Share
  • Link copied

الجزائر تتجه نحو مراجعة عقيدتها العسكرية

يتضمن مشروع التعديل الدستوري، الذي طرحه الرئيس الجزائري في هذه الأيام للنقاش المجتمعي، مجموعة من المقترحات الدستورية الجديدة وغير المعهودة في الدساتير السابقة. ولعل أهم ما يثير انتباه المرء وهو يطلع على فقرات هذا المشروع هو اتجاه الجزائر نحو مراجعة واحد من أعرق الأعراف والمبادئ التي ظلت تحكم عقيدتها العسكرية وسياستها الخارجية والأمنية بعد الاستقلال والى حدود اليوم، يتعلق الأمر برفع الحظر عن مشاركة الجيش في عمليات ومهام عسكرية خارج الحدود الاقليمية للدولة. حيث نص مشروع التعديل الدستوري تنصيصا واضحا وصريحا على أنه يمكن لرئيس الجمهورية ”إرسال وحدات من الجيش الى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية ثلثي أعضائه”، كما يمكن للجزائر، حسب نص المشروع دائما، ”أن تشارك في عمليات حفظ السلام في الخارج  في إطار كل من الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والجامعة العربية”. ولاشك أن هذا التعديل لم يأت من فراغ بقدر ما فرضته جملة من التحولات الطارئة على الساحة الداخلية والخارجية للبلاد خلال العقدين الأخيرين، والتي حتّمت عليها التفكير في ضرورة تكييف عقيدتها الأمنية وإعادة صياغتها بالشكل الذي يتواءم أكثر مع مطامحها الاستراتيجية ومطامعها الجيوسياسية، المغاربية والافريقية.  

لقد ظل مبدأ عدم تدخل الجيش خارج حدود البلاد من المبادئ الدستورية المركزية التي تحكم السياسة الأمنية والدفاعية في الجزائر المعاصرة. في هذا الاطار، ينص الفصل 29 من الدستور الحالي علـى ”عدم لجــوء الجزائر إلـى الحرب التـي من شأنها أن تمسّ بسيادة الدول أو حريات الشعوب الأخرى”. كما يؤكد الفصل 31 على مبدأ ”عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول” المنصوص عليه في ميثاق منظمة الأمم المتحدة. وانسجاما مع هذه المقتضيات الدستورية، رفضت الجزائر التدخل العسكري في ليبيا، حيث صوتت في مارس2011 ضد قرار الجامعة العربية  وسعت إلى تسخير منظمة الاتحاد الافريقي في اتجاه تغليـب الحل السيـاسي وليـس العسكـري للأزمـة الليبيـة.

ولم تعتــرف بالحكومة المؤقتة التي قامت في البلاد عقب التدخل العسكري لحلف الناتو. كما دافعت الجزائر -في البداية- عن الحل السيـاسي للأزمة التـي اندلعت فـي شمـال مـالي، انسجـامـا مع قناعتها بأن التدخل العسكري فـي الساحل ليس إلا سلوكـا استعماريا من شأنه تقويض الأمن والاستقرار في المنطقة. كما امتنعت عن المشاركة في الحرب ضد الحوثيين في إطار ما سمي بعاصفة الحزم العسكرية، وأدانت التدخل العسكري في سوريا داعية الى حوار سياسي توافقي كمدخل وحيد لحل الأزمة في هذا البلد. وانسجاما مع مبدئها الدستوري هذا، رفضت الانتماء الى ما سمي بالقوة العربية المشتركة، كما رفضت أيضا الانضواء تحت لواء التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الارهاب بقيادة السعودية، وكذا الانضمام الى مجموعة دول الساحل الافريقي الخمس التي تهدف الى ملاحقة التنظيمات المسلحة في مالي بالتنسيق مع السلطات والقوات الفرنسية.   

مع ذلك، وبالنظر إلى التعامل الجزائري مع ما يستجد من أزمات ونزاعات إقليمية وخاصة الافريقية منها من جهة، وعضويتها بل وأدوارها القيادية في التجمعات والتكتلات الأمنية والدفاعية التي تأسست على مستوى منطقة جنوب الصحراء الكبرى من جهة أخـرى، فإنه يمكـن القول أن الجزائر ما فتئت تتراجع تدريجيا عن مبدأ عـدم التدخل العسكري الذي ظل يحكم، نظريا ودستوريا، تعاملها وتفاعلها مع القضايا القائمة والمستجدة في دول الجوار. ويمكن أن نلمس تجليات هذا التراجع وهذه المرونة التي أخذت تعرفها السياسة الخارجية للجزائر من خلال تتبع السلوك السياسي الخارجي للبلد على عدة أصعدة. فمثلا، عند تدخل فرنسا عسكريا في شمال مالي سنة 2013 سمحت الجزائر للطيران الفرنسي بالعبور فوق ترابها لتنفيذ عملياته العسكرية، ومن خلال دعمها هذا لفرنسا في التدخل ضـد الجمــاعـــات الأصـــوليـة فــي مــالي استنتج المراقبون في حينه أن الجزائــر لم تعـد تتعــامل مـع مبـدأ عـدم التدخل خارج ترابها الوطني بنفس الدرجة من الصرامة التي درجت عليها من قبل. كما أن اتفاقية التعاون العسكري التي أبرمتها في ماي 2014 مع تونس أمست توحي كذلك بأنه بإمكان السلطات الجزائرية أن تتعامل لاحقا بمرونة أكبر مع هذا المبدأ في إطار مواجهتها للمخاطر والتهديدات الأمنية العابرة للحدود. كما شاركت في نفس السنة، بآلاف من الأفراد في ليبيا وذلك بتنسيق مع البحرية الأمريكية والقوات الخاصة الفرنسية المتمركزة في النيجر، في مهمة محاربة أعضاء تنظيم القاعدة في بعض المناطق التي تعتبر مصدرا لنقل السلاح نحو تونس والجزائر وكذا تدمير البنيات التحتية ومعسكرات التدريب للحركات الجهادية التي تتواجد فــي الجنوب الليبي. غيـر أن الجزائر لم تعلن عن هذه المهمة رسميـا وذلك تفاديـا لردود فعل الرأي العام الوطني الـذي سيستهجـن تحالف الجيش الجزائـري مع الجيـوش الأجنبية في حل الأزمات والقضايا الإقليمية. كما سمحت الجزائر أيضا لقواتها بالتوغل في الأراضي التونسية للمشاركة في عملية مشتركة تهدف الى ملاحقة الجماعات المتطرفة والخلايا الارهابية المتواجدة في منطقة جبل شامبي، غرب تونس..   

وإذا كانت الجزائر تتذرع بالدستور لتبرير امتناعها عن المشاركة في الحرب على تنظيم القاعدة والدولة الاسلامية رغم الطلبات أو بالأحرى الضغوط التي تمارس عليها من طرف القوى الدولية ومن فرنسا بالخصوص، فإن دورهــا فـي تأسيس بل وقيـادة مـا يسمى بلجنة الأركـان العملياتية المشتركةالتي تسعى إلى نشر القوات العسكرية في المنطقة، لينهض دليلا قويا على أن الجزائر ما فتئت تسير ومنذ مدة بخطى واضحة نحو إعادة نظر فعلية، في أفق مراجعة رسمية، لمبدأ ظل يشكل أحد ثوابت العقيدة العسكرية الجزائرية طيلة عقود طويلة. وهو الشيء الذي أخذ يتأكد اليوم بعد الاعلان عن ذلك بصريح العبارة في مشروع الوثيقة الدستورية الجديدة.

وقد ظلت الدولة الجزائرية تؤمن بما ينطوي عليه مبدأ عدم نشر قواتها خارج التراب الوطني من أهمية كبرى خاصة فيما يتعلق بتشجيع الاستقرار وتسوية النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية وكذا درء المشاكل التي قد يستتبعها فعل التدخل العسكري في هـذه الأزمة أو تلك، غير أن إدراكها مؤخرا للتحولات العميقة التي ما انفك يعرفها جوارها الاقليمي وخصوصا تدهور البيئة الأمنية في كل من ليبيا ومالي وما يشكله ذلك من خطر لأمنها القومي، قد دفعها دفعا لمراجعة مقاربتها الدستورية التقليدية التي من شأن الإبقاء عليها أن يحدّ من قدرتها على حماية عمقها الأمني والاستراتيجي في مجموعة من دول الجوار خاصة، ويعيق بالتالي أدوارها وفاعليتها بعد حيلولته دون التفاعل المطلوب مع العديد من الملفات الاقليمية..  

وعموما، فقد ظل هذا الأمر محطّ خلاف ونقاش واسع في الأوساط العسكريـة الجزائريـة بين من يرى ضرورة التشبث بالمقاربة التقليدية للدفاع التي يؤطرها المبدأ الدستوري القاضي بعدم التدخل العسكري خارج حدودها الاقليمية من جهة، ومن يسعى إلى تبني عقيدة عسكرية واقعية تطبعها المرونة والتكيف مع الحقائق والمعطيات القائمة، وتتعامل مع كل حالة من الحالات المستجدة على حدة من جهة أخرى، وهو الرأي الذي انتصر له الجيش أخيرا بعد إعلان الدولة سعيها لمراجعة هذا المبدأ وإقراره في التعديل الدستوري المرتقب. فهل ستتغير فعلا سياسة الجزائر الاقليمية وهل ستتحول عقيدة جيشها من عقيدة دفاعية الى عقيدة هجومية توسعية، خاصة في ظل اختلال التوازنات العسكرية في المنطقة بشكل واضح لصالحها؟

Share
  • Link copied
المقال التالي