Share
  • Link copied

الحجر الصحي بالمغرب أو ما يعرف ببدعة “الكرنتينة” خلال القرن 19

كان الأمر في مجال الأوبئة والأمراض أكثر تعقيدا مما هو عليه بالنسبة لباقي الكوارث الطبيعية الأخرى، فمجهودات المخزن في هذا المجال كانت في الغالب تتم تحت ضغط المجلس الصحي الذي تأسس سنة 1840م بطنجة من طرف الدول الأوروبية، وكان ذلك من أخطر التحديات التي واجهها مغرب القرن 19، فقد كان للمجلس الصحي حق اتخاذ القرارات اللازمة لمنع البلاد من خطر انتشار الأمراض السارية التي يمكن أن تهددها من الواجهة البحرية، فأصبح المجال البحري صحيا من اختصاص الهيأة الدبلوماسية في طنجة، ولئن كانت هذه الوقاية تبدو مهمة، فإنها كانت تنطوي على خلفيات استعمارية في مقدمتها توفير المناخ الصحي لتشجيع الاستقرار الأجنبي بالمغرب، وقد بدأت مراقبة السفن الذاهبة إلى الديار المقدسة والقادمة منها سارية المفعول بفهل قرارات المجلس، وكان الحجاج قبل تأسيس المجلس الصحي يخضعون لعملية مراقبة صارمة عبر البحر عند ذهابهم من طرف اللجان المسؤولة عن الموانئ، وكانت المراقبة تركز على مدى القدرة المادية لهؤلاء على أداء المناسك لا غير، أما عند عودتهم فلم يتعرضوا لأي مراقبة صحية ولا حجر، ومنذ طاعون 1818م الذي كان سببه الحجاج القادمين عبر البحر، جلب ذلك الانتباه إلى خطورة الحج من الناحية الصحية، فقد انتشر الطاعون مباشرة بعد قدومهم كما ورد في رواية الناصري، لدرجة أن المولى سليمان منع الحج بسبب الخوف من الطاعون الذي يحمله الحجاج معهم.

 ورغم أن باب الحج فتح بحرا سنة 1827-1828 وأصبح مسموحا به، إلا أن المخزن كان عاجزا عن اتخاذ أي إجراءات صحية، ويعود السبب إلى تخلف الطب المغربي، والجهل بالأساليب الوقائية التي نهجتها الدول الأوربية، وإلى النظرة التقليدية للمخزن التي لم تفكر في إقامة إدارة وطنية صحية، مما جعله يقف عاجزا أمام خطر الأوبئة، وهذا فتح المجال أمام القنصليات الأجنبية للتدخل في الشؤون الصحية للحجاج بطنجة أكثر، ففي سنة 1831 انتشرت الكوليرا بالحجاز، وخافت الدول الأوربية من انتقال العدوى إلى المغرب عبر الحجاج، فقرر القناصل الأجانب إرغام أرباب السفن على عمل الحجر الصحي (الكرنتينة) قبل القدوم إلى طنجة، وهكذا حطت سفينة السيست المالطية في طنجة في 28 مارس1836م، بعدما تعرضت للحجر الصحي في مالطا، وعلى متنها 220 حاجا، ومنذ هذا التاريخ بدأ خطر التدخل الأجنبي بالميدان الصحي المغربي، والذي سيواجهه المغرب في المستقبل وبشروط أقوى مع تأسيس المجلس الصحي الدولي بطنجة.

 وقبل الحديث عن دور المجلس الصحي بسلبياته وايجابياته، نذكر بعض التدابير التي قام بها المخزن في ميدان اتقاء انتشار الأمراض، وسنلاحظ أنها كانت بسيطة إلى درجة كبيرة، ففي رسالة كتبها السلطان المولى الحسن سنة 1879 إلى أمناء تطوان يأمرهم بالاعتناء بنظافة المدينة، وبتخصيص مداخل المجازر لذلك، فمما جاء فيها: “وبعد لقد رفع لحضرتنا العالية بالله الإعلام بتكاثر الأزبال والقاذورات بالطرق، ولا ينبغي السكوت عنها فإن الدين مبني على النظافة، مع ما ينشأ عن التغافل عنها من الوخم وفساد الهواء، وقد كنا عينا للتنظيف مستفاد المجزرات، وأمرنا بصرفه فيه، ثم إنه لا يصرف في ذلك على ما ينبغ …فنأمركم أن تقوموا..على ما ينبغي، وتعينوا رجلا حازما ضابطا يقف عليه” .
كما قام المخزن بخطوات أخرى لمنع دخول الوباء إلى المغرب، لكنها كانت تتم وفق اقتراحات من المجلس الصحي بطنجة، ومن أمثلة ذلك الرسالة السلطانية التي بعثها المولى عبد الرحمن بن هشام إلى عبد الرحمن أشعاش بتطوان، وهذا نصها: “وبعد :فقد طلب منا جميع القنصوات أن لا يدخل لمراسينا السعيدة ما كان من ثياب اللباس قديمة…وحوائج الفراش …وغير ذلك مما يمكن أن يكون مكمونا فيه رائحة المرض، ويعود بالضرر ويكون مظنة ذل، فأجبناهم لما طلبوا، لأنهم أعرف بأمور دنياهم، وعليه فكل ما ورد من ذلك لا تقبلوه”.


وهناك رسالة أخرى للسلطان إلى قائد تطوان تقول: “فقد كتب لنا قنصوات الأجناس بمحروسة طنجة، بأن القانون المتعارف عليه عندهم في المراكب التي ترد حاملة الحجاج هو أن لا تأتي إلا على طنجة… ولا يدخل مركب منها للمرسى إلا بعد أعمال الكرنتينة… وإن كل ما ورد منها على غير طنجة لا يقبل ويرد إليها، وعليه فكل من ورد عليكم منها لا تقبلوه وردوه للثغر المذكور”، وقد جاءت هذه الرسالة عقب إرسال المجلس الصحي رسالة إلى المولى عبد الرحمن يأمره فيها بعدم السماح بنزول السفن في المغرب قبل تطبيق الحجر الصحي، ولقد قوبل رده بارتياح كبير من طرف اللجنة الصحية بطنجة، وقد استغل هذا المجلس توصيات السلطان الصادرة فبدأ منذ سنة1846 تعيين مناديب صحيين في الموانئ لمنع رسو أي سفينة دون ترخيص.

   ومن هنا بدأ يتحول المجلس الصحي إلى سلطة مستبدة تصدر ضد السفن العائدة من الحج قرارات جائرة، وكان هذا الجانب يثير حيرة المخزن وقلقه لعلمه بشدة وقعه على الرأي العام المحافظ، وازدادت شروط الحجر الصحي (العزل) قساوة لدرجة أنها بدأت تستهدف حتى السفن التجارية القادمة من مالطا أو ماهون، إذا كانت تحمل على متنها حجاجا، ثم ترسل مباشرة إلى طنجة.

ويمكننا في هذا الإطار أن نضيف الضجة التي أثارتها قضية طرد السفينة التركية سمنونت، التي عادت بالحجاج إلى عاصمة الشمال، حيث لم تجد التماسات المندوب السلطاني محمد بركاش بطنجة شيئا، وقد تم هذا الطرد في ظروف مأساوية، وكان القرار تعسفيا، مما أثار سخط الرأي العام الداخلي بما فيهم الأعيان والعلماء، وفي ما يلي نورد جزء من رسالة أعيان فاس وتجار مدينة مكناس إلى المولى عبد الرحمن بن هشام يقولون فيها: “وهذه مهانة للمسلمين لم يتقدم مثلها، لأن الثغور ثغور الإسلام، وأمرها بيد مولانا المظفر الإمام”، وقد قام السلطان بتأنيب نائبه محمد بركاش على موافقته عليها، وهذا مقتطف من الرسالة. “ومع عظم هذه النازلة إذ ليست بسهلة…نأسف غاية التأسف على المسلمين لما نزل بهم من الهوان، وتعريضهم للضياع، وهل مثل هذه النازلة يسكت عنها وتهمل”، ولما بالغ الأجانب في التدخل بشؤون الحجاج تدخل السلطان محمد بن عبد الرحمن حيث عين جزيرة الصويرة مكانا لإجراء الكرنتينة، ورغم هذا الإجراء فقد ظل أطباء المجلس ونوابه يشرفون على إدارة هذا المحجر، وفي عهد المولى الحسن تمكن المجلس من انتزاع ثلاثة ظهائر جديدة خولته ممارسة سلطة واسعة بطنجة.

   وبعد وباء الكوليرا الذي تسرب إلى المغرب سنة 1895، قرر المجلس الصحي تصعيد إجراءاته ضد الحجاج العائدين من الديار المقدسة، بعدم السماح لهم مطلقا بالنزول إلا بجزيرة الصويرة، سواء كانت السفن سالمة أو موبوءة، وقد قابل المخزن هذه الإجراءات بالرفض، وكان أمامه إما استئصال المجلس من أصله، وهذا لم يكن ممكنا في ظل الظروف آنذاك، أو منع الحج، وقد كان هذا القرار هو الذي عزم عليه المغرب، وأخبر به اباحماد الممثل الانجليزي الذي استعمل جهوده لإقناعه عن العدول عن القرار مقابل أخد شروط المغرب بعين الاعتبار، وهي أن يقتصر الإنزال في الصويرة على السنة الموبوءة دون غيرها، وأن يكون ذلك بإذن مسبق من طرف المخزن، غير أن المجلس الصحي لم يلتزم بما اتفق عليه، مما دفع المخزن إلى التفكير في منع الحج سنة 1897، وكتب بذلك محمد الطريس للمجلس الصحي الذي وافق بسبب توفره علم معلومات بظهور وباء الطاعون بالهند، وبعد استفتاء فقهاء مراكش ووصول جوابهم بالموافقة، أصدر أوامره إلى كافة المدن بمنع الحج، ولم يكن هذا المنع بسبب الطاعون المذكور، وإنما ردا على تحرشات المجلس الصحي للحجاج .


ولم يكن هذا الخلاف الوحيد بين المخزن والمجلس الصحي، بل كانت هناك معضلة أخرى وهي مشكلة النفقات التي كانت تصرف بالحجر الصحي، فقد شكلت عنصرا آخر للنزاع بينهما، إذ كان المخزن مطالبا بأداء هذه النفقات المبالغ فيها، وكانت كل الخسائر التي تتم أثناء الحجر الصحي يؤديها المخزن من مالية بيت المال، وفي حالة امتناعه من تسديد ذلك كان المجلس يهدد بمنع الشركات الملاحية من نقل الحجاج إلى المغرب، وأمام هذه المبالغة حاول المغرب الوقوف على أثمان الأدوية بنفسه، وأداء أجرة الطبيب المزاول بعد نهاية الكرنتينة، ومع ذلك استفحل المشكل أكثر، خصوصا عندما أصبح الحجاج المغاربة ملزمين بقضاء حجر أولي في مطيفو بالجزائر قبل التوجه إلى ميناء الصويرة، وقد أصبحت هذه المصاريف تشكل عبئا كبيرا على المخزن نظرا للضائقة المالية التي اشتد وقعها على الخزينة، خصوصا في بداية القرن العشرين، حتى اضطر أمامها إلى فرض ضريبة على كل حاج بمبلغ خمس ريالات قصد التخفيف من عبئه المال.

 إن شروط الحجر الصحي كانت صعبة، وإن القبول بفكرة التدخل في الشؤون الصحية للأجانب في المغرب وخصوصا في شؤون الحج لم تساهم إلا في خرق هبة المخزن، نتيجة التنازلات التي كان يقدمها للقوى الأجنبية، أما السكان فكانوا يرون فيه هيئة فضولية تتدخل فيما لا يعنيها… خاصة عندما تقترح على الحكومة عزل الأصحاء عن المرضى، أما الحجاج وربابنة السفن فكانوا ساخطين إلى أقسى درجة، لما كانوا يلاقونه من مشقة في الحجر الصحي، وكثيرا ما تحايلوا للنزول دون الذهاب للكرنتينة، ومنهم من كان ينزل سرا وراء منارة مالاباطا. أما موقف العلماء فقد تباين منها ما بين موافق ورافض لها، وإن كان الغالبية يرون حرمتها، وقد ورد نص في المسألة عند الناصري في مناقشة أمر الكرنتينية.

أسس السفراء الأجانب كما سبقت الإشارة مجلسا صحيا بطنجة منذ أيام حكم السلطان عبد الرحمان بن هشام، يهدف إلى إنشاء محجر صحي لوقاية المغرب من أضرار الأوبئة.
وقد أثار هذا المجلس ردود أفعال معارضة خصوصا من طرف العلماء، وفي هذا الإطار يندرج التقييد الذي أثبته المؤرخ الفقيه أحمد بن خالد الناصري في كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، وفيه يستنكر هذا التنظيم استنادا إلى عدة اعتبارات.

  لقد أدت المشاكل الناتجة عن تطبيق سياسة الكرنتينة (الحجر الصحي) إلى حد “استفتاء السلطان عبد العزيز لعلماء فاس ومراكش عام 1897 حول المنع المؤقت من سفر الحجاج توقيتا من الوباء، والمعروف الآن هو جواب في النازلة لمحمد بن جعفر الكتاني (راجع محمد المنوني). وقد أثبت نصه في سلوة الأنفاس. وقد وقفنا على هذا الجواب في الجزء الثاني من الكتاب المذكور. ومما جاء فيه: “وقد كان ورد السؤال على فاس الغراء من حضرة مراكش الخضراء، من سيدنا أمير المؤمنين…مولانا عبد العزيز…في السنة التي قبل هذه (أي في 1314هـ)، عن قوم أرادوا الذهاب لحج بيت الله، والحال أن أجناس النصارى –دمرهم الله- اتفقوا على التنكيل البالغ بمن يحج من هذه السنة من الأنام، فهل يمكنون منه والحالة هذه أم لا؟ وقد كتبت في ذلك كتابة أحببت أن أذكرها ها هنا حفظا لها من الضياع، وحرصا على عموم الانتفاع، نصها بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فمما هو ضروري لدى كل إنسان، ومعلوم حتى عند صغار الولدان، أن الحج أحد أركان الإسلام وقاعدة من قواعده المجمع عليها بين الأنام، وأنه من الفروض العينية، على كل من له استطاعة من البرية، قال تعالى: “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا”، وقال عليه السلام: “بني الإسلام على خمس…”، …وقال: “من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا”.

ومما هو معلوم – أيضا- أن من جملة الاستطاعة وجود ما يكفي من البضاعة، والأمن على النفس والمال والدين، ومن أن يفعل به ما يخل بمروءته أو يشين، وأنه متى فقدت فقد الوجوب والانبرام… ومن المعلوم في هذه الأزمان الأخيرة تأديته بالنسبة لغالب العوام إلى محرمات كثيرة: منها، وهو أشنعها، تلفظ كثير منهم عند جريان بعض المحن عليهم بما هو عين الكفر، أو ربما آل إليه…ومنها: تضييع الصلوات والجهل عند جريان بعض المحن مما يعرض في السفر من العبادات.. ومنها الركوب في مراكب أعداء الدين والكفرة المعتدين، حيث يعلم أنه تجري أحكامهم بالإهانة عليهم، وأنهم يتوصلون بشيء من الأذى بالفعل إليه.

   فقد جاء في شرح مسلم ما نصه: “وأما ركوبه في مراكب النصارى التي الراكب فيها تحت نظرهم، فلا يجوز”، ونحوه لغير واحد وقال بعضهم “إن تحقق جريان أحكامهم عليه حرم ركوبه في مراكبهم وإن لم يتحقق ذلك فقولان بالكراهة والتحريم”. وقال الشيخ أبو العباس القباب: “أكثر الأشياخ على النظر فيها ينال منه، فإن كان يؤدي إلى أن يكره على سجود لصنم، أو إذلال للإسلام، لم يجز، وإلا كره، قال: وهذا القدر لم تجر به العادة في مراكبهم”. وقال الشيخ زروق في شرحه لحزب البحر، لما تكلم عن ركوب البحر، وأنه ممنوع في خمسة أحوال …الرابعة: “إذا أدى ركوبه للدخول تحت أحكامهم، والتذلل لهم، ومشاهدة مناكرهم، مع الأمن على النفس والمال…قال: وهذه حالة المسلمين اليوم في الركوب…وقد أجراها بعض الشيوخ على مسألة التجارة بأرض العدو، ومشهور المذهب فيها الكراهة…”. فالمرء في السفر للحج، إن كان يعلم أو يظن عدم السلامة من ارتكاب بعض المحرمات، لم يجز له الإقدام على ذلك. وأكد أنه رغم أن طريق الحج أصبح ميسرا بفضل السفن الحسان عما كان عليه الأمر في الطريق البرية البعيدة، “فإنه تكدر صفو ذلك بجريان أحكام أهل الشرك هنالك”.

وختم بقول العلماء: “والناس موكولون في هذه العبادة…إلى ما حملوا من الأمانة، ويردون في فعلها وتركها إلى ما عندهم من اليقين والديانة، بيد أنهم يعلمون منها ما جهلوا، والله حسيبهم بعد ذلك في ما عملوه، إلا إذا تمالكوا على الترك في جميع الأقطار، ومن سائر النواحي والأمصار، فعلى الإمام أو غيره من جماعة المسلمين تعيين طائفة من المحتسبين لتذهب إلى ذلك المقام لإقامة الموسم في كل عام، وإذا تحقق أو غلب على الظن أنه يلحقهم بالسفر إليها مكروه شديد، أو يقعون بسببه في وبال عظيم ونكال مبيد، فللإمام حينئذ أن يمنعهم منها في العام الذي يظن فيه حصول ذلك، بل ذلك من النصيحة الواجبة عليه هنالك كما ذكر سيدنا حفظه الله في ما أخبر به نائبه بطنجة عن هذا العام، وما يحصل فيه من البأس العظيم…كتبه محمد بن جعفر الكتاني لطف الله به آمين”.

   من المعلوم أن الدول الأوربية هي أول من اعتمد التدابير الصحية الوقائية، وذلك منذ القرن الرابع عشر، ثم حدث في سنة 1851م أن وحدت هذه الدول سياستها في هذا الميدان انطلاقا من أول مؤتمر دولي صحي عقد بالعاصمة الفرنسية باريس، وأمام ضغوط أوربا شهدت عدة أقطار إسلامية، وعلى منوال الدول الأوربية، تأسيس مجالس صحية دولية، تكونت من أطباء وقناصل أجانب وممثلين عن تلك البلدان، ومنها المجلس الصحي الدولي بالمغرب، ومن التدابير التي كانت تتخذها هذه المجالس فرض حجر صحي وقائي، ومراقبة صارمة لكل السفن الموبوءة، أو المشكوك في حالتها الصحية، وهو ما عرف لدى المغاربة بالكرنتينة.


وقد أشار بعض السفراء المغاربة إلى إجراء الكرنتينة أثناء زيارتهم لبعض البلدان الأوربية، ونجد أول إشارة إلى ذلك في كتاب السفير ابن عثمان المكناسي الإكسير في فكاك الأسير، فبعد وصوله إلى سبتة سنة 1799 وصفها بقوله: (وذكروا لنا قبل أن لا بد من أن نجعل الكرنتينة، ومعناها أن يقيم الذي يرد عليهم في موضع معروف عندهم، معد لذلك أربعين يوما، لا يخرج منه ولا يدخل عليه أحد …ولهم في ذلك تشديد كثير، حتى أن الذي يأتي إلى صاحب الكرنتينة بطعام يطرحه له من بعد، ويحمله الآخر ولا يتماسان، وإذا ورد عليهم بكتاب، ذكروا أنه يغمسونه في الخل بعد أن يقبضوه منه بقصبة).

 إن هذا الوصف الدقيق يؤكد أن الكرنتينة ظاهرة جديدة لا عهد للمغاربة بها وقتذاك، لذلك فقد وصفها كشيء غير مألوف، ونلاحظ أنه اكتفى بالوصف دون أن يبدي رأيه فيه. وقد تحدث المؤرخ أبو القاسم الزياني في كتابه: الترجمانة الكبرى في أخبار المعمورة برا وبحرا عن التدابير الصحية التي واجهها في تونس أثناء عودته سنة 1794م مع عدد من الحجاج من مكة، إذ لم يسمح لهم بدخول ميناء تونس إلا بعد قضاء حجر صحي لمدة عشرين يوما، وقد وصف الزياني هذا الإجراء بالشناعة الممنوعة عرفا ودينا، ثم زاد قائلا: (إنهم أنزلونا وسط البحر بقصد بدعة الكرنتينة، التي جعلوها دفعا للوباء قبح الله مبتدعه). وقد عاين أيضا نفس الإجراء الأديب العربي المشرفي بمصر سنة 1841، وهو في طريقه إلى مكة لأداء مناسك الحج، وقد عبر عن رأيه الصريح بقوله المثبت في كتابه في أقوال المطاعين: “نعوذ بالله من هذا الاعتقاد فلا يموت ميت دون أجله.

لكن أهم موقف نسجله من الكرنتينة في المغرب يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي أصبحت فيها مسألة الحجر الصحي تلاقي اهتماما متزايدا من طرف المغاربة الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للبث في مدى مشروعيتها، بعد أن أصبح العمل بها في بلادهم أمرا جاريا ومفروضا بقوة قانون المجلس الصحي.

 لقد كان الشيخ المؤرخ أحمد بن خالد الناصري من الفقهاء والمؤرخين الذين تناولوا هذه القضية بالتفصيل، فقد أصدر فتوى شرعية بتحريم الحجر الصحي، وهذا نصها: (جرت المذاكرة فيما يستعمله النصارى في أمر الكرنتينة من حبس المسافرين وشداد الآفاق عن المرور بالسبل، والدخول إلى الأمصار والقرى، ومنع الناس من مرافقهم وأسباب معاشهم، وحصل التوقف تلك الساعة في حكمها الشرعي ماذا يكون لو أجريت على قواعد الفقه، ثم بعد ذلك وقفت على رحلة العلامة الشيخ رفاعة الطهطاوي المصري في أخبار باريز، فرأيته ذكر في صدرها أنه وقعت المحاورة بين العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد المناعي التونسي المالكي المدرس بجامع الزيتون، ومفتي الحنفية بها العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد البيرم في إباحة الكرنتينة وحضرها، فقال المالكي بحرمتها وألف في ذلك رسالة، واستدلاله فيها على أن الكرنتينة من جملة الفرار من القضاء، وقال الحنفي بإباحتها، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة أيضا، فلما وقفت على هذا الكلام تجدد لي النظر في حكم هذه الكرنتينة، وظهر لي أن القول بإباحتها أو حرمتها منظور فيه إلى ما اشتملت عليه من مصلحة ومفسدة، ولو مرسلة على ما هو المعروف من مذهب مالك رحمه الله، ثم يوازن بينهما وأيتهما رجحت على الأخرى عمل عليها، فإن استوتا كان درء المفسدة مقدما على جلب المصلحة كما هو معلوم في أصول الفقه، ًونحن إذا أمعنا النظر في هذه الكرنتينة وجدناها تشتمل على مصلحة وعلى مفسدة، فأما المصلحة: ففي سلامة أهل البلد المستعملين لها من ضرر الوباء، وهذه المصلحة كما ترى غير محققة، بل ولا مظنونة، لأنه ليست السلامة مقرونة بها كما يزعمون، وأنه مهما استعملها أهل قطر أو بلد لا يسلمون لا دائما ولا غالبا، بل الأكثر أو الأكثر أنهم يستعملونها ويبالغون في إقامة قوانينها، ثم يصيبهم مما فروا منه، كما هو مشاهد، ومن زعم أن السلامة مقرونة بهذا دائما أو غالبا فعليه البيان، إذ البينة على المدعي، فنتج عن هذا أن مصلحة الكرنتينة مشكوكة أو معدومة، وإذا كانت كذلك، فلا يلتفت لها شرعا ولا طبعا، لأنها حينئذ من قبيل العبث).

ويضيف (أما المفسدة فهي دنيوية ودينية، أما الدنيوية فهي الإضرار بالتجار وسائر المسافرين إلى الأقطار، بحبسهم، وتسويقهم عن أغراضهم، وتعطيل مرافقهم على أبلغ الوجوه وأقبحها، كما هو معلوم، وأما الدينية فهي تشويش عقائد عوام المسلمين والقدح في توكلهم، وإيهام أن ذلك دافع لقضاء الله تعالى وعاصم منه، وناهيك بهما مفسدتين محققتين ترتكبان لشيء يكون أو لا يكون….مع ما في استعمال هذه الكرنتينة من الاقتداء بالأعاجم… ورمقهم بعين التعظيم ونسبتهم إلى الإصابة والحكمة كما قد يصرح به الحمقى من العوام، فأما إذا وافق قدر من السلامة عند استعمالها، فهي الفتنة والعياذ بالله، فأي مفسدة أقبح من هذه ؟ فالحاصل أن الكرنتينة اشتملت على مفاسد كل منها محقق، فتعين القول بحرمتها، وجلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير، وقد ذكر العلامة الحافظ القسطلاني… بوجوب الحذر من جميع المضار المظنونة، ومن ثم علم أن العلاج بالدواء والاحتراز عن والوباء والتحرز عن الجلوس تحت الجدار المائل واجب.هـ. وهو يقتضي بظاهرها الاحتراز عن الوباء واجب بأي وجه كان، ولا يخفى انه يتعين تقييده بالوجه الذي ليس فيه مفسدة شرعية، كعدم القدوم على الأرض التي بها الوباء، ونحو ذلك مما وردت به السنة ولا تأباه قواعد الشريعة كبعض العلاجات المستعملة…أما بالوجه الذي يشتمل على مفسدة أو مفاسد كهذه الكرنتينة فلا، هذا ما تحرر لنا في هذه المسألة).

 ويعزز الناصري موقفه هذا قائلا: (ولما وقف على هذا الكلام أخونا في الله العلامة الأستاذ أبو محمد عبد الله بن الهاشمي بن خضراء السلاوي وهو اليوم قاضي حضرة مراكش كتب إلي ما نصه: (وأما حكم الكرنتينة فهو ما ذكرتم من الحظر، وبه أقول لما فيه من الفرار من القضاء مع المفاسد العظيمة التي لا تفي بها مصلحتها على فرض تحققها أو غلبة ظن حصولها سيما وقد انتفيا بعد التجربة المتكررة في الجهات المتعددة، ولا يخالف في هذا الحكم إلا مكابر متبع للهوى فماذا بعد الحق إلا الظلال.. ثم جلب حفظه الله من النصوص ما يشهد لذلك، تركناها اختصارا والله تعالى الموفق بمنه).

   نختم هذا الموضوع بتسجيل مفارقة كبيرة جدا عن النظرية العامة للعدوى وإجراءات الحجر الصحي، والتي تجد جذورها في إنجازات الطب العربي الاسلامي، فكتاب الحاوي للرازي فيه إشارات كثيرة عن انتقال العدوى بين المجذومين. كما أن ابن الخطيب الاندلسي له رسالة صريحة يحذر فيها من خطر انتقال عدوى الطاعون الأسود بين المصابين عن طريق المخالطة وهو الموضوع الذي كان غائبا عن الكتابات الأوروبية القروسطوية، بيد أن الدول الإسلامية لم تأخذ بالحجر الصحي ولم تعتمده، في حين نجد أن الدول الاوربية اعتمدت الحجر ضد الطاعون منذ 1450، أي قبل اكتشاف سبب المرض بأربعة قرون.

*باحث في التاريخ

Share
  • Link copied
المقال التالي