كتب الناشر أحمد الشرعي افتتاحية ، في مجلته الأسبوعية “لوبسرڤاتور دو ماروك إي دافريك”، مهاجماً العثماني وحكومته. واعتبر أنها عاجزة عن تقديم حلول لتبعات الأزمة، ولا تملك تصوراً لنموذج جديد للتنمية وللمجتمع. وأضاف الشرعي في افتتاحيته التي كتبها بعنوان: “فيروس كورونا: في الحاجة لكوماندوس”، أن “الحل هو حكومة تكنوقراطية لمدة عامين، بهدف واحد، هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية، وأن على الأحزاب السياسية دعم هذا الخيار، والتفرّغ للاستعداد لانتخابات 2022. نفس الطرح ذهبت إليه قيادة حزب “الاتحاد الاشتراكي”، المشارك في حكومة العثماني، حيث أقرّ ” لشكر” على ضرورة إنهاء هذه الأخيرة والتحوّل نحو حكومة وحدة وطنية على اعتبار أن “المغرب في حالة حرب” إن هذا الطرح الذي يدعو إلى حكومة تكنوقراطية خلف مجموعة من ردود الافعال أهمها رد رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، والذي اعتبر أن هذا الخطاب أي – حكومة تكنوقراطية لإنقاذ الاقتصاد الوطني – ضرب للديموقراطية التمثيلية وللمسار الديموقراطي الذي قطعه المغرب.
لكن ألا يعلم العثماني بأن التكنوقراطي هو الذي يصنع القرار العام، خاصة بعد تولي الملك محمد السادس العرش الذي انفتح على سياسات الأوراش الكبرى؟ بل هل يتجاهل كون الصلاحيات والاختصاصات الإستراتيجية ، و التوجهات العامة لمشروع قانون المالية، و الخطوط العريضة للسياسات العامة، التي من شأنها النهوض بالاقتصاد الوطني من اختصاص المجلس الوزاري، الذي يترأسه الملك ، و يكون رئيس الحكومة مجرد مرؤوس داخله ؟
بداية لابد أن نوضح مفهوم التكنوقراط حتى يتضح معناه الأكاديمي بشكل مبسط للقارئ، حيث لا يعتبر التكنوقراط ذلك الوزير اللامنتمي سياسيا فحسب، أي أنه لا يرتدي قبعة حزبية معينة. وإنما كذلك هو ذاك الذي يتميز بالكفاءة والخبرة وله ميولات تقنية محضة، ويترتب في أعلى المراتب داخل الدوائر العليا لصناعة القرار، فالمنصب الوزاري ليس وحده مستقطباً للتكنوقراطيين خاصة فئة المهندسين، إذ تم تعيين العشرات من المهندسين ككتاب عامين للوزارات، ومدراء المؤسسات العمومية الإستراتيجية الذين يعينهم الملك وفق الفصل 49 من دستور2011 والقانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا ، وكذا الولاة و العمال، حيث تم تعيين مجموعة من المهندسين كولاة وعمال، سواء على صعيد الإدارة المركزية والإدارة اللاممركزة، وذلك منذ حركة 21 يوليوز 2009 التي تم فيها تعيين تسعة ولاة تكنوقراط دفعة واحدة.
إن المتمعن في الملامح السوسيولوجية والتكوينية للتكنوقراطيين المغاربة ، سيستشف ملاحظتين مهمتين ، الأولى هي أن أغلبهم تلقوا تكوينا فرونكوفونيا في المدارس العليا الفرنسية كمدرسة البوليتكنيك و مدرسة القناطر و الجسور… و يعتبر محمد حصاد و شكيب بنموسى اللذان شغلا منصب وزير الداخلية سابقا خير مثال على ذلك . أما الملاحظة الثانية هي انحدارهم من عائلات معروفة بيسرها المادي وبسمو مراتب أفرادها، كما أكد الأستاذ العطري عبد الرحيم في كتابه المعنون بــ”صناعة النخبة بالمغرب ، المخزن و المال والنسب والمقدس طرق الوصول إلى القمة”.
إن الاعتماد على التكنوقراطي ظاهرة عالمية لا تقتصر على المغرب فحسب ، وإنما تختلف أسباب ودواعي الاعتماد عليه من نظام سياسي لآخر، حيث في الأنظمة السياسية الديموقراطية يتم الاعتماد على التكنوقراطي لخدمة وبلورة البرامج والأجندة التي تعاقد عليها الشعب والحزب الحاكم، لهذا ففي هذه الأنظمة مدارس عليا لتكوين السياسيين في مجموعة من المجالات، كعلم الاجتماع والقانون والاقتصاد والعلوم السياسية من طبيعة الحال، بل أصبح الحديث في هذه الأنظمة عن المناضل النمودج . أما في الأنظمة السياسية المغلقة، فيتم الاعتماد على التكنوقراطي لأنه على دراية بأدق تفاصيل الدولة، سواء في ما يخص وضعيتها الاقتصادية ، أو علاقتها -أي الدولة- بالمؤسسات المالية الدولية وما تقتضيه هذه العلاقة من انسيابية وتبعية، حيث همه الوحيد هو المحافظة على التوازنات المالية والماكرواقتصادية، ولعل وزير المالية محمد بن شهبون خير دليل على ذلك.
إن النظام السياسي المغربي اعتمد بشكل مكثف على التكنوقراط فيما يخص صناعة القرارات، خاصة بعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش، ومن أراد أن يتأكد فما عليه سوى الرجوع إلى مخرجات السياسات العمومية، ويلاحظ هل تتماشى مع الأجندة السياسية لحزب العدالة والتنمية والتي على أساسها تقدم للانتخابات التشريعية الأولى والثانية بعد دستور 2011، أم أنها تعكس اختيارات تكنوقراطية تقنية أعدت خارج الأنساق الحزبية، فعلى سبيل المثال الأهداف الاجتماعية المسطرة في البرنامج الانتخابي السياسي الخاص بالانتخابات التشريعية الأولى بعد دستور 2011 خاصة المتعلقة بتقليص البطالة، حيث أن أكد حزب العدالة والتنمية فيه على تقليص معدل البطالة إلى 12 في المائة في الوسط الحضري و2.5 في المائة في الوسط القروي في أفق سنة 2012 ، لكن بالرجوع إلى الموقع الرسمي للمندوبية السامية للتخطيط، سيتضح بأن معدل نسبة البطالة ارتفع في سنة 2012، حيث أصبح يشكل في الوسط الحضري 13.4 في المائة و في الوسط القروي 4.0 في المائة.
وحتى على المستوى الجهوي والمحلي تعتمد الدولة المغربية على التكنوقراطيين، حيث يعتبر الولاة والعمال المعينين من طرف الملك حسب الفصل 49 من دستور 2011، المشرفين الفعليين على المشاريع التنموية كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كما أنهم يمارسون الرقابة الرئاسية على المنتخبين على المستوى الجهوي والمحلي، ومن أراد التأكد كذلك فعليه هذه المرة أن يتفحص القانون التنظيمي المتعلق بالجهات، ويلاحظ هذا النوع من الرقابة للولاة المعينين اتجاه رؤساء الجهات المنتخبين، حيث لا شرعية لقرارات ومقررات مجلس الجهة إلا بمصادقة الوالي، ولا اعتماد مالي دون تأشيرة منه كذلك.
ختاما، رحم الله عبد الله ابن براهيم الذي ترأس أول حكومة والتي لم تعمر سوى 18 شهرا، حيث كانت القرارات العامة وطنية وشعبية ومن صنع السياسيين المحنكين حقا.
*باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )