من يعتقد أن التعليم عن بعد هو مجرد كاميرات وأنترنيت وتطبيقات وحاملات إلكترونية فهو واهم أو يوهم الناس بكذبة كبيرة. لذلك ينبغي أن نكون موضوعيين ونتعاطى مع خيار “التعليم عن بعد” باعتباره تدبير اضطراري استثنائي لحالة طارئة لا تسمح لنا بغيره لضمان استمرار زمن التعلم افتراضا.
والسبب هو أن منظومتنا التعليمية المهترئة واقعيا، غير مهيأة مطلقا لتقديم تعليم عن بعد، ولا يمكن أن تتهيأ بين ليلة وضحاها، لأن هناك ضرورة للاشتغال على أكثر من مستوى لضمان تعليم عن بعد ناجع وذو مردودية مرضية:
أولا: المناهج والطرائق الديداكتيكية في التعليم عن بعد، هي غير الطرائق في التعليم المباشر. واجتهادات المغرب على هذا المستوى ضعيفة جدا. فهناك محاولات ومبادرات لمدرسين مبدعين، لا يذهب بها القائمون على الوزارة إلى أبعد ما يمكن. ولا توفر لها الوسائل والإمكانيات الضرورية للتطوير.
ثاني: التعليم عن بعد يفترض تعاقدات بيداغوجية وتربوية جديدة بين المدرس والمتمدرس، وهي تعاقدات لها خوصصيتها الافتراضية. فالاستاذ لا يلامس ولا يستطيع أن يتدخل في البعد النفسي للمتعلم وما يحيط به أثناء الزمن الدراسي للحصة، ولا يستحضر الفروق الفردية الحاسمة في التعليم الجماعي، ولا يتمكن من بناء تلك الروابط العاطفية بينه وبين المتعلم، وغيرها من الشروط التي يوفرها وجود المتعلمين في الفصل الواحد.. وهي تيمات كبرى تناولها علماء التربية والتعليم بالتحليل والتطوير، فلا يمكن أن نلقي كل ذلك جانبا ونتحدث عن “تعليم عن بعد” مجرد من الأحاسيس تماما خاصة في المستويات الابتدائية والإعدادية.
ثالثا: الأستاذ الذي يلقي درسا تعليميا عن بعد يحتاج إلى كفايات خاصة تهم هذا الأسلوب من التعليم، لذلك فالذين يحملون المسؤولية للأستاذ في الدروس الباهتة على القنوات المغربية غير مستوعبين للأسباب الحقيقية، فكم من أستاذ جيد الأداء في الفصل الدراسي، إلا أنك تجده هو نفسه غير راض عن أدائه على الشاشة. فالأمر يحتاج تدريبا خاصا، وكفايات إلقاء خاصة لم يسبق أن تدرب عليها أي أستاذ في بلادنا.
رابعا: لا يمكن المضي في اعتماد التعليم عن بعد قبل حل إشكالية التفاوتات الاجتماعية، وقضية التكنولوجيات الذكية، وأثمنة الأنترنيت ببلادنا…. لا يمكن أن نغمض أعيننا عن كل الإعاقات التي تسببها الأوضاع الاجتماعية والتي تحد بشكل كبير من نجاعة التعليم عن بعد. لا يمكن أن نساوي بين الفئات الهشة والضعيفة والمتوسطة والغنية وكأنها فئات تمتلك الفرص المتساوية للاستفادة الناجعة من هذا النوع من التعليم. إننا بذلك نرسخ التفاوتات ونعمق الشرخ بين الفئات الاجتماعية ونحصل على نتائج جد ضعيفة.
خامسا: دور الأسرة ضروري جدا ووعيها حاسم وتتبعها مهم لأبنائها الذين لم يعتادوا على هذا الأسلوب من التعليم، بما يضمن مواكبتهم للدروس وجديتهم وتفاعلهم وحضورهم الفعلي والذهني والنفسي. وهو ما يتطلب تأهيلا لهذه الأسر ونسبة من الفهم والتعلم. ونحن نعلم واقع جزء كبير من الأسر المغربية، وضعف تكوينها ومشاكلها المعيشية التي تخفض من حماسها واستعدادها لأداء دورها.
سادسا: البعد التقني في التعليم عن بعد مهم وضروري، وواضح أن الوزارة لم تكن مهيئة له بما فيه الكفاية. واضح من خلال الارتجال الذي طبع أداءها في البداية ومحاولات التدارك التي تعمل عليها ليل نهار بجهد مشكور. لذلك فقد آن الأوان للقطع مع التردد الذي عاشته المدرسة المغربية في تعاطيها مع الجيل الجديد من التكنولوجيات. وآن الأوان للتوقف عن الهدر الزمني والمالي الذي عاشته مشاريع مضى على إطلاقها أكثر من عشرين سنة دون أن تترك أثرا واضحا على أداء المنظومة، يكفي أن نذكر هنا بالقاعات المتعددة الوسائط، ومشروع جيني وغيرهما.
لذلك دعونا نتعامل مع التعليم عن بعد باعتباره حالة استثنائية في ظرف طارئ، فلا نحمله أكثر مما يحتمل. ودعونا نتعلم الدرس البليغ لعله يكون لنا حافزا لتغيير استراتيجيتنا في اتجاه بناء تعليم إلكتروني ناجع تربويا وبيداغوجيا وديداكتيكيا وليس تقنيا فقط.
وأجدد تقديري لكل الأساتذة الذين يبذلون الجهد الأكبر في ضمان السير العادي الدروس، رغم شح الإمكانيات ومع كل هذه الصعوبات، تحية شكر وامتنان لكم ولكن جميعا في هذا الزمن العصيب.
*باحث في علم الاجتماع التربوي
تعليقات الزوار ( 0 )