Share
  • Link copied

الحمولات الإيديولجية وفشل الدولة الوطنية في السودان

إن إشكالية السلطة السياسية في السودان تحتاج لمؤلفات ترصد مختلف الأبعاد التي أثرت بشكل أو بآخر على تراجع السودان، إلى أن أصبح قاب قوسين أو أدنى من تصنيف الدول الفاشلة ، ولعل ما حدث من كوارث طبيعية واقتصادية قد كشف عن عورة الوضع الحقيقي لسودان اليوم ، فهذا البلد الذي أطلق عليه ثلة غذاء العالم أضحى مواطنه يكابد ويناطح الظروف السيئة التي تسببت النخبة السياسية الحاكمة فيها على مر تاريخ السودان منذ استقلاله حتى اللحظة الراهنة ، فالحمولات الايديولجية التي تبنتها هذه النخب و الصراع التاريخي بين مكوناتها، إنعكس سلبا على التنمية الشاملة في هذا البلد الذي يملك كل مقوماتها .

النخبة السياسية السودانية (وديك العدة)

في التراث السوداني يقوم ديك العدة ( الديك الذي يقفز بين الأواني المنزلية ) إلى إحداث جلبة وصداع وإزعاج لساكنة المنزل عندما يبدأ بالقفز هنا وهناك بين الأواني دون معرفة سبب فعله هذا، وما يود الحصول عليه من هذه الجلبة ، ولعله ذات الفعل الذي تقوم به النخبة السياسية السودانية منذ استقلال البلاد وحتى اللحظة الراهنة !!! فعندما لا تكون هنالك معارضة حقيقية تعمل بمعايير واضحة و شفافة، يكون غرضها الأساسي سحب البساط من الحكومة في المواعيد الانتخابية من خلال كسب ود المواطنين ببرامجهم المزمع تطبيقها إن وصلت إلى دفة الحكم ، فبغياب مثل هذه المعايير تصبح هذه النخب السياسية عبء على الدولة ذاتها، من خلال المماحكات و محاولة النيل من بعضها البعض وغياب المشاريع الوطنية الحقة، وإحداث ضجيج في الساحة السياسية لا طائل منه، وبالتالي تقوم هذه النخب منذ فجر الاستقلال وحتى الوقت الراهن بنفس الدور الذي يقوم به ديك العدة سيئ الذكر . 

عرف السودان تجربتين ديموقراطيتين وفى كلاهما لم تكن النخبة السياسية على مستوى تطلعات الجماهير حيث كانت الحمولات الايديولجية التي يتمترس خلفها كل حزب هي الموجه الأساسي له، وبالتالي أخفقت هذه الأحزاب في إيجاد حد أدني من التوافق على كيفية حكم هذا البلد ، وأدى الصراع فيما بين هذه، الإيديولوجيات المتنافرة وعدم الاجتهاد لإيجاد أرضية مشتركة تعبد الطريق نحو عمل سياسي مدروس وتنافسية سياسية حقيقية إلى تدهور أ و ضاع البلاد الاقتصادية والسياسية والأمنية وهو ما أدي إلى تدخل الجيش في أكثر من مرة بحجة وضع حد لهذا العبث !!!! 

القوات المسلحة بين المؤسسية والأدلجة 

يعتبر الجيش أداة مهمة داخل أي نسق سياسي، ويفترض أن دوره محصورا فقط في إطار المهام الدفاعية وحفظ الأمن والحدود، وبالتالي يطلق عليه مؤسسة عندما ينأى بنفسه من الصراعات والمكايدات السياسية ، لذلك فالقراءة في مسار  أي نظام سياسي يجب أن يطرح فيها التساؤل عن دور الجيش فى الحياة السياسية ، وفى إطار هذا الطرح نصنف دور الجيش إن وجد في العملية السياسية، هل هو تدخل مرحلي ناتج عن ظروف معينة أم هو تدخل هيكلي بنيوي ؟

ففي الجزائر مثلا لعب الجيش دورا أساسيا في الحياة السياسية منذ استقلال الجزائر وحتى اليوم ! وفي مصر كان الجيش وما يزال هو المتحكم في النسق السياسي برمته منذ ثورة الضباط الأحرار وحتى اليوم ! رغم وجود رؤساء مدنيين خلعوا بذلاتهم العسكرية !!!.

في السودان كان وما يزال أيضا للجيش دورا مؤثرا في السياسة بصورة واضحة منذ استقلال السودان ،وحتى اللحظة الراهنة، ولكن بشكل مختلف عن التجارب سابقة الذكر ، حيث أن القوات المسلحة السودانية وإن ضربت مثالا رائعا مع الراحل سوار الذهب بالتجرد والمؤسسية عندما سلمت السلطة لحكومة منتخبة، إلا أن هذا السلوك لم يستمر طويلا، إذ رجعت القوات المسلحة للواجهة بعد أقل من أربعة سنوات من حكم الأحزاب السياسية، واستمرت في السلطة زهاء الثلاثون عاما ونيف، وهى من تدير المرحلة الانتقالية فعليا الآن، ولها الثقل رغم الحديث الوردي عن المدنية .

فالجيش في السودان لم يعد حارسا للحدود فقط بل أصبح إن صح التعبير ( دولة داخل الدولة)، ولعله يقتفي ذات الدور الذي لعبه الجيش الجزائري منذ استقلال البلاد، وحتى الإطاحة بالرئيس السابق بوتفليقة، حيث أصبحت الاستثمارات في شتى المجالات من نصيبه، وإذا كان حزب جبهة التحرير الوطني هو الواجهة السياسية للعسكر ،ففي السودان لعبت الحركة الإسلامية منذ الانقلاب العسكري لسنة 1989 ،وحتى إزاحة البشير ذات الدور الذي لعبه حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري ، عبر الحزب الذي أنشأه النظام تحت مسمى حزب المؤتمر الوطني، وبالتالي وطوال هذه السنوات كان الجيش مأدلجا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، و أصبح دوره الأساسي هو حماية هذا النظام وتأمين إستمراريته، وتدبيج أتباعه بأعلى الرتب والامتيازات، أضف لذلك استحداث نظام البشير لقوات موازية للجيش أطلق عليها الدعم السريع، بدأ تأسيسها على أساس عرقي إبان استفحال أزمة دارفور، وأيضا أصبح لهذه القوة مدخلات واستثمارات قد تفوق دخل الدولة ذاتها، بل أصبحت منافسا واضحا للجيش وتلعب دورا واضحا في المرحلة الانتقالية التي يمر بها السودان بعد ثورة ديسمبر ،التي أطاحت بنظام البشير وهو ما قد يثير أزمات قد تعصف بالسلم الاجتماعي فى هذا البلد .

التفريخ الحزبي واللهث وراء السلطة 

إن المشهد الحزبي في السودان يعبر بجلاء عن مدى انعدام الرؤية السياسية الحقة ومحدوديتها، وكم العبث القائم، حيث أن عدد الأحزاب السودانية يفوق المائة حزب ولقد كان للنظام السابق دورا كبيرا في تمييع الساحة السياسية من خلال تشجيع و إغراء العديد من( السياسويين) اللذين انشقوا من أحزابهم تحت ذرائع واهية حيث قاموا بتأسيس أحزاب (صورة طبق الأصل ) من الأحزاب التي أتوا منها وتواصل هذا الانشطار ذو الطابع المتوالي الهندسي ليزيد من تعميق الأزمة السياسية ، حيث أن الأحزاب السياسية أضحت وفى أمثلة كثيرة لا تعبر إلا عن صوت مكتبها السياسي حيث أن الثقل الاجتماعي لهذه الأحزاب يكاد يكون معدوما ، وبالتالي أدى سلوك النظام السابق إلى فقدان المواطن للثقة في العملية السياسية برمتها ومن ثم جدوى الحديث عن ضرورة المشاركة السياسية في واقع أصبح فيه كل شي قابل للبيع، ولقد انعكس ذلك على نسب المشاركة في الانتخابات المختلفة التي كان القصد من قيامها إعطاء صورة زاهية لنظام فاحت رائحة فساده خارج حدود البلد!!

الحركات المسلحة وآفاق الدولة الوطنية 

إن الانشطار و الانقسام الحزبي في السودان طال الحركات المسلحة التي خرجت ضد النظام السابق، حيث ستجد عدد هذه الحركات وأجنحتها من الكثرة مما قد يعطيك إنطباعا أوليا حول كيفية إدارة الصراع السياسي مستقبلا إذا دخلت كل هذه الحركات في إطار النسق السياسي سواء عبر أجنحتها السياسية أو حتى العسكرية ، فهذه الحركات ليست لونا واحدا وبالتالي فخيار التوافق لإدارة الصراع ربما لن يكون متاحا دوما والدليل على ذلك انه وفي ذروة الصراع من أجل الإطاحة بالنظام السابق ظلت العديد من هذه الحركات في إنقسامها، وبالتالي فإن الدخول إلى فلك السلطة بذات العقلية (الثورية) لن يجني السودان منه سوى الخراب والدمار، ولك أن تتخيل كم عدد الحركات المسلحة التي خرجت من دارفور وحدها ثم انقسمت إلى عدة حركات تحمل ذات المسمى مع تمييزها بإسم قائدها فقط !!!.

هذا الواقع الذي خلقته الحركات المسلحة أبان الكفاح المسلح بإسقاط نظام الإنقاذ سيؤدي إلى تأزيم المشهد السياسي إذا استمرت صراعات الفصائل العسكرية في الميدان الثوري على المستوى السياسي ، وهو ما سيدفع ثمنه السودان بشكل باهظ في أول محطة خلافية ، حيث أن ما أدى إلى انشقاق الرفاق أبان النضال العسكري يمكن أن يحدث في إطار المشهد السياسي في حالة غياب التوافق الذي يساهم في عبور سفينة الوطن إلى بر الأمان .

السودان هذا البلد الإفريقي الضارب في القدم من حيث الحضارات التي شهدها ومن حيث الإرث النضالي الذي أخرج المستعمر الانجليزي من البلاد لم يذق طعم الانعتاق منذ ستون عاما ونيف وظلت الصراعات الايديولجية والنزاعات العسكرية التي لا طائل منها هي سيدة الموقف طوال هذه السنون فمتى يعي أبنائه مدى عقوقهم تجاه هذه الأرض الطيبة؟

* باحث في العلوم الدستورية والسياسية. 

الولايات المتحدة الأمريكية. 

كاليفورنيا

Share
  • Link copied
المقال التالي