لا يعدّ التعريف بالأعلام من مفكرين وأدباء ومثقفين وعلماء من الترف الفكري، ولا يصنف ضمن المُلح التي يمكن الاستغناء عنها، لذا اعتنت المجتمعات الإنسانية على اختلاف أعصارها وأمصارها بالتعريف بأعلامها، والاحتفاء بهم، وإظهار مزاياهم وشمائلهم، لما في ذلك من ترسيخ قيم “الائتساء”، وتسليط الضوء على أيقونات النجاح في سير أولئك الأعلام، ومواطن النبوغ ومكامن التفوق في مسيرتهم العلمية والحياتية.
كما أن التعرف على مسارب حيوات هؤلاء الكبار، تبرز بين ثناياها قضايا مجتمعية وتربوية وثقافية وسياسية، لا تقل أهمية عن موضوع السيرة ذاتها، ولو جمعنا تلك القضايا المنثرة لأسعفتنا في التأريخ للمجتمعات وتكوين صورة جديدة عنها.
والمغرب الأقصى من الأقطار التي تحبل بالرموز الثقافية والعلمية، لكن المغاربة مُقِلّون من التأريخ لرموزهم، وأرْشَفَة سيَرهم، مقارنة بالمشارقة، حتى صار بعض أعلامهم مجهولين كُلًّا أو جزءا، وحدثت بفعل ذلك فتوق في ذاكرة الأمة لا ترتق، وكسور لا تنجبر.
وهذا ما تنبه إليه غير واحد من المتأخرين والمعاصرين، فألف سيدي محمد بن جعفر الكتاني “سلوة الأنفاس” للتعريف بمن أقبر بفاس، جمع فيها ما تفرق في غيرها من المصنفات الخاصة والعامة، وترجم العباس بن إبراهيم التعارجي في “الإعلام” لكل من حل بمراكش وأغمات من الأعلام، وألف العلامة المختار السوسي لأعلام سوس، وجمع العلامة عبد الله الجراري تراجم أعلام العدوتين. كما تبنّوا مناهج أخرى في التعريف بالأعلام، كتعريف الحافظ أحمد بن الصديق أو الشيخ عبد الحفيظ الفاسي بشيوخهما عامة، أو تعريف العلامة المختار السوسي بشيوخه الحضريين من غير الإلغيين، أو تعريف الأستاذ عبد السلام بن سودة بأعلام المغرب حسب ترتيب الوفيات، أو الجهد الذي بذله الأستاذ عبد الله الجراري في التعريف بأعلام المغرب الذين أثروا الخزانة المغربية بمؤلفاتهم من خلال كتابه “التأليف ونهضته بالمغرب الأقصى في القرن العشرين”.
هذه الجهود وغيرها حفظت لنا ذاكرتنا، وحَمَت ظهرنا، ولم تجعلنا مجتمعا زنيما من الناحية الثقافية، وجعلتنا نجرؤ على تمثل قول الفرزدق مفاخرا:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
والتعريف بالأعلام قد تتنوع زوايا النظر فيه، فمنهم من يكتب سيرة عامة، ومنهم من يقارب جانبا من جوانبها، ولمعة من لمعاتها، وهذا ما توخينا مقاربته في هذه المسامرة، حيث رغبنا في تسليط الضوء على مرحلة الشباب من سيرة الدكتور عباس الجراري حفظه الله وسلمه.
والدكتور الجراري تولى الكتابة عن نفسه في إطار السيرة الذاتية، وأصدر “رحيق العمر”، لكنه شفع هذا العنوان المطلق بعنوان مقيد، وهو “موجز سيرتي الذاتية”، وحقيق به أن يعبّر بـ[الموجز] في هذا السياق، ولعله استعمله تواضعا لعدم قدرته على البوح الكامل، كيلا يقع في محذور “ولا تزكوا أنفسكم”. أو لعله استعمله لإحساسه بعدم القدرة على الإحاطة والشمول، لأن شخصية متعددة العلاقات، متنوعة المهام والمسؤوليات، يعجز المرء عن تحقيق المسح الشامل لسيرتها، والعجز هنا ليس ذا حمولة سلبية كما قد يُتوهم، ولكنه عجز إيجابي، وهو ما عبّروا عنه قديما بقولهم: “العجز عن الإدراك إدراك”.
ونظرا لأن الدكتور عباس الجراري لم يتول الكتابة إلا عن “موجز” من سيرته، فإنه لم يسدّ الباب أمام الباحثين عن التعريف بشخصه، وإبراز خصاله وشمائله، كل من زاوية نظره بحسب مخالطته أو مطالعته، وهو ما قد يسعفنا في تكميل ذلك “الموجز” وتتميمه.
في هذا السياق، شدتني رحلته “نسيم البوسفور”، وهي الرحلة التي قام بها إلى تركيا سنة 1968، وعمره آنذاك لا يتجاوز الواحد والثلاثين، وهي رحلة تعكس جزءا من شخصية الدكتور الجراري الشاب.
متن الرحلة
توجه الدكتور عباس الجراري إلى تركيا صيف سنة 1968، وأمضى فيها مدة قصيرة، كانت رحلة أكاديمية، خصصها للبحث عن ذخائر خزائنها الثرية، باحثا عن المخطوطات، ومصورا لها.
وقد توجه إلى هناك، وترك زوجته مع بنتيه الصغيرتين في المغرب، فاضطر إلى بعث الرسائل المتعاقبة إلى زوجته، وهي ثماني عشرة رسالة، مؤطرة زمنيا من 2 غشت 1968 إلى 3 شتنبر 1968.
وهذه المراسلات قد تصنَّف ضمن الإخوانيات، وقد تُصَنّف دون تكلف ضمن فن الرحلة، لأنها مكتنزة بالتفاصيل الدقيقة عن رحلته، ولو حذفنا استهلالات بعض الرسائل، وأسلوب المخاطَب، لكانت محض رحلة.
شخصية عباس الجراري الشاب من خلال “نسيم البوسفور”.
تعرفت على الدكتور عباس الجراري من خلال مؤلفاته أو أنشطته منذ بداية التسعينيات، لكننا لا نعرف عنه سوى الرجل الوقور، الأكاديمي الحكيم، الكاتب الناقد، الخطيب الذي يلقي دروسه أمام الملك، ثم المستشار الملكي.
لعل أبناء جيلي لا يكادون يعرفون عنه سوى ما ذكرنا، وكأنه وُلد هكذا، لكن تتبعنا “للنسيم” فرضت علينا أن نشم منه ما لا نعرفه عن شخصيته، فاكتشفنا عدة ملامح تميز شخصيته، منها ما تدل على رسوخ صفة “الحكيم”، ومنها ما تدل على حيدته عنها، وهي الحيدة الجميلة التي لا نستطيع التعرف عليها لولا هذا المتن السردي.
عرّفَنا “النسيم” على شخصية الشاب عباس الجراري من خلال عتبات متعددة، منها:
أولا: عباس الجراري … الشاب المتدين
عرف المغرب مدّا يساريا في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، وترسخت الأفكار العلمانية لدى الشباب المثقف، وتمثل كثير منهم العلمانيةَ في شقها الإلحادي، لدرجة أن الشباب في الجامعة كانوا يحظرون إقامة الصلاة بين جنباتها، ويسخرون من بعض قيم الدين وشعائره، وكانوا يعبرون عن ذلك في مكتوباتهم وإبداعاتهم المنشورة في المجلات الحائطية أو الملاحق الثقافية لبعض الجرائد.
وقد ترسخت الأفكار العلمانية أكثر في أذهان الشباب المغربي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، خصوصا بعد أحداث ماي 1968 بفرنسا.
وبعض المثقفين الإسلاميين اليوم كانوا متأثرين بالموجة الإلحادية المشار إليها، كالأستاذ امحمد طلابي من المغرب، أو منير شفيق من فلسطين، أو غيرهما.
وبالتعرف على شخصية الدكتور عباس الجراري اليوم، قد تجعلنا نعتقد مماثلته لهؤلاء، وأنه صار كما نعرفه بعد أن كان يساريا متأثرا بموجة الأمس، إلا أن “نسيم البوسفور” أزال العتمة عن هذه المرحلة، وبيّن لنا أن الشاب عباسا لم يكن علمانيا أو ملحدا، وأنه كان من الشباب المتدينين المتمسكين بشعائر الدين، وأنه كان زوارا لمساجد استنبول، وأتحفنا بأنْ قدم لنا أسماءها، ووصف معالم بعضها، فذكر أن أول مسجد صلى فيه هو مسجد نورو عثمانية، وهو المسجد الأقرب من فندق إقامته، والقريب من دار الإفتاء[1]، وأدى الصلاة في مسجد السلطان أحمد[2]، ونظرا للتعب الذي لحقه جراء التنقل بين المتاحف في يوم صيفي، قرر الاستراحة وتناول الغداء، لكنه آثر أن يقدم عليها صلاة الظهر في مسجد بايزيد[3]، وقد صلى في هذا المسجد أكثر من مرة، منها أول صلاة جمعة له هناك[4]، وصلى ثاني جمعة في مسجد السليمانية (194)[5]، ولم يكن يصلي حيثما وافقه الأذان، بل كان يقرر مكان الصلاة قبل حلول وقتها، فنوى –وهو في الفندق- أن يؤدي الصلاة في جامع أيوب، وهو مسجد بعيد، توجه إليه مستعملا الحافلة[6]، كما زار جامع الوالدة، أو الجامع الجديد[7] الذي صلى به ظهر يوم 31 غشت، وزار مسجد رستم باشا[8]، ويجمل علاقته بالمساجد ويميز بينها وبين سائر المواقع السياحية فيقول: “في نيتي أن أخصص بعض الأيام قبل السفر لزيارة أهم المتاحف، أما المساجد وتعتبر من أهم ما يزوره السواح، ففي أوقات الصلاة فرص لرؤيتها، وقد هيئ لي أن أزور كثيرا من هذه المساجد، وخاصة منها المشهورة”[9]، وبهذا يكون قد دخل “عشرات المساجد في استنبول” وحدها[10]، ولما زار مدينة بورصة، لم يشذ عن نهجه، فزار الجامع الأخضر[11] والجامع الأعظم ULU CAMI[12]، ووصفه بأنه “من أروع المساجد” التي رآها واستمتع بجماليتها.
ونظرا لهذا العدد من المساجد التي زارها في الظرف الوجيز الذي قضاه في رحلته، فإنه لم يكن مبالغا حين استعمل كلمة [كثرة] في قوله: “ولاحظت قبل الصلاة ظاهرة لم يسبق لي أن لاحظتها على كثرة ما صليت الأوقات المختلفة وفي أكثر من مسجد”[13].
والحس الديني عند الشاب الجراري لا يقتصر على أداء الشعائر التعبدية، وزيارة المساجد، بل نكتشفه من خلال أمارات أخَر، يمكن تنويعها إلى نفي وإثبات.
أما النفي، فإن الجراري أمضى عطلة الصيف في استنبول، وحكى تفاصيل دقيقة عن رحلته، ولم يذكر أدنى إشارة إلى مواقع غير لائقة، كأماكن شرب الخمر، والسهرات الليلية، رغم كثرتها هناك.
والإثبات نستفيده من أمنيته التي باح بها لزوجته أثناء حديثه عن صغيرتيهما علا وألوف، حيث دعا الله تعالى أن يوفقهما “إلى تربيتهما في طهر وصلاح وعلم ودين”[14]، هذا التوجه إلى الله تعالى صدر عنه في وقت كان كثيرٌ من نظرائه يعتبرون “الطهر والصلاح والدين” رجعية وتخلفا وأفيونا.
قد يعزو البعض هذه الملامح التدينية في الشاب عباس إلى والده وأسرته، وهذا قد نستسيغه في تحليلنا المادي، لكن بمقارنة بسيطة بينه وبين أبناء كثير من العلماء من طبقة والده، فإننا نجد كثيرا منهم تأثروا بالموجة الثقافية العامة، لذا فإننا نعزو الأمر إلى عناية الوالد أولا، وحكمة ونضج الولد ثانيا، والهداية الربانية قبل ذينك العاملين.
وإذا حلت الهداية قلبا نشطت للعبادة الأعضاء.
ثانيا: عباس الجراري .. الشاب الطموح الجدي
من يعرف عباسا الجراري اليوم، يعرفه قامة جامعية سامقة في سماء المعرفة بالمغرب والعالم العربي، ويعرفه مستشارا ملكيا ذا حظوة ومكانة في المجتمع، وقد يعمد البعض إلى استعمال تقنية قياس الغائب على الحاضر، فيظنه أنه كان من أهل الرفاه المادي منذ كان، وأنه ولد وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال.
وبقراءة هذه الرحلة، ينكشف الماضي المستور انكشافا، ونعرف حقيقة الشاب ومعاناته في الغربة، حيث عرفنا عباسا الجراري الذي هاجر إلى هناك اعتمادا على منحة من دولة تركيا في إطار اتفاقية رسمية مع المغرب، وفوجئ هناك؛ حين استلم منحته؛ أن ربعها قد تبخر بفعل “الدمغات” الإدارية، و”ضريبة الدخل”[15]، وهو ما لم يسكت عنه، وأخبر به مندوب الوزارة، ونجح في إرجاع ما اقتُطع بسبب الدمغات[16]، ولعله لم يتلق دعما ماديا آخر من جهة ثانية، لذا لم يستطع سداد فاتورة تصوير المخطوطات، فأجّل تسلمها أياما إلى حين توصله بمنحة الشهر الثاني[17]، وهي المنحة التي أمضى يوما كاملا في بداية شتنبر “جريا ولهثا من مكتب لآخر ومن إدارة لأخرى” لاستلام “الطرف الباقي” منها[18]، وتعلقت نفسه في الأيام الأخيرة من الرحلة بسجادتين من الصناعة التركية، فلم يجد بدا من اقتنائهما، فدبر الأمر، واقتطع ثمنهما من المبلغ المخصص لإقامته بمصر بداية من شهر شتنبر[19]، حيث استفاد من منحة اليونسكو “لإتمام البحث والإجراءات والتهييئات التي يتطلبها رقن الأطروحة، والاستعداد لمناقشتها”[20].
كما سطر الشاب الجراري معاناته في الإقامة، حيث سجل في رحلته أنه حُجز له في فندق مرتفع الثمن، وهو ما لم يرقه أيضا، خصوصا أن منحته قد خضعت لبعض الاقتطاعات كما ذكرنا، فاجتهد في تغييره ولم يفلح، نظرا لامتلاء الفنادق بالسائحين[21].
وإضافة إلى ارتفاع ثمن الفندق، فإن الغرفة لم تكن ذات مواصفات الرفاهية، وكانت مفتقرة إلى مكيف، فعانى من شدة الحرارة بها، وكانت تحت رحمة السيارات وما ترسله من أصوات المحركات والمنبهات، فكان يُحرم من النوم نهارا إن عاد إليها من المكتبات[22]، وحتى حمام الفندق لا يكون ماؤه ساخنا إلا ليلة الجمعة، وذات مرة، كانت قوة الدفع ضعيفة، فاضطر إلى الاستحمام بالماء البارد[23].
في هذه الظروف، كان الشاب عباس الجراري أمام معادلة ثنائية، ظروف مادية في حدها الأدنى، ورغبة جامحة في الإفادة من الخزائن التركية وتصوير مخطوطاتها، فاهتدى إلى تدبير الأمر بأن تبنى نمط حياة “أساسه التقشف وشد الحزام”، فكان يكتفي بـ(سميط) وكأس شاي صغير في الصباح، ووجبة شعبية في الغداء، وسندويتش جبن أو زبادي في المساء[24]، ولعل الشاب الجراري لم يقوَ على المواظبة في تبني ما أسماه “مذهب التقشف” لقساوته، فاضطر إلى التخلي عنه أحيانا، فسمح لنفسه بالجلوس في مقهى للاستراحة، وتناول بعض الحلويات الشرقية، واشترى بعض الفواكه[25].
ومذهب التقشف الذي تبناه الشاب عباس، فرض عليه بعض الممارسات التي لا يقوم بها أبناء العائلات المخملية، فتولى بنفسه قضاء كل أغراضه، فغسل قميصه وجواربه[26]، ولم يتوجه لحلاقة شعر رأسه إلا إلى دكان “أحد الحلاقين المتواضعين”[27].
هذه الظروف المادية حالت بينه وبين زيارة أنقرة عاصمة القطر التركي[28]، كما فرضت عليه استعمال بعض الحيل لكي يُخلّص نفسه من بعض المآزق، فحمل معه مجموعة من الكتب في حقيبته التي اصطحبها معه في الطائرة، ولو وزنها المراقبون لارتفع وزن حقيبته، ولارتفع معها ثمن الأداء، وهذا ما تخلص منه بحيل وذكاء الشباب[29].
لم يقع الشاب عباس تحت وطأة هذه الظروف المادية فحسب، بل رافقتها ظروف اجتماعية لا تسمح للإنسان أن ينعم براحة البال، فزوجته في رحلة البحث عن شغل، وبنته الأولى لم تسجل في الروض بعد، وبنته الأخرى تمر بفترة الأسنان، مع ما يرافق ذلك من تعب وأرق…[30].
هذه الظروف مجتمعة، عادة ما تعرقل مسار كثير من الباحثين، ولا تبعث إلا على التردد والتثبيط، ولا توحي إلا بالفشل واليأس، لكن الشاب الجراري سطر في رحلته ما يدل على جديته وطموحه، وتحديه للصعاب، فأعلن عدم استسلامه، وبذل وسعه في التغلب على كل هذا[31]، فتنقل في إسطنبول وغيرها من خزانة إلى خزانة، ومن مكتبة إلى مكتبة، لا همّ له سوى البحث عن دفائنها وذخائرها من المخطوطات التي لا توجد في المغرب، ولم تعرف بعد طريقها إلى الطبع، فنجح في تصوير 2450 ورقة، في كل ورقة صفحتان[32]، وبموازاة ذلك، كان يتعاهد أطروحته، فيراجع فصولها كل مساء، ويضيف إليها ما يكتشفه خلال النهار في هذا المخطوط أو ذاك[33].
ومما يجب أن يعرفه شباب اليوم عن شاب الأمس، أنه لم يفلح في تحقيق هدفه إلا بهذه الجدية والمجاهدة، المتمثلة في المرابطة بين الخزانات الكبيرة والمتباعدة، خصوصا في بداية الرحلة، حيث خصص لها مدة ثلاثة أسابيع متواصلة دون انقطاع، واضطر إلى أخذ عطلة نصف يوم بعد أن أجهده التعب وأخذ منه كل مأخذ[34].
ثالثا: عباس الجراري .. السفير الشاب
نبغ الشاب عباس الجراري وهو في سن الطلب، ونشر أبحاثا ودراسات في مجلات متعددة، أسفرت عن مكانته ومُكنته، فحدَسه الأستاذ أحمد بلافريج رحمه الله، وكان وزير الخارجية إذ ذاك، فطلب منه الانخراط في السلك الديبلوماسي، وعينه -بداية الستينيات -سكرتير سفارة المغرب بالقاهرة، وهي الوظيفة التي لم يطل مقامه بها.
يبدو أن حدس الوزير كان في محله، فالسفارة والسفير كما السَّفر، كلها من [س ف ر]، ولا يمكن للسفير أن يكون سفيرا ناجحا إلا إن قام بالإسفار عن وجه بلده في بلد الاعتماد، والإسفار عن بلد الاعتماد وخصائصه ومميزاته في بلده. وكذلك السفر، فإنه يسمى سفرا لأنه يسفر عن أشياء متعددة، منها تعرف المسافر على البلد المقصود، والتعريف به والإسفار عنه.
لعل الشاب عباسا الجراري استفاد كثيرا من المدة الوجيزة التي قضاها في سفارة بلده بالقاهرة، وتعلم تقنية “الإسفار”، فاستثمرها جيدا في رحلته إلى تركيا، وهي وإن كانت رحلة قصيرة لا تتجاوز الشهرين، إلا أنها أسفرت للقارئ عن دقائق وخبايا المجتمع التركي، تديناً وثقافةً ومعمارا وتاريخا وطقسا وسياسةً.
أسفرت مراسلات رحلة “نسيم البوسفور” على مجموعة من ملامح الشعب التركي في مرحلة نهاية الستينيات، فتعرفنا من خلالها أن الأتراك لا يتكلمون إلا لغتهم، ووسائل التفاهم معهم شبه منعدمة، والعربية أو الإنجليزية لا يعرفها إلا النادر منهم، أما الفرنسية فلم تطرق كلماتها سمع السارد[35]، وهذا ما يذكرنا بمقولة الجاحظ في رسالة “البغال”: “وقد رأينا بلاد الترك، فرأينا كل شيء فيها تركياً”[36].
هذا العائق اللغوي سيعمق صعوبات الباحث هناك، وقد وجد قيما على خزانة بورصة لا يعرف إلا التركية، ففهم منه بمشقة أن المخطوطات كلها جُمعت في خزانة جامع أورخان، ولما توجه إلى هناك، تحقق له التواصل بسبب وجود قيّم يفهم قليلا من العربية[37].
وقد أسفرت هذه الرحلة عن ملامح الوجه التركي، فعرفنا من خلالها تفاصيل دقيقة عن المعيش اليومي للأتراك، وهي تفاصيل تدل على دقة الملاحظة عند الشاب عباس الجراري، مثل ما قدمه من تفاصيل عن مشروبات الإنسان التركي، فذكر أن الأتراك يكثرون من شرب الشاي الأحمر، وأنهم يقدمونه في كؤوس صغيرة، أما القهوة، فتُتناول أقل من الشاي بكثير، وثمنها ضعف ثمنه، وتقدم في فناجين مختلفة الأشكال، ولا تُقدم حلوة إلا إن طُلبت كذلك، ولا يقدَّم معها الماء إلا إن طُلب أيضا.
والماء الذي يشربه أهل استنبول يُجلب من العيون المحيطة بمنطقتهم، وثمنه مناسب، ولا يشربون مياه الأنابيب الجارية في البيوت والفنادق، لوجود كمية هائلة من “الكلس” الذي يضر بالكلى[38].
واكتشفنا من خلال ورقات “نسيم البوسفور” أن الأتراك “لا يحلقون القفا بالموسى، ويستغربون” إذا طلبه الزبون من الحلاق[39]، كما تعرفنا على تفاصيل دقيقة ذات علاقة بالحمام التركي، فبيّن لنا السارد أن الداخل إلى الحمام يخلع حذاءه ويلبس الشبشب الجلدي في المدخل، وإذا أراد الولوج إلى وسطه استعمل القبقاب، والحمام من الداخل “عبارة عن قبة دائرية كبيرة، أرضها وجدرانها من الرخام، تحيط بها أحواض رخامية صغيرة يصب فيها الماء الساخن والبارد، بعضها مكشوف، وبعضها داخل غرفات”، وهكذا استرسل في ذكر التفاصيل إلى أن ذكر كأس الشاي الذي قُدم له في الأخير[40].
ولعل السارد يدمجنا تلقائيا في رحلته، فيجعلنا نتعرف على تفاصيل المجتمع التركي وكأننا صاحبناه في رحلته، فتعرفنا على جامع أيوب الذي صلى فيه الجمعة الأخيرة من شهر غشت، وهو الجامع الذي يعرف ازدحامين أثارا الانتباه، وهو ازدحام الجامع بالمصلين، حيث حضر قبل الصلاة بنحو ساعتين، ولم يجد مكانا للجلوس، وازدحام ساحات الجامع بالعدد الوفير من الحمام الذي قدّره بالآلاف[41].
كما قرّبتنا هذه الرحلة من طريقة الشعب التركي في الاحتفال بعيد استقلاله[42]، ووصفت لنا الزليج المستعمل في الأبنية الأثرية كالجوامع والمتاحف وغيرهما، وهو الزليج “الرائع الألوان، البديع الرسم واللمعان”، ومعظمه مما يصنع في معامل مدينة إيزنيك[43].
هذه الملاحظات الدقيقة، لم يكن لها لتغفل مسألة مهمة في الشعب التركي المعاصر، وهو ما يمكن تسميته بالأثر الأتاتوركي على اللباس والهندام، حيث ذكر أن الإنسان التركي لا يلبس الطاقية في الشارع، وإذا أراد الدخول إلى المسجد أخرجها من كيس خاص ووضعها على رأسه، أما الرجل الذي يرتدي القبعة في الشارع، فإنه لا يدخل بها إلى المسجد، بل يخلعها عند الدخول إليه[44]. وغان عن البيان، أن أتاتورك حظر على الأتراك ارتداء الطربوش والعمامة، وسنَّ سنة 1925 قانونا يعاقب بموجبه من يرتديهما، وفرض ارتداء القبعة/البرنيطة، وكان لكثير من العلماء موقف معارض لهذا القانون، وقد تطورت الأمور حول هذا الموضوع، وكان لها صدى في عموم العالم الإسلامي، ولعل الدكتور عباس الجراري كان على علم بذلك، لذا انتبه إلى هذه التصرفات من رواد المساجد، وسطرها في رحلته.
رابعا: عباس الجراري … التقويم والاستشراف السياسي
لم يعرف عن الشاب عباس الجراري أي نشاط سياسي، ولم نعرف له انتماء حزبيا أو ممارسات سياسية، وغاية ما عرفنا عنه أنه مثقف وأديب وناقد وذو مشاركات في الفكر الإسلامي، لكنه في ثنايا “نسيم البوسفور”، يقدم تقويما ونقدا دقيقا لأتاتورك وثورته، ففرّق بين الفشل والانتكاسة، وبيّن أن كمال أتاتورك لم يفشل في حركته الإصلاحية، “لأنه كان شخصية قوية مؤمنة بضرورة الإصلاح”، أما انتكاسته، فسببها قطعُه مع ماضي الأمة التركية، وإعلانه التقليد المطلق للغرب، وجعل الحروف اللاتينية بديلا عن الحروف العربية، ومنع اللباس الإسلامي، ومنع الأذان للصلاة بالعربية، هذه الانتكاسة ضيعت “على الأمة [التركية] تراثها الفكري والروحي والحضاري الممتد عبر الزمان، واكتفى ببعض مظاهره معروضة في المتاحف ميتة جامدة”.
هذه النكسة، قابَلَها رد فعل مجتمعي وسياسي حسب الشاب الجراري، وهو انبعاث “تيار إسلامي قوي”، يسري في عموم الأوساط الشعبية، خصوصا بين الطلاب والمثقفين.
انتبه الدكتور عباس الجراري حينذاك لهذا التيار القوي، ولعله كان موضوع نقاش مع بعض الأتراك، وقد نقل لنا قول بعضهم: “إذا استمرت الحكومة الحالية – وهي يمينية – فإنه سيتاح للحركات الإسلامية دور كبير تكون له آثار بعيدة”[45]، وهذا ما تحقق بعد أكثر من عقدين من الزمن.
خامسا: عباس الجراري .. الشاب المثقف
بما أن عباسا الجراري آنذاك من نخبة الشباب المثقفين، فإن الجانب الثقافي حظي بحيز مهم في هذه الرحلة، وذكر في ثناياها ما يتعلق بالموسيقى، حيث لاحظ أن الأغاني التركية “قريبة إلى الألوان المعروفة لدينا؛ مشرقية أو مغربية؛ بل شبيهة بها إلى أقصى حدود الشبه”، واستغرب من التشابه بين الموسيقى التركية ونظيرتها الأندلسية، لكن استغرابه سيقلّ حين أشار إلى “أن الموسيقى الأندلسية شرقيةٌ في أصلها”، وأنها امتداد للأصل، لكن استغرابه سيصل مداه، في تشابه آخر يصل به إلى “أقصى درجات الدهشة”، وذلك حين تحس الأذن بالشبه الكبير “بين بعض الغناء والموسيقى التركية، وبين الغناء والموسيقى المعروفة في سوس وبعض الأحواز”[46].
هذا الإحساس بالتشابه بين الموسيقى التركية ونظيرتها العربية والمغربية، قد يكون حكما انطباعيا، وبما أنه صادر عن الأستاذ عباس الجراري، فإنه لا يسعني إلا أن أتبنى رأيه وتشبيهه، لأنه الأقرب إلى الموسيقى وفنونها من عدة جهات، أهمها أنه ابن السيد عبد الله الجراري، الذي درس الموسيقى وكان له ولع بها، وكتب في قضاياها ومشاكلها وآفاقها، وهذا الانتساب إلى الأب وحده سيورث الابنَ أذنا موسيقية ذات إحساس مرهف، وملاحظة دقيقة، لذلك وضعتُ ملاحظته موضع الاعتبار، وبعد البحث، وجدت رأيا أكاديميا يعضد رأيه، ويؤيد انطباعه، وهو رأي أحد العارفين بالموسيقى التركية وخريج مراكزها الأكاديمية، الأستاذ والفنان فكرت كاركيا، صاحب كتاب “الموسيقى التركية عبر التاريخ”، وله محاضرات تناول فيها المقام التركي وتقاطعه مع المقام العربي، وخلص إلى أن “فكرة التقاطع بين المقامين ناتج عن اشتراكهما في كثير من الصفات، وتقارب محتواهما، وكذلك أسماء المقامات نفسها، ولا بد للانتباه إلى أن الموسيقى العربية والموسيقى التركية هما الأقرب لبعضهما ضمن بوتقة موسيقى دول الشرق في العالم، وهناك ألحان عظيمة من الإرث الموسيقي في العهد العثماني عبارة عن توليفات بين الموسيقى العربية والتركية”[47].
إضافة إلى الموسيقى، يمكن اعتماد رحلة “نسيم البوسفور” لاستخراج دليل code خاص بالمتاحف وخزائن المخطوطات وما يتعلق بهما من جوانب فنية وتاريخية.
فمن المتاحف التي زارها الشاب الجراري وعرّف بها في رحلته، نجد[48]:
** متحف الآثار.
** متحف الخزف والزليج.
** متحف الآثار الإسلامية (متحف الفنون الإسلامية).
** متحف الفسيفساء.
** متحف قصر توبكابي.
** متحف القديسة إيرين.
** متحف مدينة بورصة.
وفي متن الرحلة توضيحات عديدة حول مساحات هذه المتاحف وتاريخ تأسيسها وما تحويه من تحف وبدائع، وأحيانا يطيل النفس في الشرح والتقريب، فيخال القارئ أنه يرافق السارد في زيارة المتحف، ومن نماذج ذلك، ما قاله عن متحف قصر توبكابي الذي غطى ثلاث صفحات، نقتبس منها: “ذهبت صباح اليوم إلى متحف قصر توبكابي لأستلم بعض المصورات، ثم لأزوره، لأني لن أعود إليه بعد أن انتهيت من المكتبة، والدخول إلى القصر بأربع ليرات، باستثناء المكتبة، فإن الذهاب إليها بالمجان … وذهبت أولا لأستلم الشريط، ثم بدأت الزيارة، والواقع أن الحديث عن هذا المتحف وما يحوي من كنوز وذخائر ونفائس لا تكفيه مجلدات، ولكني سأكتفي بأن ألقط لك بعض ما يلفت النظر وبإيجاز. وأول مكان يتجه إليه الزائر بعد أن يجتاز باب السلام، مجموعة مطابخ القصر، وهي واقعة على اليمين، وكانت على عهد الفاتح أربع قباب، فغدت على عهد سليمان القانوني عشرا، ويقال إن عدد الطباخين في عهد مراد الثالث بلغ ألفا ومائة وسبعة وأربعين … وقريبا من المطبخ خصصت غرف أخرى لتحف متنوعة من الفضة والكريستال … وبالخروج من هذا الجناح الذي يطل على حديقة واسعة غرست بالورد الحر، واجتياز باب السعد، نصل إلى أماكن السلطان الخاصة التي لم يكن يقربها إلا الوزير الأعظم بإذن خاص … وندخل فنجد على اليسار خزانة السلطان أحمد الثالث، وهي في بنائها قطعة جميلة من الرخام الأبيض … وفي غرفة صغيرة مجاورة علقت في واجهات صغيرة ألوان مختلفة من أختام السلاطين. وما دمنا في هذا الجانب اليساري، فلندخل إلى آخر قاعة بالداخل، ولكن بهدوء وسكون كما كتب بالباب، وكما يطلب من الزوار، إنها القاعة التي تضم الأمانات المقدسة، ويقصدون بها أشياء تخص الرسول عليه السلام، والقاعة في حد ذاتها أروع قاعات القصر من حيث النقش والزخرفة … أما بعد هذه الأمانات وما تحمل من قيمة روحية، فأهم ما بالمتحف كنوز السلاطين، وهي مجمعة في بقية قاعات هذا الفناء، والحقيقة أن العقل يحار لدى رؤية هذه القناطير بل الأطنان من الذهب، مسبوكة في عروش أو أواني أو حلي أو تحف، وقد رصعت بملايين الأحجار الكريمة …”[49].
هذه جملة من الاقتباسات، تبين قدرة الدكتور عباس الجراري على السرد التفصيلي لخريطة متحف القصر ومكوناته، وما فيه من جلي وخفي، مما جعل القارئ يعيش معه فكرا ووجدانا.
سادسا: عباس الجراري .. عاشق التاريخ
كثيرا ما يحيل الدكتور عباس الجراري على والده، ويعتني بتراثه وآثاره، والمتتبع لأنشطته يعرف مدى تأثره به، فهو ابنه وتلميذه وخريجه، وبما أن الولد سر أبيه، فإن لعباس شغفا بالتاريخ كشغف والده، وهذا ما يتجلى بوضوح في هذه الرحلة، حيث قدم لنا بين ثناياها معلومات تاريخية ثرة، أو حاول أن يعطي لبعض المعلومات تفسيرا تاريخيا.
وأبسط مثال على ذلك، محاولته لتقريب الحياة الاجتماعية والإدارية باستنبول لزوجته، حيث لم يجد بدا من تشبيهها بالقاهرة، هذا التشبيه فسره تفسيرا تاريخيا، وهو “مدى تأثير العهد العثماني في مصر وفي كل البلاد العربية التي عرفت هذا العهد”[50].
وتسعفنا رحلة “نسيم البوسفور” بمعلومات عن تاريخ الجوامع والمتاحف وخزائن المخطوطات، ومن ذلك تواريخ بنائها أو توسعتها، والآمر بذلك من السلاطين أو أمهاتهم أو زوجاتهم، كما ضمت الرحلة معلومات تاريخية عن مدينة بورصة، أو جزيرة بويوكودا التي تنعدم فيها السيارات، إضافة إلى الخلفية التاريخية لبعض الزخارف والمنمنمات، سواء كانت رومانية أو قوطية أو سلجوقية أو صينية.
ومن نماذج الحكي التاريخي في هذه الرحلة، سرده لتفاصيل جزيرة بويوكودا الموجودة ضمن “جزر الأمراء”، وهي الجزر التي كانت منفى عقابيا لكثير من الشخصيات عبر التاريخ، ويذكر أن قسطنطين الأكبر نفى إليها في أوائل القرن الرابع الميلادي الأسقفَ الأرميني نرسيس مع جماعة من أصحابه، وكان النبلاء يتوافدون على زيارته، وكانت هذه الزيارات سبب تسمية هذه الجزر بـ[جزر الأميرات]، كما أن الإمبراطور هيركليوس نفى ابنه إلى أحدى هذه الجزر بداية القرن السابع للميلاد، وفي نهاية القرن الثامن، نفيت إلى هذه الجزر أيضا الإمبراطورة إيرين بعد أن نزعت الملك من ابنها، وهذا ما لم يرض البابا، فاستغل شارلمان الفرصة لينتزع من البابا شرعيته، وحصل على لقب إمبراطور، بعد أن كان هذا اللقب محصورا في بيزنطة وحدها[51].
بهذه المعلومات الثرة المنثرة هنا وهناك، تقدم الرحلة البوسفورية مادة معرفية تراثية وتاريخية مهمة للقارئ الذي يرتقي بمطالعتها إلى مقام الزائر الذي لم يزر.
سابعا: عباس الجراري .. قيمة الحب
من خلال الاطلاع على كتب وإبداع وأنشطة الدكتور عباس الجراري، نكتشف الجانب الإنساني في الرجل، ونطلع من خلالها على خارطة مشاعره، فنجد والده وزوجه وأبناءه متربعين على عرش قلبه، ونتنسم عبير حبه لهم، وتعلقه بهم.
هذا الجانب الإنساني لم يغب عن “نسيم البوسفور”، وهو النسيم الذي اقتصر فيه على نشر مراسلاته مع زوجته، ولم يطرزها ببطاقته التي وجهها إلى بنيته، أو مراسلته لوالده.
في صفحات “النسيم”، نتنسم عبير الألم، ونرى الحزن يمشي على رجلين، جراء فراق الشاب عباس لزوجته السيدة حميدة، ولبنتيه الصغيرتين، ما حدا به ليتمثل بحديث “السفر قطعة من العذاب”، وقول والد إمام الحرمين في تبيين وجه العذاب في الحديث: “فيه فراق الأحباب”، هذا العذاب هو الذي وقع السارد تحت سطوته، فأحس بـ”أنه العذاب في أقسى مظاهره وأبشع صوره”[52]، وفي يوم 29 غشت 1968، استهل الشاب عباس مراسلته لزوجه بعبارات موهمة: “مع إشراقة صباح الذكرى، ألف تحية وألف قبلة وألف عبرة، أقلد جيدك من دررها عقودا”، هذه العبارات يتيه معها ذهن القارئ وهو يحاول التعرف على مناسبتها، هل هي ذكرى زواجهما؟ أم ذكرى تعارفهما؟ أم ذكرى حادث ذي أثر عام أو خاص؟ وبعد اختلاط هذه الأسئلة ونظائرها في ذهن القارئ، سرعان ما يفاجأ بماهية الذكرى، فيعبر لها بقوله: “مرّ شهر واحد على افتراقنا، ولكنه سنون وأعوام تتطاول وتتمطى علي بكابوسها الثقيل المخيف، إني لأذكر ذلك الصباح، فأحس ألم الصدع يمزق قلبي ويفت كبدي ويشتت ذهني دون رحمة أو إشفاق[53]“. فنتذكر قول أبي حيان الأندلسي:
حفظ الله ساعةً مزجتني بحبيبي، فنحن مزجاً كشهد
ولحا الله ساعة فرّقتنا وحشَت في حشايَ أعظمَ وقْد
لو اطلع القارئ على هذا اللون الرمادي الحزين المتناثر على صفحات هذه الرحلة، لظن أنه يحيي ذكرى سنوية أو أكثر، ولكن الفراق كان قاسيا، ورحمة الفراق قسوة، وقسوته قسوة، لذا كان الشهر عنده سنونا.
هذا الفراق جعله فاقدا لدفء لا تعوضه البدائل وإن بلغت غاية الحسن والجمال، لذا قال مخاطبا زوجته: “أفتقدك في كل شيء، بل أفتقد فيك الحياة والوجود”[54].
هذا الافتراق والافتقاد سيسعى الشاب عباس إلى ردم هوته، وبلسمة جراحه، بتقنية المراسلة والتواصل، حيث أكثر من كتابة الرسائل، وبعض الرسائل يكتبها في فترات متفرقة من اليوم، فكتب مقطعا مطولا من رسالته في الثالثة والنصف مساء، وأتمها في الثامنة بعد عودته إلى الفندق.
هذا التقطيع في فترات الكتابة، قد يكون مقصودا، لأنه يعتبر المكاتبة لقاءً، “أما الآن، وبعد أن أحسست الجو يتلطف قليلا، فسأخرج، وقد ألتقي بك في المساء”[55]، هكذا تكون المكاتبة لقاء، فيتحقق له التداني في التنائي، ويقع في القرب مع البعد، هذا القرب جعله يقطف وردا من جزيرة الأمراء، ويبعثه إليها في ظرف بريدي[56].
لقد نجح الشاب عباس في تحويل التواصل إلى وصل ووصال، فإهداء الوردة لا يكون إلا من الواقف أمامك، ولعل هذا الوصل يتجلى أكثر في قوله لزوجه بعد أن أخبرها بتناوله للخوخ: “وأحس الآن أن شهوة الخوخ قد استبدت بك، فأرجو أن تبعثي فاطمة الخادمة لتشتري لك منه إن لم يكن موجودا بالثلاجة، وقولي لـ”ألوف” أن بابا هو الذي أرادنا أن نشتري هذا الخوخ، لأنه الفاكهة التي يأكلها في تركيا”[57]، وهكذا نجح في الدخول إلى بيته، ومشاركته لأهله وبنته في أكل نفس الفاكهة، وأفلح في استشعار البنت أنها تأكلها بإرادة أبيها واختياره واقتراحه، وهذه كلها دلالة على حضوره وعدم غيابه.
بناء على ما سبق، يصعب علينا اعتبار زوجته بعيدة عنه في هذه الرحلة، وكيف تبتعد عنه وهو لا يناديها إلا بـ”حميدتي”؟، حيث يضيف إليها ياء النسبة، أو قل ياء الاختصاص، فهي خاصة به، وهو خاص بها، لذلك جعل كلَّه لها، “دومي لمن يضحي بكل شيء في سبيلك”[58]، “دومي للذي لا يغفل عن التفكير فيك لحظة واحدة”[59].
هذا البُعد القريب، أو القرب البعيد، أشعل اللهيب في وجدان الشاب عباس الجراري، فصدرت عنه في حال السكر والفناء عبارات تحيد به عن صفة “الحكيم” التي تسيطر عليه حال الصحو، وجعلته يُمس بجنون لا تعالجه تعويذة أو رقية، فيلجأ إلى القبلات والضم، وكأنه يرى حبيبته متجلية في ورقة الرسالة، أو في حروفها وكلماتها.
لقد طرز رسائله بالضم والقبلات، وهو معذور في كل هذا، فقد سبقه من قبّل ذا الجدار وذا الجدار، وللقبلات صدارة الرسائل، وكأنها براعة استهلال. وأحيانا يجعلها مسك الختام وعنبره، وأحيانا يجعل ذلك في المطلع والختام، فيقع بينهما من التناسب ما لا يدركه إلا العشاق.
“أحييك وأقبلك وأضمك إلي عسى أن تحسي خفقات قلبي الملتهبة حبا وأشواقا إليك وإلى فلذتي كبدي علا وألوف”[60].
“أحييك في شوق ملتهب إليك، وأقبلك في عناق تمتزج فيه الأنفاس، وتختلط نبضات القلوب”[61].
هذه القبلات والخفقات، والضم والعناق، ما هو إلا جنونٌ جميلٌ، أو جنونُ جميلٍ، أعطى للرحلة بعدا أنقى وأرقى. ورغم هذا، فإننا نسجل على الرحلة ثلمة لا تسد، وفراغا لا يعوض، وهو عدم ترجمة هذه الأحاسيس الجياشة إلى لغة القريض، لأنه الأكثر بلاغة في التعبير عن نبضات القلوب وآهاتها. هذا الفراغ جعلني أشعر بأن الدكتور عباس الجراري بنى بيت “نسيم البوسفور” فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعلني أطوف به، وأعجب له، وأقول: هلا وضعت هذه اللبنة.. هلا وضعت هذه اللبنة.
[1] نسيم البوسفور: 138 – 196.
[2] نفسه: 158.
[4] نفسه: 195.
[5] نفسه: 194.
[6] نفسه: 182.
[7] نفسه: 188 – 189.
[8] نفسه: 188.
[9] نفسه: 148.
[10] نفسه: 158.
[11] نفسه: 170.
[12] نفسه: 168.
[13] نفسه: 190.
[14] الإحالة السابقة.
[15] نفسه: 137.
[16] نفسه: 143.
[17] نفسه: 173
[18] نفسه: 198.
[19] نفسه: 196.
[20] رحيق العمر:111.
[21] نسيم البوسفور: 137 – 143.
[22] نفسه: 146.
[23] نفسه: 156.
[24] نفسه: 140.
[25] نفسه: 148.
[26] نفسه: 149 – 180.
[27] نفسه: 180.
[28] نفسه: 155.
[29] نفسه: 201.
[30] نفسه: 145 – 151 – 152.
[31] نفسه: 140.
[32] نفسه: 173.
[33] نفسه: 149.
[34] نفسه: 146.
[35] نفسه: 138.
[36] رسالة البغال للجاحظ: 84.
[37] نسيم البوسفور: 172.
[38] نفسه: 147.
[39] نفسه: 180.
[40] نفسه: 156.
[41] نفسه: 183.
[42] نسه: 181.
[43] نفسه: 188.
[44] نفسه: 190.
[45] نفسه: 181 – 182.
[46] نفسه: 146.
[47] نص مقتبس من مقال بعنوان “الموسيقى التركية … إيقاع يتناغم مع الروح العربية”، منشور بموقع albayan.ae.
[48] نسيم البوسفور: 165 – 167 – 169 – 175 – 179.
[49] نفسه: 175 – 178.
[50] نفسه: 138.
[51] نفسه: 161.
[52] نفسه: 140.
[53] نفسه: 175.
[54] نفسه: 191.
[55] نفسه: 190.
[56] نفسه: 162.
[57] نفسه: 148.
[58] نفسه: 154.
[59] نفسه: 143.
[60] نفسه: 139.
[61] نفسه: 144.
*أستاذ باحث
تعليقات الزوار ( 0 )