قال الدكتور خالد التوزاني إنه يمكن التفكير في اعتماد الصلاة جماعةً عن بُعد، قياسا على قرار “التعليم عن بعد”، الذي اتخذته وزارة التعليم بالمغرب، وذلك بشكل مؤقت في زمن الوباء.
واعتبر الباحث في التصوف والنقد والجماليات، أن “خطبة الجمعة لا يجب أن تنقطع في القنوات، وأيضاً دروس الوعظ والإرشاد، تستمر في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لا يبقى المجال فارغاً للأصوات النشاز”.
الحوار مع الدكتور خالد التوزاني، مع جريدة بناصا، تطرق إلى دور البعد الديني الروحي زمن الأزمات، وكذا مستقبل الجانب الروحي في الإسلام ما بعد جائحة “كورونا” وأشياء أخرى تكتشفونها في هذا الحوار.
ما تعليقكم أستاذ خالد عن عودة العالم إلى ما هو روحي في زمن كورونا؟ مثلا في دول أوربية علمانية، أو تصنف كونها علمانية، نلاحظ مواعظ للديانات الثلاث ومنها الإسلام على التلفزيون الرسمي؟
عندما يتوقّف العقل يبدأ النّقل، وليس النقّل إلا ما مدوّن في الكتب السماوية، تلك الكتب التي تُخبر بقدرة الله على كشف البلاء، بالدعاء والتوسّل إلى خالق الكون والبشر، لم يكن العقل الغربي نشازاً، بل انخرط في هذه العودة إلى ما هو روحي وغيبي، فالمادة لم تُسعِفه في النجاة، فكان اللجوء إلى ما وراء المادة، وما فوق العقل، وما وراء الطبيعة، وقد كان هذا الإنسان، قبل أزمة كورونا، يرى العقل جبّاراً قويّاً قادرا على حل المعضلات، ولا داعي للدين الذي لا يقدم للإنسانية شيئاً كبيراً، هكذا زعم الإنسان، الأوروبي وغيره في أرقى حضارات اليوم، وعودته إلى الروحي انهزام أمام الطبيعة، مرة ثانية، ليعرف قَدْره، وقد عرف فعلاً حَجمه، في خِضمّ مواجهة المجهول، ويبدو أن عودة ما هو روحي لا ترتبط فقط بالدول التي تصنّف نفسها علمانية أو فئة الملحدين أو البعيدين عن التدين، بل ستصبح في عز أزمة كورونا ظاهرة عالمية.
الرئيس الأمريكي هو أيضا توجه بالدعاء لمواجهة جائحة كورونا، وزعماء دول أخرى، هل يعني هذا أن الدولة في الغرب ستحاول انتهاز هذه الجائحة لتراجع علاقتها بالدين مرة أخرى؟
هذا يؤكد توظيف الدين في السياسة الأمريكية، داخليا وخارجيا، ولا ننس افتتاحيات بعض رؤساء أمريكا في السابق لخطبهم بنصوص من الإنجيل أو التوراة أو القرآن، دون أن نجزم بالسبب الحقيقي وراء هذا التوظيف: هل من أجل استمالة أتباع الديانات عبر العالم، أو إرضاء مواطني أمريكا متعدّدي الديانات، أو دعم للقوة المادية باستحضار الدين، لكن الملاحظ هو محاولة الدولة استرجاع الدين من جديد بعدما الذي فقدت السيطرة عليه عندما انفصلت الكنيسة عن الدولة، وهذا بالطبع نزوع نحو الهيمنة الروحية.
هل سيتصالح الغرب العلماني مع الجانب الديني ما بعد كورونا؟
الغرب العلماني لا ينكر الدين، ولكنه اختار أن يعزل تأثير الدين في القرار السياسي والاقتصادي، لأن قيم الدين تتناقض مع الهيمنة الاقتصادية القائمة على الاحتكار والاتجار في كل شيء بما فيه البشر، فلا أخلاق في السياسة، بينما الدين يركّز على الأخلاق، ولذلك الغرب العلماني لن يتصالح مع الدين، بالشكل الذي نفهمه نحن العرب، ولكنه سيبحث في الدين عن بعض ما يعزّز به قوته الاقتصادية والسياسية، إن ساسة الغرب “يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض”، وإن ما بعد كورونا سيجعلهم يفكرون في إحياء بعض القيم الدينية وعلى رأسهما التضامن والتطوع والتضحية وثقافة التبرع والإيثار، وهذه قيم دينية بالأساس، هي التي سيتصالحُ معها الغرب العلماني، ومَظهرُ هذا التصالح يتجلى في منح بعض المساحة من الحرية لأتباع الديانات من أجل ممارسة طقوسهم الدينية، لأنهم بوجودهم ينشرون القيم التي أصبح الطلب عليها متزايداً.
أي دور للجانب الديني ـ الروحي في التنمية بشكل عام في العالم ما بعد كورونا ولا سيما في زمن الأزمات؟
نقصد بالجانب الديني تلك الممارسات التعبدية كالصلاة والحج.. وغيرها من العبادات التي تؤدى جماعة، بينما نقصد بالجانب الروحي تأثير تلك الممارسات في الحالة النفسية والعلاقات الاجتماعية، وهذا يعني أن الجانب الروحي هو ثمرة الدين، بل أسمى ما فيه، إذ لا فائدة من الركوع والسجود إنْ لم يثمر تواضعاً ورحمة بالناس، ولا فائدة من الصوم إنْ لم يثمر الصدق والصبر والوفاء، ولا فائدة من الحج إن لم يثمر قيم التطوع والتضحية، وهكذا وراء كل عبادة أثر اجتماعي تعمّ فوائده باقي أفراد المجتمع دون أن ينتظر صاحبه أي مكافأة من الدولة أو الناس، وإنما يُوجِّهُ سلوكه ابتغاء مرضاة ربه، ولذلك تقوية الجوانب الروحية تسهم إسهاماً فعالاً في التنمية، بل تكون تنمية مستدامة ومؤسّسة على قواعد متينة تحفظ استمراريتها وخاصة في عز الأزمات، وهو ما أظهرته أزمة كورنا في بعض البلاد العربية ومنها المغرب في ثقافة التضامن والعفو والرحمة.. مما ساعد على حماية وحدة المجتمع.
لنعد إلى وضعنا الوطني والإقليمي، أو لنعد إلى مجالنا التداولي، نلاحظ أستاذ خالد أنه ولأول مرة ومنذ ظهور الدين الإسلامي يتم إغلاق المساجد ومنع موسم الحج والعمرة والملتقيات الدينية مثل ندوات ومحاضرات وأنشطة الزوايا … الخ، بسبب كورونا، سؤالي ألا يؤثر هذا على الجانب الروحي ولا سيما أننا مقبلون على شهر رمضان وما يترتب عن ذلك من إغلاق المساجد للتراويح والصلوات والموعظة… ألا يؤثر هذا على الجانب الروحي؟
في الظاهر قد يبدو إغلاق دُور العبادة له تأثير سيء على الجانب الروحي، ولكن في العمق هناك فوائد جمة على الجانب الروحي، ندركها من ثلاثة زوايا: الأولى يمثل فرصة للمسلم ليتأمل حاله ويتدبر واقعه مع الله والناس، ويتأمل الكون والحياة ويعيد التفكير في عدد من القضايا الوجودية الكبرى، ويعيد ترتيب أولوياته، ومن زاوية ثانية هذه العزلة التي أُجبِرَ عليها، تبدو في أحد وجوهها شبيهة بمرحلة التحنث والتعبد التي كان يقوم بها بعض الأنبياء والأولياء والصلحاء وحتى العلماء في طلب العلم من أجل الارتقاء الروحي، حيث يبتعدون عن الناس ويقّللون من العلاقات واللقاءات، من أجل فسح المجال للقلب كي يتدبر ويستنير، ومن زاوية ثالثة هذه الخلوة والعزلة نوعٌ من الصوم الذي يعني في اللغة: الوقاية، “فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا”، عدم الكلام مع البشر هو وقاية من كل الأمراض الظاهرة مثل الأوبئة، والأمراض الباطنة مثل الحسد والكبر والغش والبخل.. ولذلك فإن الإجراءات المرتبطة بالإغلاق المؤقت لدور العبادة، لن يشكل أيّ نكسة روحية، بقدر ما سيوفر فرصة للارتقاء الروحي، بتقوية الإيمان وترسيخ العقيدة، حتى يدرك المتدين، أن الإيمان سرّ العبد وربه، وليس مباهاة اجتماعية، وأنَّ خيرَ الدعاء ما كان خفية وتضرعاً.
طيب، ولكن ألا تلاحظ معي أن الطلب على الجانب الروحي سيعود أكثر قوة من ذي قبل، كيف يمكن تدبير هذا الجانب الهام من الحياة الروحية والثقافة الدينية للمسلم؟
نتيجة لآثار الحجر الصحي، وخاصة الآثار النفسية، أدرك العالمُ أهمية الجانب الروحي في تحقيق الثبات النفسي والصمود في وجه الأزمات، كما أدرك أن قوة الجانب الروحي تجعل المجتمعات تتضامن فيما بينها، ولذلك سيتزايد الطلب على هذا الجانب الهام، من الحياة الروحية للأفراد والمجتمعات، وتدبيره يعني استدعاء علماء الدين للعودة إلى الواجهة، مع ضرورة الحذر أيضاً من التطرف الديني، لأنَّ المطلوب هو التوازن، بين مطالب الجسد وحاجات الروح، وفي مثل هذه الظروف العصيبة، قد تطفو بعض الأصوات الدينية “الشاذة” عن روح الدين، مما يعني المزيد من عقلنة تدبير هذا الجانب، بتقوية مظاهر العقلانية فيه، بالنقد والتفكير، بدل التبعية والاستسلام والخضوع والاستلاب.
وزارة التربية الوطنية اعتمدت ما يسمى التعليم عن بعد، لماذا لم تعتمد الجهات الرسمية التربية الروحية عن بعد عبر ما هو افتراضي؟ مثلا يمكن أن نصلي وراء إمام قارئ عن بعد مثلا في صلاة التراويح؟
التعليم عن بعد، كان قراراً جريئاً وقد أثمر نتائج مشجّعة، وبالنسبة للشؤون الدينية هناك بعض العلماء المغاربة قدمّوا اجتهادات فقهية مهمة جداً، مثل إخراج الزكاة قبل وقتها، وحتى قرار غلق المساجد، أيضاً، كان اجتهاداً فقهياً مغربياً في فقه الواقع، لكن ننتظر أن يتواصل اجتهاد الفقه الإسلامي ليقدّم إجابات معاصرة، حول قضايا طرحها الفقهاء في العصور السابقة، وأجابوا عنها بما كان لديهم من إمكانات تلك العصور.
اليوم يمكن أن نفكر في الصلاة جماعةً عن بُعد، بشكل مؤقت في زمن الوباء، وخطبة الجمعة لا تنقطع في القنوات، وأيضاً دروس الوعظ والإرشاد، تستمر في مواقع التواصل الاجتماعي، لأن ترك المجال فارغاً قد يسمح للأصوات النشاز، باحتلال الفضاء، وهو ما يظهر هنا أو هناك من حين لآخر، لكن الذي يبعث على التفاؤل، هو وعي بعض علماء المغرب، بأهمية العالم الافتراضي وانخراطهم فيه، للتوعية والإرشاد، ومشاركاتهم في مختلف المنابر الإعلامية بكل أنواعها، الشيء الذي يؤكد وجود تربية روحية عن بعد، ولكنها غير مُؤسّسَة رسمياً، وهنا لا بد للفقه من أن يجتهد ليطور أدواته ويخرج بصيغ جديدة للتكوين والتأطير الديني بوسائل العصر وعلى رأسها شبكة الانترنيت.
سؤالي هنا، أستاذ خالد، هل يمكن للجانب الافتراضي عبر الانترنيت أن يعوض الجانب الواقعي فيما يتعلق بالمجال الديني؟
الواقع لا يرتفع أبداً، والافتراضي أحد أهم أسلحة العصر في التأثير على الواقع نفسه، المجال الافتراضي في التدين، يمكن أن يساعد في تقليص آثار الابتعاد عن الواقع، مادامت أماكن العبادة مغلقة ورؤية العلماء والوعاظ غير متاحة في الواقع، فإن المجال الافتراضي قادر على خلق جسور التواصل، لكنه محفوف بالمخاطر من حيث كثرة الأصوات التي تدعي الكلام في الدين، ولذلك ينبغي أن يُسيّج الافتراضي بقوانين ضابطة، وبمعايير في النقد واضحة للمتلقي، حتى لا يتم اختطاف الدين أو تمييعه، أو تقزيمه.
ما هو مستقبل الجانب الروحي في الإسلام ما بعد كورونا؟
مستقبل الإسلام برمّته، سيكون للمجال الروحي، بدون شكّ، هذا ما تأكد اليوم، وقد أكده من قبل، بعض الباحثين في الغرب، ومنهم إيريك جوفروا، في كتابه: “المستقبل للإسلام الروحاني”، عندما قال بأن “الغرب يراجع نفسه الآن، ويتراجع عن تطرّفه الوضعي الاختزالي المادّي الذي قضى على شطحات الخيال ورطوبة الشعر وعبق الرُّوحانيات، فلماذا يريد المثقفون العرب أو المسلمون تقليده في خطئِه وتطرّفه في الوقت الذي يتراجع هو عن هذا الخطأ والتَّطرّف”، وقد أظهرت أزمة كورونا، كيف تراجعت الكثير من الدول الغربية عن تطرفها المادي الذي يجعل العِلم إلهاً، يحل كل المشاكل، وكيف بدأ العرب أيضاً يعيدون النظر في تدينهم، وعلاقاتهم بالدين.
تعليقات الزوار ( 0 )