تعتزم منظمة “الإيسيسكو” عقد ندوة “علمية” بمناسبة إصدارها الجزء الأول من “موسوعة تفكيك خطاب التطرف” بالتعاون مع “الرابطة المحمدية للعلماء” الغرض منها كما هو مسطر في العنوان هو “تفكيك” الفكر الذي تترافع به، ومن خلاله، جماعات الراديكالية الإسلامية الناقمة على الأنظمة القائمة و الداعية إلى إحداث التغيير، و “التفكيك” هنا يحيل على التقويض و الهدم و التحطيم لهذا الوعي الإيديولوجي.
السؤال أو قل الاسئلة الجديرة بالطرح هنا هي: إلى متى سيظل هؤلاء يضللون الناس بمثل هذه المغالطات و توجيههم إلى غير قضاياهم الأساسية و الضرورية و الحساسة ؟ أي هل يكتسي التطرف هذه الخطورة كلها، حتى تستحق عقد هذه المؤتمرات و استدعاء هؤلاء “الباحثين” و المهتمين؟ هل يبدو من المعقول و المقبول أخلاقيا، أن يتورط الشباب في هذه الآفة: التطرف، و أن يدفعوا ثمنه غاليا من حياتهم، و من مصالح عوائلهم، ليأتي هؤلاء “المؤتمرون” ليغنموا من مصائبهم و معاناتهم؟ ألا يبدو الأمر مثيرا للشبهة و مُبعثا على الريبة، أن يعمد جمع من “اشباه الشيوخ” إلى تحريض هؤلاء الشباب، و الزج بهم في أتون محرق، حتى إذا تورط هؤلاء و قُطع حبل عودتهم، و أُحرقت سفن نجدتهم، انبرى اولئك “الباحثون” للتحذير منهم و من فتنتهم و التصدي لهم ؟ و تكون النتيجة ان المحرضين يستفيدون و يراكمون الثروات، ويتحولون إلى “نجوم” و انبرى أيضا “المحاربون” لهذا الفكر الذي أسسه و بناه “المحرضون”، و كأنهم يقتسمون الثروة و يوزعون الغنائم، كل حسب جهده و بلائه.
و يكون الضحايا أولئك الافواج من الشباب المغرر بهم، الذين أفادوا و ما استفادوا : بحيث افادوا غيرهم ممن حرضهم ففاوض بهم، و تحسنت أحواله الدنيوية، التي كان يزعم أنه يزهد فيها، و أفادوا غيرهم أيضا ممن انتصب لردهم إلى الجادة و بيان اعوجاج فكرهم و فساد تدينهم، في حين خسروا ،هم، سنين من أعمارهم و خسروا بُعدهم عن عوائلهم، و ضُيق عليهم في حياتهم.
و إذا كان التاريخ قد انتقم ممن كانوا سببا في تضييع هؤلاء الشباب و التغرير بهم، و ذلك بأن استدرجهم حتى رماهم في المكان اللائق بهم في “قبو النسيان” و “مزبلة التاريخ”: إن كلهم أو بعض منهم على الأقل، و ذلك بعد أن افتضح أمرهم و أسقط في يدهم، فإن الذين نهضوا للقيام ب”الواجب” في الرد على هذا الفكر و بيان تهافته و تناقضاته، لا يزالون يحصدون الارباح و يحصلون المكاسب.
إن القضية هنا هي: عن مدى أهمية هذه “المجهودات” التي يزعم المعنيون بها، أنها ضرورية في معركتهم “الدونكيشوتية” ضد هذا العدو الفتاك: التطرف.
إن التصدي لهذا النوع من المؤتمرات و مواجهة هذا اللون من الكتابات و الدراسات، و بيان عوارها و هزالتها و تواضعها، ضروري ضرورة تلك المؤتمرات نفسها.
فهل يعتقد هؤلاء أن المؤتمرات التي تُكلف الجهات المانحة الكثير، أنها ستعود عليهم بكثير فائدة ؟ و آلا يعلم هؤلاء أن تلك المؤتمرات ليست إلا تضييعا للمال الذي كان جديرا بأن ينفق في ما ينفع؟
إن من المقطوع به أن تلك المؤتمرات التي يتم عقدها و الأوراق، التي يتم عرضها و إلقاءها، لا تساوي شيئا و لا تهم إلا من ينظمها او يلقيها.
ما ذا يعرف هؤلاء الذين تعودوا على كسب المال و على الحياة المترفة و على النزول في أفخم الفنادق عن أولئك الفقراء المهمشين و عن ظروفهم و معاناتهم؟
كيف سينصت أولئك الفقراء الذين يعيشون في ظروف لا تسُر حتى العدو، إلى هؤلاء الباحثين الذين تعودوا على التعالي على الناس و التكبر عليهم؟ آلا يلاحظ هؤلاء “الباحثون” و “المفكرون الكبار” لا يخاطبون إلا أنفسهم و لا يتحاورون إلا فيما بينهم و أن المقصود بالخطاب، و المعني به، غائب عنهم. و حتى إذا حضر أحد منهم فإن حضوره يكون حضورا باهتا و مشروطا، و أن هؤلاء يتجنبون تماما الإنصات إلى ذلك الصوت المغاير و المخالف، مخافة أن يحرجهم و يزعجهم، و مخافة أن يفضح فساد طروحاتهم.
هل يستطيع هؤلاء “الباحثون المشهود لهم” و بالأخص الذين لهم اطلاع على التراث أن ينكروا أن الفكر “المتطرف” فكر أصيل بمعنى ما، و التنكر له من قبلهم، لا يغير من الحقيقة شيئا، و أنه من حيث هو امتداد للتراث و “تكريس” لجانب منه، لا يقل أصالة عما يقولونه هم، وأنهم لا يملكون من الحقيقة أكثر مما يمتلكه أولئك الشباب المغرر بهم؟
هل من الضروري أن نُنبه إلى أن الفكر “المعتدل” الذي يدعو إليه هؤلاء “الدارسون” و يحثون عليه ليس في واقعه إلا ترجمة لحياتهم، هم، و تعبيرا عنها، و أن الفكر “المتطرف” كما يسمونه، يعكس حياة الُمفقرين الجياع المدعوس على كرامتهم و كبريائهم؟
و هل من الضروري، أيضا، أن نُذكر بأن هؤلاء “المعتدلين” جدا، الذين ينعمون بشروط الحياة الفارهة، حينما يدعون غيرهم إلى حب الحياة و التعلق بها، فإنهم يفعلون ذلك لأنهم فعلا يحبونها، و هم يحبونها لأنهم يتمتعون بها، و لأنهم توفرت لهم شروط التمتع بها، و الحرص عليها، في حين أن اولئك الجياع يتبنون فكرا يلائمهم و يناسبهم، أي يُبغض إليهم الحياة، ويزهدهم فيها، لأنهم لا يملكون منها شيئا و ليس لهم فيها ما يحبونها لأجله، و يتعلقون بها بسببه.
و هل من اللازم ان نذكر بأن هؤلاء “المفكرين الكبار” و” الباحثين الجادين” الحريصين على قيم “التسامح” و التعايش و “الاعتدال” و “تقديس” حياة الانسان من حيث هو إنسان، لو سلبت منهم امتيازاتهم و ردوا إلى ما كانوا عليه قبل أن تضحك لهم الدنيا ـ كما يقال ـ و قبل أن يظفروا منها بما ظفروا به، ما ذا سيكون شأنهم؟ و كيف سيكون حالهم؟
إن كل ما يقوله هؤلاء، و كل ما سيقوله غيرهم، لا يساوي شيئا، و لا يعني شيئا، لأنه ليس فيه ذرة من الإنصاف، و ليس فيه مثقال من الحق. إنها اوراق يكتبها أصحابها بأسلوب واحد، و بلغة واحدة و بمفاهيم واحدة، و تجمع جلها على إدانة “فكر” لا يجد من يدافع عنه ، في وسطهم، و بالتالي، إدانة شريحة عريضة يتحمل النظام المسؤولية كاملة فيما انتهت إليه، و فيما تعانيه و تكابده، و يتحملها وحده.
إنهم يجمعون على اعتبار “التطرف” ثقافة تغزو الطبقة الفقيرة و الجاهلة و المهمشة و المعوزة، و فتكون هذه الطبقة مدانة أصالة لا لشيء، سوى لأنها فقيرة و محرومة من خيرات و ثروات وطنها، و لأنها تحت رحمة نظام بئيس وغشوم ظلوم ، ثم لا يذهبون إلى أبعد من ذلك قليلا، اي إلى حد إدانة من دفع هؤلاء الفقراء الجياع إلى الزهد في الحياة و كرهها، وإدانة من كان السبب في وضع هذه الطبقة في كماشة هذه الآفة و بين مخالبها.
ان التطرف الذي يحاربه هؤلاء وبالصورة التي يعضونه بها، ما هو إلا حيلة لمحاربة الفقراء الساخطين على من يسرق خبزهم ، ومن يتحالف معه، و من يلعب دور “سحرة فرعون” بالنسبة إليه .
ينبغي أن نكون واضحين، و جريئين إلى حد القول أنه اذا كانت الدولة جادة في مواجهة “التطرف” فإن الحل لا يكون بعقد تلك المؤتمرات و دعوة هؤلاء “الباحثين” و “المفكرين” لعرض أوراق كتبوها فوق مكاتبهم المكيفة، و إنما يكون بنشر العدل و تحقيق “العدالة الاجتماعية” فقد رووا أن احد عمال عمر أو ولاته كتب إليه يشتكي انتشار الاجرام في منطقة نفوذه، فرد عليه الفاروق[ض] داعيا إياه إلى تحصنها بالعدل. وهو وحده كاف للقضاء على كل ظواهر الأمراض الاجتماعية الفتاكة، و رووا أيضا أن عهد عمر بن عبد العزيز عرف استتبابا للأمن، حتى أن الخوارج سكنوا و أوقفوا حملاتهم حياء منه [ض] وـ السبب كما قالو ـ أنه أقام العدل و بسطه و سار في الناس بمقتضاه.
الخلاصة هنا واضحة و ملخصها أن الطريق الأقرب للتخلص من “التطرف” و سائر الآفات و الامراض الاجتماعية هو أن يتوقف المسؤولون عن سرقة أقوات الناس و خبزهم و أن يشعروا هؤلاء “المتطرفين” المفترضين أنهم مواطنون حقيقيون و شركاء في هذا الوطن و أن الحق الذي لفلان أو علان من الاسر المتنفذة لا يزيد عن حق أي منهم . إن تكريس التفاوت الطبقي المخيف بين أفراد المجتمع و توسيع الهوة بين الطبقات سيظل عاملا كافيا لمد “التطرف” ـ باعتباره حقدا على المرتبطين بالدولة المستغلين لهاـ بأسباب البقاء و التوسع.
و بغير هذا، اي بغير العدل و “المواطنة الحقيقية” فإن كل ما تقوم به الدولة، و كل ما يقوم هؤلاء المتعاونون معها، سينتهي إلى لا شيء.
تعليقات الزوار ( 0 )