقق إلاّ بتأييد الاحتلال الأجنبي من باب “رب ضارة نافعة”، وعلى ماذا يدل ذلك؟؟؟
من هنا يمكن كذلك أن نفهم بعمق أكثر سبب تحميل محمد بن عبد الكريم مسؤولية انهزام الحركة التي رأسها، لشيوخ تصوف شعبوي ولفقهاء التدين والنِّحَل السلفية، السلفية في هذا المعنى لا تعني أصول الدين أو أصول الفقه، بل تعني كل ما يلغي إرادة الإنسان وعقله لكي لا يبتكر، ويدفعه من الخلف ومناهضته للجذب من الأمام. وهذا الصنف من المتحكمين في آراء الناس وأحكامهم، أشار إليهم ضمن تصريحه لمجلة “المنار” القاهرية، المشار إليه فيما تقدم، الذي أكد فيه أن التعصب الديني (التديني) كان من أهم أسباب فشله؛ والتعصب الديني الذي قصده كان يعني به “عبدة البشر” حسب تعبيره، ثم أضاف: “إنني لم ألق بين قومي أي تشجيع لتحقيق مشاريعي الإصلاحية” قبل أن يوضح “أن جماعات صغيرة بكل من فاس والجزائر فهمتْ مقصدي وساندتني، لأنها كانت مطلعة على ما يجري في الخارج”. (زكية داود، عبد الكريم ملحمة الذهب والدم، ص 332).
المعاهد العلمية المغربية لا تبحث في التاريخ الراهن
لا نملك في الواقع أي مسوغ وطني مقنع، أو سياسي برجماتي، لآراء ومواقف من خَلفوا حركة التحرير الوطنية باسم “الحركة الوطنية السياسية”، ولا يسعنا إلا تسجيل أسفنا وألَمَنا على ما أضحت عليه مكانة المغرب بعد أكثر مئة سنة من الحركة التحريرية الوطنية، وبعد 65 عاما من الاستقلال باسم الحركة الوطنية السياسية، وبعد قرابة 50 سنة من التحذير الشهير، الذي أطلقه للمؤرخ عبد الله العروي، بعبارة “المغرب المهدوم والمستبعد”، وبعد حوالي عقدين من الزمن من قيام “هيئة الإنصاف والمصالحة” ووصاياها، وخطاب محمد السادس في 6 يناير 2006 حول التسامي عن اعتماد الأحكام الظرفية كحقائق نهائية. لكننا نرى وكأن بلدنا تنطبق عليه مقولة “محلك سر”.
فهل المغاربة أسرى لتشنجات سابقة ولمشاحنات مستعصية عن الانسحاب من التأثيرات السلبية لعواطفهم وأمزجتهم، أو لبروباغاندا الاستعمار التي اعتبروها جزءا من التحضر؟ وهل عقل الطبقة السياسية المغربية عاجز عن الخروج بالمغرب والمغاربة إلى الاستفادة من كل تجاربنا بإيجابياتها وسلبياتها، المنبثقة عن الذات؟ وأن تنظر إلى العلاقة مع الغرب، بكل أيديولوجياته، نظرة تلميذ بالنسبة بدلا من الاستمرار في القيام بدور الزبون؟
ونتمنى أن تتفاعل الجامعة المغربية، وكذا مراكز البحث في التاريخ الراهن مع مضمون ما جاء في خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة الإعلان عن انتهاء أشغال “هيئة الإنصاف والمصالحة” بتاريخ 6 يناير 2006، حيث قال: “إننا لا نريد أن نجعل من أنفسنا حكما على التاريخ، الذي هو مزيج من الإيجابيات والسلبيات. فالمؤرخون وحدهم المؤهلون لتقييم مساره، بعيدا عن الاعتبارات السياسية الظرفية”.
ومن جانب آخر، تتيح لنا ذكرى مئوية أنوال طرح سؤال الأمس واليوم والغد كذلك، وفقا لحكمة هولندية ترى أن ” التاريخ كرسي المستقبل”. ولا يكفي لإبراز ما تم إنجازه في مئة سنة، أو العثرات التي حالت دون تحقيق ما طمح إليه المغاربة، وإنما ماذا أعددنا للمئوية الثانية؟ وكيف يتمكن بلدنا، في جهاته الأربع، من تجسيد ما يُعلن من الوعود، والجمع بين الوطنية وتحقيق المواطنة قولا وممارسة لصالح كل المغاربة، والانتهاء من الاختباء وراء عبارات من مثل “الديمقراطية الانتقالية” و “العدالة الانتقالية”، ومن شعار “دولة الحق والقانون” الذي لم يطبق إلا نادرا، لكي نصل بالفعل والممارسة إلى زمن تطبيق العدالة القانونية والاجتماعية، وتطبيق المواطنة، وتخطى شعارات “الإصلاح في ظل الاستمرار” إلى الاجتهاد التجديدي والحداثة النافعة للمجتمع في المجالات الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية والعلمية والفكرية، والإدارية والثقافية، أي الانتقال من عبارات “الإصلاح” المستعملة للاستهلاك المحلي إلى ثقافة التطوير والتغيير، بمفهومهما المتداول في العالم المتقدّم.
عرفنا نسبيا، إذن، العوامل والدواعي التي تولّدت عنها انتصارات أنوال وأخواتها، كما عرفنا كذلك الأسباب والدوافع، الداخلية منها والخارجية، التي حالت دون انتصار الحركة الوطنية التحريرية. فهل من حق المغاربة أن يطمحوا إلى تصحيح مسار الوطن لكي يتم التفاعل مع ما يتمناه المواطنون، أو ما أسماه المؤرخ العروي منذ حوالي 50 عاما “إعادة بناء المغرب المهدوم والمستبعد”.
*مفكر ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )