شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال، (الحلقة7): مكونات ومؤثرات في شخصية ابن عبد الكريم

خلصنا في الحلقات السابقة إلى أن الريف كانت له الريادة في الحركة الوطنية التحريرية المنظمة مع بادئها الشريف سيدي محمد أمزيان، ومع خبيرها محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي أشاع خبرها في العالم، وأذاع بشراها للشعوب المستعمَرة مبينا لها بأنها قادرة على استرجاع دورها في التاريخ الفاعل. ويبدو أن هذه المكانة أزعجت البعض الذي اعتقد بأنه أولى باستحقاق ريادة الوطنية المغربية، لحاجة في نفس يعقوب كما يقال. 

 ولهذا، قلما يوجد في المغرب من ينوّه ويقدّر رموز الوطنية التحريرية. وقد لاحظ المؤرخ عبد الله العروي في ندوة عقدت بباريس، سنة 1973، عن الخطابي وتركته النضالية، أن قيادات جماعات العمل الوطني السياسي، التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، لم تر في الخطابي سوى مجرد محارب أسطوري. أما المؤرخ جرمان عياش فلم يتوانَ في توصيف الريفيين، الذين يتحدر منهم الشريف أمزيان والخطابي، بأنهم مجتمع مصاب بسعار من التوحش والشراسة الدموية منذ قرون؛ وذلك في ثنايا كتابه “أصول حرب الريف”، وخاصة في ص 96 وص97).  ولا ندري سبب ترديد ألسنة مغربية، هنا وهناك، بأن الريفيين عنيفون ومندفعون، مهرِّبون، وتجار مخدرات، وأوباش؛ لذلك، تغيب في سلوكياتهم وتصرفاتهم وأفعالهم الحكمة السياسية والمرونة والمصلحة. ونتساءل هل تصب تلك النعوت والأحكام في مرمى الذين لا يقبلون ريادة ساكنة المغرب العميق، والريف بخاصة، للوطنية التحريرية، أم يُعدّ مجرد انعكاس لمرجعية أيديولوجية لا تنتمي إلى العقيدة الوطنية في التحرر، أم أنه سلوك أرعن أخلاقيا ووطنيا إن لم يكن عنصريا إثنيا، أو أنه لا يزال يمثل صدى البروباغندا الاستعمارية، التي كانت تزعم أن قبول الاستعمار هو فعل من أفعال الحكمة السياسية والتحضر. 

     لنترك كون العلوم الإنسانية، والتجارب التاريخية للأمم والشعوب بينت، وتبين، لنا أن الإنسان، أي إنسان، يُعَد للمستقبل من قِبَل أسرته وبيئته التي نشأ فيها، وترعرع في وسط قيمها التربوية والثقافية والأخلاقية، التي لها الدور الحاسم في إبراز مؤهلاته وأبعاد شخصيته. وقد عبّر علم النفس عن بناء ومكونات شخصية الإنسان بقوله: “الطفل أبو الرجل”. فما هي أهم المكونات المحددة لمعالم شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي ومآثرها؟ 

أولا، مكون الأسرة  

ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1882 ببلدة أجذير، قبالة جزيرة النكور المحتلة من إسبانيا منذ 1673، في عائلة مشهود لها بمكانتها في العلم والقضاء. وصدارتها بين أعيان قبيلة بني ورياغل في الريف الأوسط؛ وكان لها صلة بسلاطين المغرب. وقد أشرنا إلى بعض التواصل مع المخزن في الحلقة المتقدمة؛ وتعد من أثرى العائلات في الريف الأوسط. ويعود نسب العائلة، على وجه الظن، حسب ما دونه القاضي عبد الكريم قبل وفاته، إلى “ينبوع” بشبه جزيرة العرب، حسب ما جاء في مذكرات لارينيون، (ص50). غير أن محمد نسب إلى والده القاضي عبد الكريم في المذكرات قوله: “إن عائلتنا اكتسبت مع طول الزمن الخصال البربرية، وامتازت كبعض العائلات الأخرى الريفية بالتفوق في الاعتناء بتربية أولادهم وتعليمهم، واشتهر بعض أفرادها بالعلم والسياسة وشغلوا وظائف مختلفة مع سلاطين المغرب.” (ص 51).  

أما من حيث التعليم فقد وجه القاضي ابنه محمد لتعلم القرآن الكريم، ثم قام هو شخصيا بتعليمه “المبادئ الدينية والنحو والتصريف والفقه ومبادئ التاريخ”؛ قبل أن يسجل أنه في العشرين من عمره انتقل رفقة عمه عبد السلام إلى جامع القرويين بفاس لمتابعة الدراسة. وأثناء عودته من فاس إلى بلدته انكب على تعلم اللغة الإسبانية. وفي 1906 أرسله والده مجددا إلى فاس في “مهمة سياسية مخزنية فيما يتعلق بالثائر الزرهوني، وقضيت هناك ستة أشهر، انتهزت فيها تعلم بعض الدروس بالقرويين أيضا ” (مذكرات لارينيون، ص 63). 

إضافة إلى ما تقدم، كان شابا عزيزا وصديقا لوالده، وكان يتعلم منه طرائق تواصله مع الجميع، باعتماد أسلوب المودة والتعاطف مع الآخرين، وعلائق التلاحم الجماعي، وضرورة الالتزام بمنطق الشريعة والقانون، والاحتكام إلى قوة المنطق بدلا عن منطق القوة، الذي كان المسيطر الأخطر في زمن ضعف الدولة أو شيخوختها المتقدمة. وأهم شيء كان يعاينه في والده الصبر عن الأذى، الذي يتعرض له وأسرته، بدعوى ميله ونصرته لإسبانيا.  

ونستخلص أن علاقة محمد الشخصية بوالده كانت علاقة صداقة أكثر من علاقة البنوّة. ولذلك طالما نوّه وأشاد باستمرار بأثر أبيه في بناء شخصيته، وفقا للشهادة التي أدلى لنا بها ابنه السيد عبد المنعم الخطابي، الشهير بـ”عبده” في القاهرة سنة 1979، التي تضمنت تأثر والده غير المحدود بشخصيته نبي الإسلام، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وبشخصية المهدي بن تومرت، مؤسس الحركة الموحدين في القرن الثاني عشر الميلادي، وصانع الثورة الفكرية في المغرب.   

ثانيا، مكونات مغربية وعالمية 

ولم تكن ملاحظات محمد بن عبد الكريم عن واقع المغرب ومجمل ظروفه بعيدة عن تكوين شخصيته وهويته كذلك؛ سواء في جوانبها الإيجابية، أو الجوانب السلبية التي كانت تغذي الأزمنة الراكدة لدى الساكنة، وسط ركام من بقايا ثقافة منكمشة ومتوارثة من زمن “إنسان ما بعد الموحدين”. بتعبير مالك بن نبي. الخاضع لرغباته الغريزية وأمزجة الأنظمة السلطوية التي لم تعد ترى بديلا على طاعة الرعايا والولاء، بدون أي مقابل. وكادت تلك الأنظمة أن تكون مماثلة لأنظمة شيوخ الطرق صوفية الشعبوية، المتحكمين تحكما مطلقا في مريديهم، أساس ذلك التحكم أن يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله. وكذلك كانت أنظمة الحكم مع رعاياها. بحيث يجب أن يكون الرعايا بين يدي الحاكم، أو صاحب السلطة المتحكم في الوقائع والأشياء، منقادين له انقيادا تاما، كما ينقاد المؤمن في المذهب الشيعي لإمامه الموسوم بالعصمة، أو عدم انتقاد الحاكم أو معارضته، مهما يظلم أو يجور، حسب معتقدات المذاهب السنية، كما رسختها بعض النِّحَل التابعة لها.   

     ونعتقد بأن أدراك الرجل لمرض المغرب وشيخوخته القاسية نجمت عن جمود الزمن الاجتماعي والثقافي، وعن غياب إرادة التجديد السياسي والاقتصادي، وتحديث حياة الدولة والمجتمع، وعن حجب متغيرات العالم وتطوراته وثوراته الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن المغاربة، بدعوى أن ذلك بدعة وكفر. الأمر الدي جعل المغرب عاجزا على الجذب من المستقبل، بل أن نخبه النافذة اكتفت بثقافة الدفع من الماضي ولبوس أسماله المهترئة. ولا يزال بعض المغاربة يتذكرون الزمن النفسي المغربي الذي كان يقدس لباس الخرقة أو الدربالة.  

     إن غياب التجديد في الفكر والعمل، واستمرار اكتساح معارف وعلوم المختصرات، واتهام طلاب التجديد والتحديث بالخروج عن الملة، واعتبار المطالبين بالتغيير بأنهم أهل بدعة وكفر. كل ذلك كان في صلب مستحضرات محمد بن عبد الكريم في مدينة مليلة عنما التحق بها للعمل، ومقارنة واقع الإسبان الذهني والفكري، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، على تخلفه عن أوروبا، مع حال ووضع أهله في بلده المغرب، وبمدينة فاس عاصمة المغرب بخاصة، ومدينة تطوان التي كان يقيم فيها من حين لآخر، كان يدرك الدرك الأسفل الذي أمسى فيه المغرب. ويجوز لنا حينئذ القول: إن أسوأ زمن إنساني هو الزمن الذي يقل فيه القادرون على قيادة ثورات التغيير. 

     ثالثا، مكون التفاعل مع المجددين  

       من جانب آخر استطاع محمد بن عبد الكريم أن يتفاعل مع أساتذته المتنورين في القرويين، مستوعبا رؤاهم في ضرورة تنوير العقول وتجديد مناهج الحياة؛ إنهم أولئك الذين كانوا يتميزون بالاجتهاد الفكري وبنوازع التحديث الوطني؛ أمثال محمد بن عبد الكبير الكتاني، المتوفى مسجونا في سجن السلطان عبد الحفيظ سنة 1909، بسبب أفكاره الوطنية، وأمثال العالِميْن الكنونيين التهامي وعبد الصمد، المجدديْن في مناهجهما التربوية والفكرية؛ وعبد الرحمان العراقي ومحمد القادري، الذين بقي يتبادل معهم الرسائل والآراء والمشاورات. ونعتقد بأن هؤلاء المتنورين وسط عصور طويلة من الظلام في هذا الجزء من شمال إفريقيا كانوا من بين من أشار إليهم بعبارته في نهاية المقاومة التحريرية “فئة قليلة من أهل مدينة فاس فهموا مقصدي” لأنهم كانوا مثل القاضي عبد الكريم أكثر من أدرك خطورة الشيخوخة التي لحقت ببلدهم، وفقا لما ذكره ابنه محمد في مذكرات لارينيون.  

رابعا، مكون الإقامة في مليلة المحتلة  

بدا لنا ونحن نبحث في أهم المكونات والمؤثرات التي ساعدت على بناء تكوين شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، أن والده القاضي عبد الكريم كان متفاعلا مع وقائع عصره ومعطياته المختلفة والمتنوعة؛ ولذلك كانت له علاقة مع الجارة الشمالية إسبانيا، بسب مقاصد كثيرة، منها استفادة أبنائه وجيلهم. غير أن تلك العلاقة لم تؤثر فيهم إلى درجة التخلي عن جنسية بلدهم، كما فعل كثير من أعيان المغرب؛ لأنه كان يرى أن ذلك حلا لقضايا أشخاصهم وليس حلا لمشكلات مجتمعهم المغربي، بل أن حمل الجنسية الأجنبية ساعد القوى الاستعمارية على تحقيق مآربها بسهولة أكبر. 

 ونعتقد بأنه بعد موافقة المخزن على توسيع حدود سبتة ومليلة لصالح إسبانيا، وبعد احتكارها شبه الكامل للحركة الاقتصادية والتجارية في المنطقة بحرا وبرا، رأى القاضي عبد الكريم أن يرسل ابنه محمد، إلى مليلة للعمل، وابنه امحمد لدراسة الهندسة المنجمية في إسبانيا. وفتحت إقامة مليلة لمحمد بن عبد الكريم نافذة جديدة على العالم لمعرفة وقائعه ومستجداته، ومشكلاته والطرائق المؤدية إلى حلها، أو اقتراح الحلول الممكنة لإيجاد الحلول لها. وقد ساعدته وظائفه المتعددة: التدريس في المدرسة الإسبانية المغربية المزدوجة اللغة والثقافة، الكتابة الصحفية في جريدة “تلغراما الريف”، تدريس العربية والريفية للضباط الإسبان، والقيام بالترجمة، وتولية قضاء المسلمين في مليلة ونواحيها. كل ذلك جعله، بلا شك، ينفتح أكثر على العالم ويستوعب قضاياه ومشكلاته والحلول المعمول بها، والاطلاع عل مختلف الآراء المقترحة في تسيير العلاقات بين الدول الاستعمارية والشعوب المستعمَرة.   

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي