Share
  • Link copied

الحداثة التائهة

هذه المقالة عن المفكر اللبناني علي حرب في آخر مواقفه الفكرية والسياسية عن الأوضاع في العالم العربي، ونقصد على وجه الخصوص الدين الإسلامي والحركات الجهادية. فمنذ أكثر من عقد صار شغله الشاغل وهَمّه الخالص التعرض فقط بالنقد والتحليل لظاهرة الإرهاب، من خلال أعمال الحركات الجهادية، سواء في بلاد الإسلام أو في الغرب، بل في الغرب أكثر، حتى كاد أن يكون أحد المنظرين لليمين الغربي المتطرف، يقف معهم حيث هُمْ، ولا يتزعزع عن أطروحات الكتّاب والمفكرين والفلاسفة الفرنسيين، الذين يتابع إنتاجهم ولا يعلق عليهم، بقدر ما يتوجه بسهام النقد لمن يعاتبهم ويتصدى لآرائهم الفاشية والمغالية في معاداة الإسلام والعرب والحركات الإسلامية.

ومن فرط نقد علي حرب المتكرر، ويكاد يكون بالكلمة والجملة، للتيارات والحركات الجهادية المتطرفة، التي تلتمس من الدين وقودها الأيديولوجي والسياسي، من أجل محاربة الإقصاء والاستبداد والاغتصاب والنهب المقنن لأموال الشعوب، والقوى الإمبريالية المتحكمة في زمام الأمور ورقاب الناس. فقد اقتصرت كتابات المفكر اللبناني على ظاهرة الإرهاب، واختصر واختزل الدين والدنيا فيها، وصار هاجسه الأول والأخير، هو الذي كان يكتب، في بحوثه ودراساته من منطلق وخلفية حداثية وأفق فكري مفتوح على قضايا لا تنتهي ولا تنغلق إطلاقا، قبل أن يتحول إلى قلم الرأي في الصحف، ويغلق على نفسه ويدخل في صراع تائه غير مجد إطلاقا مع الظاهرة الإرهابية كما ينتجها الجهاديون.

فقد استمرأ علي حرب موضوع الإرهاب، ونقد الخطاب الجهادي الديني وصار حديثه المفضل دون سواه، وذهب به الأمر إلى الربط بشكل محكم بين الدين والإرهاب ربطا عضويا، حيث ينتمي الفرع حتما إلى الأصل، أي الإرهاب إلى وعاء الدين نفسه، وبالقدر الذي أضفى على ظاهرة الإرهاب والتطرف والغلو شرعية تامة من الدين كخطاب سماوي ورسالة نبوية إلى عباد الله. الحقيقة من قرأ علي حرب يدرك جيدا أنه يعرف الإسلام والتراث، لأنه أشتغل عليه لمّا كان ينجز الدراسات والبحوث ويحيل إلى المراجع، لكن انخراطه في قضايا المجتمعات سواء العربية أوالغربية، آل به إلى الاكتفاء بتدبيج المقالات التحليلية في ركن الرأي الصحافي، ومن ثم أدى به إلى نوع من التَّيه والانجراف إلى تسلية فكرية كان أقربها إليه الحركات الجهادية، يحاكي مفكرين وكتّاب فرنسا من أمثال برنار هنري ليفي، إريك زمور، والتيار اليميني المتطرف، الذين ينظّرون ويعبِّرون ولو من خارج الحزب عن معاداتهم للإسلام وقضايا العرب عندما يطرحها عرب ومسلمون، في مواجهة عُتاد الفكر والثقافة الفرنسية من أمثال آلان فينكلكروت، وكافة المثقفين والكتّاب الذين عَنَاهم باسكال بونِفاس بالمثقفين المزيَّفين. فقد كلّف علي حرب نفسه الدفاع عن الفكر اليميني الفرنسي، وهو يدرك أن هناك من الأجيال الجديدة ذات الأصول العربية والإسلامية والافريقية التي تحسن الدفاع عن نفسها بلغة فرنسية تساوق وتتفوق في غالب الأحيان لغة الفرنسيين أنفسهم، فقد تبين أنه من الصعوبة بمكان العثور عن فرنسي من أصول فرنسية.

وعليه، فقد جاء علي حرب إلى مائدة النقاش والرأي متأخراً جدّا، وتناول الكلمة في الوقت الذي لم يعد هناك من يسمع، ولا حتى ينصت إلى لغة تآكلت من فرط عدم تجاوبها وتفاعلها مع قضايا محيطها الحقيقي، ونقصد قضايا العرب والإسلام في سياقها الجاري، أي ظاهرة الإرهاب كصناعة لقوى صهيونية إمبريالية استحوذت على المال والأعمال والإعلام. ولنقدم الشاهد، وعلينا فقط متابعة مشهد دونالد ترامب مع النظام السعودي، ومتابعة فصوله وحلقاته ومتوالياته السياسية والمالية، وحتى البشرية. فقد طفح الكيل، وآل المال الخليجي، خاصة منه السعودي، إلى التعري التام ليكشف صلته العضوية وعُراه القوية بالنادي الصهيوني الغربي، الذي استثمر في الإرهاب والجهاد والأصولية والتطرف والدين والنزعة السلطوية، وسياسة إرباك الطرق إلى الديمقراطية والحَكامة والتنمية المستدامة، على ما فعلت الدول الصاعدة.

وحتى نأخذ من نصه، وفي مسألة يعتبرها علي حرب المعالجة الجذرية لمشكلة الإسلام والمسلمين، يرى: «إن قراءة ظاهرة الإرهاب الإسلامي، بوصفها مجرد رد فعل على الظلم والاضطهاد، أو على تدخل أو غزو، إنما مبرر في النهاية ما تقوم به المنظمات الجهادية من العنف الفاحش والعمل البربري، كما يبرر ما مارسه النظام النازي من أعمال القتل والدمار والإبادة، بوصفها ردّة فعل ضد الحلفاء الذين فرضوا شروطهم المذلة على ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى» (من كتابه الجهاد وآخرته). الحقيقة أن ما يقرأه المفكر اللبناني في الإرهاب الذي يصر على أنه إسلامي صرف، هي قراءة مضادة ومجافية تماما للواقع، ويعاند دائما في التجاوب مع ما تصنعه مفرداته الجاهزة والمكررة دائما. ففي غالب الأحوال تتغير معطيات الواقع ومنها مسألة الجماعات الجهادية، ولا تتغير مفرداته وكلماته وأسلوبه في المعالجة والقراءة.

إن الإرهاب، على افتراض أنه إسلامي، يتغذى من صلب رسالة وماهية الدين ذاته، إلا أن الجماعات والتيارات التي تتوسل الفكر الديني، تفعل ذلك من خارج السلطة لعدم اعتراف النظام العربي القائم بمجال سياسي للمعارضة. بينما النظام النازي، كما يعترف بذلك المفكر اللبناني هو الحزب في الدولة ذاتها. ومن هنا الفرق بين الفاشية والنازية من جهة، والحركات الجهادية الدينية، التي لا تزال تصدر مواقفها من خارج السلطة، أي من خارج نظام الحكم والدولة. ولعلّ المثال الواضح تماما هو الفصل الذي انتهى إليه «حزب النهضة» في مؤتمره العاشر، ليبين المجال الدعوي والمجال السياسي، عندما تمكن فعلا من الوصول إلى سدة الحكم ومزاولة السلطة وإدارة الشأن العام، بل صارت المعارضة اللائكية مثل الحزب الدستوري الحر التونسي، تتصرف بعيدا عن كل آداب وأخلاق، ناهيك من خروجها الصّلف عن قواعد اللعبة السياسية في أبسط مقتضياتها. وعليه، فإن شمولية الحركات الإسلامية وغلوها متأتية من شمولية النظام العربي السلطوي العسكراتي البغيض، القابض على دواليب السلطة، آثر أن يتغذى من معاداة التيارات الدينية له كأفضل مسلك إلى إرضاء الغرب وأهنأ إلى البقاء في الحكم.

ثمة ما يجزم أن كتابات علي حرب الأخيرة تقدم اليقين التام بأن الإسلام كدين ورسالة ونص مقدس هو أصل العنف ومغذي الإرهاب ومصدر كل شرور العالم في الظرف الراهن. وذلك هو الزيغ والتيه العظيم الذي ساقه إليه القدر.. وهو على مشارف الوداع الأخير.. النهاية مفجعة حقاًّ.

*كاتب وأكاديمي جزائري

Share
  • Link copied
المقال التالي