Share
  • Link copied

الدروس الحسنية.. رسالة الإسلام الكونية في مجالس السلاطين

منذ ما يناهز ستين عاما، تحوّل شهر رمضان إلى موعد سنوي قارّ مع جلسات علمية يحج إليها علماء المسلمين من جميع أنحاء العالم، تفتتح بالقرآن وتختتم بدعاء السلطان وبينهما دروس دينية وأحاديث نبوية تربط روح الإسلام برسالته الكونية.

يتعلّق الأمر بالدروس الدينية الرمضانية، التي يحتضنها القصر الملكي في المغرب في رمضان من كل عام، ويجلس فيها علماء من مختلف المذاهب والجنسيات، لإلقاء دروس دينية بحضور الملك (أمير المؤمنين)، لكن جائحة كورونا أوقفت تنظيمها في العامين الماضيين مثل باقي الأنشطة الجماعية.

فعلى غرار باقي مظاهر الاحتفاء التي يخصه بها المغاربة، يتميز شهر رمضان بتنظيم جلسات علمية كبرى بشكل شبه يومي قبل أذان المغرب، يحضرها الملك شخصيا، ليستمع إلى محاضرة عالم كبير من داخل المغرب أو من خارجه، مع افتتاح الجلسة بتلاوة القرآن واختتامها بالدعاء الذي يلقيه الملك.

وتعتبر هذه الجلسات إرثا تاريخيا قديما دأب عليه سلاطين المغرب منذ قرون، وبعد توقفه لفترة (في عهد الحماية الفرنسية)، أعاد الملك الراحل الحسن الثاني إحياءه في سياق كان يتسم بصراع فكري كبير مع التيارات اليسارية واللادينية.

دروس الافتتاح.. مجالس محصنة بحضرة الملك وعلية القوم

ترسم الدروس الحسنية مشهدا رمضانيا يجعل واحدا من العلماء المدعوين يعتلي المنبر قصد إلقاء الدرس المقرر بحضرة الملك والأمراء والمستشارين، إلى جانب الوزراء ورئيسي مجلسي البرلمان وكبار ضباط الجيش، فضلا عن عدد من الشخصيات العلمية والثقافية التي عادة ما توجه لها الدعوة لحضور مثل هذه المجالس.

وقد جرت العادة في السنوات الأخيرة أن يلقي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي الدرس الافتتاحي لهذه السلسلة الرمضانية، على أن يعقبه في اليوم الموالي درس لعالم من خارج المغرب، فعالم مغربي، وهكذا دواليك.

وعقب ختم الملك للمجلس بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتقدم العالم المحاضر للسلام عليه، وتكون تلك مناسبة لكي يهديه نسخا من مؤلفاته ورسائله العلمية وغيرها من مصنفاته.

الرئيس ياسر عرفات من بين رؤساء وسفراء ودبلوماسيين حضروا جلسة الدروس الحسنية

وتتخذ هذه الدروس بعدا دوليا حين يحضرها أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد في المغرب، حيث يشهدون هذا المجلس الذي يتمتع فيه المحاضر بالحصانة ضد أي اعتراض أو تعقيب من قبل الحاضرين، بل الكل مطالب بالإصغاء لما يقوله العالم الذي يكون حرا في اختيار موضوع الدرس.

ولا يحدث كل ذلك في إطار سري أو مغلق، بل ينقل عبر البث المباشر التلفزيوني والإذاعي، مما يجعله في مأمن من الرقابة التي يمكن أن تحد من حرية تعبير العالم فيما يود إبلاغه لملايين المشاهدين والمستمعين، خاصة في حضرة ملك البلاد وكبار مسؤولي الدولة من أمراء ووزراء وقادة للجيش.

عقد السبعينيات.. بداية الانفتاح على علماء العالم

تصفُّح لائحة الأسماء التي تعاقبت على هذا الكرسي منذ انطلاق هذه الدروس سنة 1963، يبيّن أنها ظلّت في البداية مقتصرة على كبار علماء وفقهاء المملكة، يتقدّمهم علال الفاسي والمكي الناصري وعبد الله كنون، قبل أن تنفتح في السبعينيات على أسماء وازنة من كبار الدعاة والفقهاء المسلمين. يجمع بين هؤلاء المكانة العلمية الرفيعة ومراكمة العمل الفقهي والتأليف والتلقين، وتفرّقهم الانتماءات المذهبية والفكرية وحتى السياسية.

ويحتفظ سجل الدروس الحسنية الرمضانية بقائمة طويلة لأسماء علماء من جميع أنحاء العالم، ممن شاركوا في جلساتها طيلة أكثر من نصف قرن. ومن بين تلك الأسماء العلامة أبو الأعلى المودودي، والشيخ أبو الحسن الندوي من الهند، والشيخ محمد متولي الشعراوي من مصر، والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، والدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة-المملكة العربية السعودية، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ كلية الشريعة بجامعة دمشق، والأستاذ محمد سعيد نعماني نائب رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.

الدكتور محمد سعيد البوطي يحاضر في أحد الدروس الحسنية بحضرة الملك الحسن الثاني

بل إن منبر محاضرات الدروس الحسنية شهد عام 1993 إلقاء رئيس دولة المالديف مأمون عبد القيوم درسا حول “الاجتهاد وضرورته الملحة لمعالجة القضايا المعاصرة” أمام الملك الحسن الثاني.

وبينما كانت الدروس الأولى في ستينيات القرن الماضي تُلقى بطريقة ارتجالية دون الاستعانة بأوراق مكتوبة، على عادة علماء القرويين، أصبح العالم المحاضر في الدروس الحسنية يلتصق تدريجيا بالأوراق المكتوبة، مخافة الخطأ أو الانحراف عن الموضوع، وهي قواعد لا يُستثنى منها إلا العلماء الذين يتمتعون بمكانة خاصة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

مظهر الملك.. مرآة تعكس نجاح المحاضر وفشله

لا ينتهي الأمر بإلقاء الدرس واختتام المجلس بالدعاء من طرف الملك، بل تجري مناقشة هذه الدروس بقاعة خاصة بمقر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط (تحمل اسم المختار السوسي) من طرف العلماء المغاربة والضيوف الأجانب المشاركين في الدروس الحسنية.

وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد سنّ قاعدة نشر مضامين هذه الدروس مع ترجمتها من العربية إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، كما يصدر كتاب خاص بالمناقشات التي تدور حولها من طرف العلماء المشاركين فيها.

وقد كانت الدروس الملقاة في حضرة الملك وأمام أنظار حاشيته وجيش من علماء مجالسه الرسمية تخضع في السابق لمناقشة فورية يفتتحها الملك شخصيا، حيث يدلي ببعض الإضافات أو ما يراه تصحيحات، كما يطرح بعض الأسئلة على صاحب الدرس.

وكانت هذه المناقشات تُنقل مباشرة عبر التلفزيون، ويعكس مظهر الملك خلالها مدى رضاه على الدرس واقتناعه بصاحبه، فإما أن يبدي تبرّمه وتأففه من وقوع المحاضر في بعض الأخطاء، أو يعبّر عن سعادته وتقديره له. ويتّضح انطباع الملك أكثر بعد انتهاء الدرس واختتامه من طرف الملك، حيث يتقدّم المحاضر للسلام عليه، فيتلقى تهنئة الملك بنجاحه أو توديعا جافا يعكس عدم رضاه.

وبينما يمتد تنظيم الدروس الحسنية طيلة شهر رمضان، يجري تمكين العلماء المشاركين من بعض أيام الاستراحة، وعادة ما يغتنمونها لأجل القيام بزيارة بعض المعالم التاريخية المغربية أو تفقد بعض المنشآت الثقافية، كما تكون تلك الفترة فرصة لإلقاء دروس أو محاضرات في المساجد أو الجامعات أو بعض القاعات العمومية سواء بالعاصمة الرباط أو خارجها.

السلطان محمد الثالث.. حلقات حديثية في القرن الـ17 الميلادي

يعود أصل الدروس الرمضانية إلى الملوك العلويين، فقد كانوا يقيمونها ابتداء من رجب إلى غاية شهر رمضان، وينسب تأسيس هذا العرف الديني في شكله الحالي، إلى عهد السلطان مولاي إسماعيل (1645–1727م)، حيث كانت أشهر رجب وشعبان ورمضان مناسبة لتدارس الأمور الفقهية والشرعية، خاصة منها تلك المتعلّقة بالقضايا الجديدة والمستحدثة.

ويعتبر المؤرّخ إبراهيم حركات أن المغرب لم يخلق فكرة المجالس العلمية، “فهي قديمة في أوائل الدولة الإسلامية، بل هي موجودة بشكل أو بآخر لدى شعوب التاريخ القديم. فملوك الهند والصين كان لهم مجالسهم مع الحكماء والمنجمين، وكذا البلاط البيزنطي الذي كان يهيمن عليه الرهبان وتجري فيه مناقشات علمية ودينية وسياسية. وفي الإسلام فتح النبي صلى الله عليه وسلم باب النقاش العلمي في مجالسه، خاصة بمسجد المدينة وبيته المجاور”.

الدروس الحسنية دروس رمضانية موسمية يحضرها ملك المغرب ويشرف عليها

ويضيف كتاب المؤرخ إبراهيم بوطالب في هذا الصدد، أن الظاهرة الجديدة التي أنشأها السلطان محمد الثالث، هي تطويق المجالس العلمية بالانكباب على الحديث وحده. إذ يقول: إن هذه الظاهرة لم تمت بوفاته، بل أصبحت عرفا احترمه سائر الذين تعاقبوا بعده. وحيث إن السلطان محمد بن عبد الله اعتنق المذهب الحنبلي كعقيدة حسبما صرح بذلك.

ويضيف المؤرخ المغربي أن السلطان محمد الثالث (1710-1790) لجأ إلى إنشاء أو إعادة حركة حديثية شاملة بالمغرب تستجيب لعقيدته الحنبلية، ذلك أن أصداء الحركة الوهابية التي بدأت بالظهور في شبه جزيرة العرب قبل تولية محمد الثالث سلطانا كان لها تأثير قوي في هذا الاتجاه التحديثي.

من ثم فإن جلّ المجالس العلمية التي تحلّقت حوله وحول خلفائه كانت بالذات مجالس حديثية حتى عهد الحسن الأول (1836-1894). ولم يكن ذلك فقط تفسيرا للتعاطف مع الحركة الوهابية بشكل خفي، وإنما كان ذلك أيضا ضربة موجهة إلى الزوايا التي ذهب المجتمع في التهافت على أضرحتها مذهبا بعيدا.

عصر الوصاية الفرنسية.. دروس ذات طابع سياسي بحضرة السلطان

عندما قرّر الملك الحسن الثاني تنظيم الدروس الحسنية في رمضان الذي بدأ أواخر العام 1963، اتخذ إحدى القاعات الصغيرة التي كان ينظّم فيها جده تلك الدروس، ليعقد فيها الحلقات الأولى للدروس الحسنية.

ورغم أن السلطان مولاي عبد الحفيظ كان قد مارس عادة مماثلة، سواء عندما كان مستقرا بمدينة مراكش، أو عندما انتقل إلى فاس، حيث سيضطر للخضوع للحماية الفرنسية والتنازل عن سيادة المغرب؛ فقد اقتفى أثر أسلافه في تنظيم حلقات حديثية تستغرق رجب وشعبان ورمضان، ومن أعضاء مجلس مولاي عبد الحفيظ، الشيخ ماء العينين ومحمد بن عبد الكبير الكتاني والمفتي محمد عبد السلام العمراني وعلي بن محمد العدلوني.

وكانت مجالس مولاي عبد الحفيظ تلك لا تخلو من مناقشات يثيرها السلطان بنفسه. يقول المؤرخ إبراهيم حركات: وكان مولاي عبد الحفيظ يتلقى ردود الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي كان يرى أن بعض وجهات نظر السلطان تخالف نصوص الكتاب والسنة. لقد كانت للمجالس العلمية صورة تقليدية، ولكن الطابع السياسي كان أيضا يهيمن على بعض أهدافها وتحركاتها.

أمير المؤمنين.. زعامة دينية لتثبيت الحكم ومواجهة الناصرية

أعاد الملك الحسن الثاني إحياء الدروس الدينية التي سنّها أجداده السلاطين، مستلهما طقوس انعقاد هذه المجالس وطقوسها من عهد جده الحسن الأول، كي يضفي عليها هالة من القداسة المتمحورة حول شخص الملك. كل ذلك في سياق سياسي يرتبط بمحاولاته تثبيت أسس حكمه وإحاطته بمصادره الشرعية الدينية داخليا وخارجيا.

فقد جاءت الخطوة بعد سنّ أول دستور للمغرب في وقت اشتداد الصراع بين الملكية في المغرب ومعارضة يسارية قوية، وفي سياق صراع وجودي بين قوى إقليمية ناصرية ترفع لواء فكر اشتراكي يأخذ مسافة من المرجعية الدينية، وبين أنظمة وراثية في المنطقة العربية تجد أسسها أولا في الشرعية الدينية.

فقد كان المغرب جزءا من منظومة عربية تقاوم الأيديولوجيا الناصرية، لأن جمال عبد الناصر كان يؤسس لمشروعه على مناهضة الملكيات والتيارات الإسلامية، لتقوية الجانب القومي العربي، ويتجسّد ذلك داخليا في مصر، من خلال مناهضته القوية للإخوان المسلمين وللمشروع الإسلامي.

حاول الملك الحسن الثاني تجسيد دور الملك القادر على توحيد التيار الإسلامي لمواجهة المد الناصري

في مقابل ذلك، كان الملك الحسن الثاني يحاول تزعّم تيار الدعوة إلى تأسيس جامعة إسلامية بدل الجامعة العربية، واحتضن بعض قيادات الإخوان المسلمين، وأحدث دار الحديث الحسنية، وأوكل مهمة إدارتها للمصري فاروق النبهان.

كما حاول تجسيد دور الملك القادر على توحيد التيار الإسلامي والعلماء خلفه، لمواجهة هذا المد الناصري، وكانت هناك إشارات قوية تدل على الرغبة في العمل إلى جانب ملكيات الأردن والسعودية ضد جمال عبد الناصر، فكانت دروسه تستقطب علماء من مختلف التيارات والمذاهب، أي أن تلك الدروس كانت تحاول إظهار الإجماع حول إمارة المؤمنين، خاصة من لدن علماء غرب أفريقيا ورموز الزاوية التيجانية.

عصر التطرف.. قناة بديلة لتصريف الخطاب المعتدل

اكتسبت الدروس الحسنية أدوارا أخرى بعدما تأسست في سياق خاص، فقد أصبحت هناك إكراهات دولية وإقليمية جديدة، من قبيل اتهام الإسلام السلفي بالوقوف وراء التطرّف، فأصبحت هذه الدروس قناة لتصريف خطاب مضاد يقدّم الإسلام كدين وسطي معتدل.

ومنذ أن ابتدأ العمل بالدروس الحسنية سنة 1963، كانت تجسيدا فعليا لما ورد في الدستور المغربي الأول الصادر سنة 1962. فالفصل التاسع عشر من أول نصّ دستوري اعتُمد رسميا بالمملكة بعيد اعتلاء الملك الراحل العرش، نصّ على أن الملك هو أيضا أمير للمؤمنين.

المعطى الداخلي الذي يفسّر مسارعة الملك إلى إحياء تقليد دأب عليه بعض أجداده السلاطين، ينضاف إليه المعطى الخارجي الذي سوف يتجلّى بوضوح في السبعينيات، ويتمثّل في إعطائه بعدا دوليا وكونيا لدروسه الرمضانية، من خلال دعوة عدد من كبار العلماء المسلمين لإلقاء دروس أمامه، واستضافة عدد آخر ضمن ضيوف تلك الدروس الذين يشاركون في المناقشات عقب الدروس.

علماء شيعة في مجلس أمير المؤمنين.. انفتاح الحسن الثاني

رغم السياق والخلفية السياسيين لإحياء عادة الدروس الرمضانية في المغرب، وفي ظل الحساسية التي لم يكن الملك المغربي الراحل الحسن الثاني يخفيها تجاه الثورة الإيرانية ومرشدها الأعلى، باعتبارها محاولة لسحب زعامة العالم الإسلامي من السنة، فإن هذه الدروس لم تقتصر على العلماء السنة، بل شهدت حضور علماء شيعة وقيام بعضهم بإلقاء محاضرات فيها.

وكان من بين أشهر أئمة الشيعة الذين حضروا الدروس الحسنية، الزعيم السياسي والديني اللبناني البارز موسى الصدر الذي كان وراء إنشاء “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” سنة 1967، وهو بمثابة المرجعية الرسمية لدى الطائفة الشيعية في لبنان، إلى جانب وقوفه وراء تأسيس حركة “أمل”، ثاني تكتل شيعي في لبنان بعد حزب الله.

يجلس المحاضر فوق كرسي مرتفع مقابلا للملك ويلقي درسه عن الورق

فقد كان الزعيم الشيعي اللبناني يرتبط بعلاقات وطيدة مع الملك المغربي، وكانت صلة الوصل الأساسية بينهما هو السفير المغربي في لبنان أحمد بنسودة المقرب كثيرا من الملك. وقد تمكن موسى الصدر من الجلوس في كرسي المحدّث أمام الملك، بعد مروره بتجربة سابقة ألقى خلالها عام 1968 درسا في جامعة القرويين بمدينة فاس، وهي أعرق جامعة دينية في المغرب، بل أعرق جامعة في العالم.

وبعد عشر سنوات حظي الصدر بدعوة لإلقاء درس رمضاني أمام الملك، أي سنة 1978، وكان ذلك قبل شهور قليلة من تلقيه دعوة مماثلة من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وهي محطة نهاية مشوار حياة هذا الزعيم الشيعي، فقد اختفى بمجرد وصوله إلى الأراضي الليبية.

وفي عهد الملك محمد السادس، حضر المذهب الشيعي في أحد الدروس الحسنية الرمضانية، وكان ذلك في العام 2006، حين ألقى الشيخ محمد علي التسخيري، درسا في موضوع “حركة التقريب بين المذاهب، منطلقاتها وآفاقها المستقبلية”، ودعا فيه إلى التقريب بين الأفكار بهدف توحيد المواقف العملية.

“الإسلام أصبح مدرسة سلوك سياسي”.. لقاء غرماء الحرب الباردة

تحمل الدروس الحسنية الرمضانية نفسا توحيديا يسعى إلى بناء الجسور بين المختلفين والتوفيق بين المتناقضين، ولم يقتصر الأمر على المذاهب والفرق الدينية الإسلامية فقط، بل امتد الأمر ليشمل الخلافات الدولية الكبرى، حيث شهد أحد الدروس التي جرت في عز مرحلة الحرب الباردة مشاركة مقرئ قادم من الاتحاد السوفياتي، فقد افتتح الدرس بترتيل آيات من القرآن، بينما ألقى الدرس محاضر أمريكي.

ففي أحد الدروس الحسنية لشهر رمضان 1409 للهجرة، الموافق للعام 1989 ميلادية، ألقى العالم الأمريكي خالد عبد الهادي يحيى -وهو أستاذ الدين والتاريخ بجامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية- درسا في موضوع “الهدف من الوجود” انطلاقا من قوله تعالى في سورة الذاريات: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”.

في الدروس الحسنية يختتم الملك الدرس بدعاء يتلوه بنفسه

وقبل انطلاق المحاضرة، كانت أسماع الحاضرين على موعد مع تلاوة لآيات من الذكر الحكيم بصوت أخاذ لشاب مسلم قدم من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي آنذاك.

هذه الواقعة المستغربة في ظل استمرار أجواء الحرب الباردة، دفعت الملك الحسن الثاني إلى التعليق بقوله قبل الختم: أريد أن أشير إلى ظاهرة لم تكن في الحسبان ولم تكن من جملة مخططاتنا، ذلك أن موسم رمضان، شهر القرآن، شهر الوحي، أراد الله سبحانه وتعالى أن يجتمع هنا أشخاص من قارات مختلفة ولغات مختلفة وألوان مختلفة. وأراد الله أن نسمع في يوم واحد مقرئا محترما جيدا طيبا من الاتحاد السوفياتي، وأن ننصت إلى محاضر شاب غيور كله حماس من الولايات المتحدة.

ثم قال: هذا سيجعلنا نعطي للديانة الإسلامية وللدين الحنيف وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعريفا آخر، وهو أن نقول: إن الإسلام أصبح مدرسة سلوك سياسي؛ ولا أقول تعايش، لأن التعايش فيه شيء من الإرغام، وشيء من المضض. الإنسان يتعايش لأنه لا يمكنه أن يفعل شيئا آخر. أقول إن نص الإسلام مدرسة التعامل والتساكن السياسي. كثر الله من أمثالكم وكثر الله من هذه الفرص.[12]

عقود الجمعة الفاسدة.. حين غضب الملك من تلميح المحاضر

لم تكن الدروس الحسنية، وهي تجمع في مجلس واحد كلا من رموز العلم ورموز السلطة، لتخلو من حوادث ووقائع تعكس الحساسية الموضوعية بين الحقلين، أي السياسة والعلم. وعلى الرغم من الحرص الكبير الذي يبديه منظمو هذه المجال على الانفتاح وتقبل الآراء المخالفة، فإن ذلك لم يمنع حدوث بعض الحالات التي لم يتحقق فيها ذلك بشكل مطلق.

أبرز هذه الحوادث كانت عندما أطلق عالم مغربي العنان للسانه، متحدثا عن عدم فساد العقود التي تبرم في وقت صلاة الجمعة، في وقت لم يكن حبر عقد تأسيس اتحاد المغرب العربي الذي وقعه رؤساء الدول المغاربية الخمسة، قد جف بعد، وهو الذي أبرم في زوال يوم الجمعة 17 فبراير 1989.

فخلال شهر رمضان الذي صادف سنة 1989، شهدت مدينة مراكش حدثا سياسيا كبيرا وغير مسبوق، تمثّل في إعلان تأسيس اتحاد المغرب العربي بحضور زعماء تونس والجزائر وليبيا وموريتانيا.

لكن ما ميّز لحظة الإعلان عن تأسيس هذا الاتحاد، هو أن ذلك وقع في نقل تلفزيوني مباشر، في ساعة تزامنت مع دخول وقت أداء صلاة الجمعة. فشاهد الجميع كيف أن الزعماء الخمسة وقّعوا على الاتفاقية المحدثة للاتحاد، في ساعة يقول الدين إن إبرام العقود خلالها أمر محرّم.

وكان من حظ العالم المغربي حسن بن الصديق، أن ألقى درسه الحسني الرمضاني بعيد هذه الوقائع، وحدّد له موضوع «الدين بين الاتباع والابتداع»، وتطرّق فيه لبعض البدع التي يعرفها العصر الحديث، والمنهي عنها شرعا.

وكان من بين الأمثلة التي ضربها ابن الصديق عن تلك البدع، إبرام العقود والبيع والشراء في وقت صلاة الجمعة، واستشهد بالآية القرآنية التي تقول: “يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع”، ثم علّق قائلا: فإذا تشاغل عنها مسلم ببيع، أو بأي شيء من الأشياء، كان ذلك العقد وذلك البيع باطلا ولاغيا ولا يترتب عنه أثره، وهكذا.

حديث شعر الملك الراحل معه كما لو كان كلّه موجّها ضدّ اتفاقية تأسيس اتحاد المغرب العربي، فتدخّل مقاطعا العالم المحاضر: أتمم الآية أيها الفقيه. فأتمّ ابن الصديق الآية قائلا: “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون”. فقال له الحسن الثاني: إن الدرس يجب أن ينتهي خلال خمس دقائق في نبرة لا تخلو من غضب.

وكان من نتيجة ذلك أن منع الشيخ حسن بن الصديق لاحقا من الإجابة على استفسارات المواطنين عن أمور دينهم في برنامج ركن المفتي الذي كان يبث مساء كل جمعة على شاشة التلفزة المغربية. مما اضطره إلى الهجرة إلى الديار البلجيكية، قبل أن يصفح عنه الملك ويدعوه مجددا لإلقاء الدروس سنوات بعد ذلك.

الدروس الحسنية.. إرث ديني يزين رمضان العهد الجديد

اعتقد كثيرون بعد رحيل الملك الحسن الثاني صيف العام 1999، أن خليفته الملك محمد السادس سوف يغيّر وجه الدروس الرمضانية السنوية، وأن البداية سوف تكون من اسمها، حيث توقّعوا أن يصبح اسمها “الدروس المحمّدية” بدل اسم “الحسنية”. لكن بحلول أول رمضان في “العهد الجديد” (يؤرخ له بوصول الملك محمد السادس إلى الحكم صيف 1999)، بادر الملك الجديد إلى دعوة عدد من العلماء لحضور “الدروس الحسنية”.

بدأت الدروس الحسنية في عهد الملك المغربي الحسن الأول، ولا تزال تقام حتى اليوم امتدرادا لتلك السنة

لقد أصبحت هذه الدروس جزءا من الطقوس الملكية الراسخة خلال شهر رمضان، وقد قويت أكثر فأكثر بدعوة الباحثين في الفكر الإسلامي، وبالانفتاح على المرأة لإلقاء الدروس، كما أن العهد الجديد منح لهذه الدروس شحنة سياسية إضافية، حيث أصبح الدرس الافتتاحي الذي يلقيه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية مشحونا بحمولة سياسية واضحة، وبات يتضمّن الرؤيا الرسمية لتدبير الشأن الديني.

*الجزيرة نت

Share
  • Link copied
المقال التالي