Share
  • Link copied

الترجمة الأدبية بين الأمانة للنص وإعادة تشكيل المعنى

لطالما كانت الترجمة الأدبية أكثر من مجرد عملية تحويل الكلمات من لغة إلى أخرى؛ فهي جسر يعبره الفكر، وساحة تتفاعل فيها الثقافات، ومساحة يُعاد فيها إنتاج النصوص ضمن سياقات جديدة. إنها ليست مجرد أداة لنقل المعاني، بل فعل ثقافي معقد يفرض على المترجم أن يكون أكثر من مجرد وسيط لغوي؛ بل مفكرًا يعيد تشكيل النصوص وفقًا لرؤيته ومدى استيعابه للعوالم الثقافية المتقاطعة. فالترجمة، بهذا المعنى، هي عملية تفاوض بين الأصل وما يمكن أن يكون عليه في فضاء ثقافي مختلف، حيث لا يتم نقل النص فحسب، بل يُعاد تعريفه وتشكيله في ضوء شروط الثقافة المستقبِلة.

في كتاب “بناء الثقافات: مقالات في الترجمة الأدبية”، يناقش أندريه ليفيفير وسوزان باسنيت كيف أن الترجمة ليست مجرد انعكاس للنص الأصلي، بل هي إعادة كتابة تتأثر بالمحددات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية للمجتمعات التي تُترجم إليها النصوص. إن المترجم، في هذا المنظور، ليس مجرد ناقل محايد، بل هو فاعل ثقافي يساهم في تشكيل المعنى وإعادة توجيهه. هنا تكمن معضلة الترجمة: هل ينبغي أن يظل المترجم وفيًا للنص الأصلي مهما كانت تعقيداته، أم أنه مدعو إلى تكييفه ليصبح أكثر انسجامًا مع الثقافة الجديدة؟

الترجمة، بهذا الفهم، ليست مجرد جسر ثقافي، بل مساحة للسلطة والتأثير. عبر التاريخ، كانت الترجمة وسيلة لإبراز رؤى ثقافية معينة على حساب أخرى، كما كانت أداة للتحرر والتواصل. لقد أعيدت صياغة النصوص الأدبية والفكرية وفقًا للمعايير الجمالية والأيديولوجية لكل عصر، مما جعل الترجمة تتجاوز كونها مجرد ممارسة لغوية، إلى أن تصبح جزءًا من عمليات إعادة تشكيل الوعي الجمعي لمجتمعات بأكملها. وهنا تتضح خطورة الترجمة الانتقائية، حيث يتم اختيار نصوص محددة لترجمتها وإهمال أخرى، ليس بناءً على قيمتها الأدبية فقط، بل استنادًا إلى اعتبارات السوق والمصالح الثقافية والسياسية.

ما يثير الاهتمام في هذا السياق هو فكرة “إعادة الكتابة” التي طرحها ليفيفير، والتي تشير إلى أن الترجمة ليست نسخة موازية للنص الأصلي، بل هي إنتاج جديد يتفاعل مع اللغة والثقافة بطريقة تعكس الخيارات الواعية وغير الواعية للمترجم. وبذلك، يصبح المترجم صانعًا للنص وليس مجرد ناقل له، إذ يقرر أي جوانب النص ينبغي الحفاظ عليها، وأيها يمكن تعديله، بل وحتى أي المصطلحات يجب أن تُستخدم في تقديم العمل للقارئ الجديد. إن هذه القدرة على التكييف هي ما يمنح الترجمة أهميتها الثقافية، لكنها أيضًا ما يجعلها أحيانًا موضع جدل.

الترجمة ليست عملًا منفصلًا عن سياقها، بل هي جزء من منظومة متشابكة تشمل الناشرين، والمؤسسات الأكاديمية، وأسواق الكتب، مما يجعلها خاضعة لعوامل عديدة تحدد ما يُترجم، ومن يترجم، وكيف يُترجم. في عالم تتحكم فيه العولمة في تدفق المعلومات، أصبح للترجمة دور مضاعف؛ فهي أداة للتقارب بين الشعوب، لكنها أيضًا وسيلة قد تُستخدم لإعادة صياغة الثقافات وفقًا لرؤى محددة.

لهذا، يواجه المترجم معضلة كبرى: هل ينبغي أن يكون جسرًا بين ثقافتين، أم أن يتحمل مسؤولية تشكيل صورة الثقافة التي يترجم منها؟ إلى أي مدى يمكنه التدخل في النص دون أن يخونه؟ وكيف يمكنه التوفيق بين الأمانة للنص الأصلي والأمانة للقارئ الجديد؟ هذه الأسئلة تجعل الترجمة الأدبية أكثر تعقيدًا من أي نوع آخر من الترجمة، لأنها ليست مجرد نقل للمعلومات، بل إعادة خلقٍ للنص في فضاء جديد.

في النهاية، تظل الترجمة الأدبية فعلًا ثقافيًا بالغ الأهمية، تتجاوز وظيفته مجرد نقل المعاني إلى بناء رؤى جديدة للعالم. إنها ليست ظلًا للنص الأصلي، بل امتدادٌ له، يحمل صوته إلى جمهور جديد، لكنه في الوقت ذاته يعيد تشكيل هذا الصوت وفق معطيات مختلفة. وهكذا، يصبح المترجم ليس فقط صانعًا للمعرفة، بل أيضًا مهندسًا للجسور الثقافية التي تعبرها الأفكار بين الشعوب والحضارات

Share
  • Link copied
المقال التالي