Share
  • Link copied

الإيمان عبور من الحيرة إلى الاطمئنان

حديثي اليوم عن  الإيمان يأتي في سياق  الوباء الذي نشر الموت والأحزان في كل مكان ،من هذا العالم.

هذا الحديث هو محاولة  من أجل التأسيس  للتجربة الدينية الفردية  المؤدية للهدوء والطمأنينة والسعادة الذاتية   ، وليس من أجل  التأثير السياسي أو الأيديولوجي الخادع الهش ، فذلك أمر يتعلق بالوقائع التافهة، والبسيطة التي تهم الجموع المخدرة.

 سأتحدث عن الإيمان و الموت ليس من باب الموعظة. والتبشير  والتخويف من عذاب ونار ، أو الترغيب في نعيم أو جنة. ولكن حديثي هو من باب   التأمل الوجودي للأيمان و من باب العرفان الروحي المؤسس للتجربة الدينية الخلاصية الفردية باعتبارها سفينة النجاة من حالات القلق  والحيرة  والشك والاضطراب،  وإدراك لحضور الله ، ومثول في حضرته وتذوقه في حالات التجلي والصفاء، يقول  المتصوف الهندوسي رادهكرشان أقوى برهان على وجود الله هو إمكان تجربته وإدراك حضوره فهو معطى تجريبي ومضمون محسوس للتجربة، وحالة روحانية، إنه الفناء عن شهود ما سوى الله، أو ما يسميه أبي يزيد البسامي بمقام الاصطلام.

ألقى محبوبا نفسه في الماء فألقى المحب نفسه خلفه فقال :أنا وقعت، فلم وقعت أنت؟ فقال المحب غبت بك عني، فظننت أنك أني.

 لا بد هنا من التمييز بين التجارب الحقيقية والزائفة ، لا بد من التمييز بين تجارب العارفين وحيل المشعودين الأفاكين

يقول الفلاسفة الرواقيون اليونانيون:(  أن افضل طريقة للوصول إلى السكينة والطمأنينة يكون عن طريق تجاهل المتعة والألم.) ، ذلك أن الشهوة أصل الألم لأنها تخلف  في الجسم جوعا دائما واحتياجا وافتقارا مزمنا. وقد عبر عن هذا المعنى الصوفي الكبير أبن عطاء الله السكندري في حكمه حين قال:  كل مرغوب فيه محزون عليه لأن طبيعة الرغبة  أنها تنطفئ دائما في لحظات الذروة وتخلف وراءها انهيارا وارتخاءا يؤكد الهشاشة والضعف الإنساني، فهي بين انطفاء واشتعال، تستهلك الجسم الفاني ، لدلك نحن في بحث دائم عن اللذة الهاربة المنفلتة، كلما قبضنا عليها تسللت من بين مسامنا  وعبر أنفاسنا، حتى أنه لا يمكن الأمساك  بها، لأنها سراب يحسبه الضمآن ماء. فالراحل في الصحراء، من فرط  عطشه يظن أن  ما يتراءى له في الأفق، ماء، وما هو على الحقيقة، إلا خيال في ذهنه، تولد في لحظات. الضعف والوهن، هنا يتولد الألم الناتج عن الفقدان   فالأشياء المملوكة لنا  تؤول في نهاية الأمر  إلى الفقدان، فكل ما بأيدينا من جسد أو ولد أومال، هو إلى زوال، وكلما زاد تمسكنا به زاد ألم افتقاده، لأن الفقد قدر الأحياء فهم  من العدم خرجوا وإليه يعودون فنحن إذن  بين نفس وآخر، نعدو ونجري فرارا من الموت غير مدركين أن  الذي نفر منه ملاقينا في منحدر أو منعرج أو على فراش وثير ، فهو كامن  فينا  كآنية فخار تحمل بدور الكسر في ذراتها، إنه يتلاعب بنا كما يتلاعب القط بفريسته، يطلقها أحيانا ويبتلعها حينا آخر،  ومع هذا  نستطيع العيش والاهتمام بالأشياء دون بؤس شديد.

 ما أعظم هذا الغباء الذي يجعلنا سعداء، ونحن نعرف حتما أننا سائرون إلى  العدم، أي نعمة هذه التي تجعلنا ننسى أننا  نقف جميعا في طابور طويل يوجد في نهايته مقصلة وجلاد، حقيقة ما أسعدنا بهذا النسيان إذ  لولاه ما استطعنا عملا ولا تزاوجا ولا تأسيس حظارات ولا بنينا عمرانا.

ليس الموت شر كله فلولاه ما أمكن للبشر  الحياة على الأرض، ولولاه لأكل  الواحد منا  الآخر،  لو ظل معنا أجداد الأجداد ما حصلنا معرفة أو سعادة، ومع ذلك، فنحن  مجرد فقاقيع صابون أو بالونات بلاستيكية، كلما انتفخت بالريح  والهواء  اقترب أوان انفجارها، فلماذا نخاف من الموت ونحن ما إن نولد ونخرج إلى الدنيا نبدأ في الزحف نحوه، فكل يوم  يمر من أعمارنا المفترضة نقترب منه يوما بعد آخر، لما نخاف منه ونختبأ ، ونحن كما يقول الأبيقوريون :حيث نكون لا يكون الموت،  وحيث يكون الموت لا نكون، ذلك أنه لا يمكن أن يجتمع الوجود والعدم، في نفس الآن، وهذا مبدأ منطقي يسمى مبدأ عدم التناقض، أي أنه لا يمكن أن يوجد الشيء ونقيضه في نفس الآن. فحين تكون حيا لا تكون ميتا َ، وحين تكون ميتا لا تكون حيا،  فأنت لست هو بعده، وهو لست انت قبله، إن من يوجد فوق طاولة المشرحة، ليس هو حتما من كان يخرج للتنزه مرحا، ليس هو من كان يحب ويقول الأشعار، وينام ويجري  جري الوحوش من أجل تحسين وضعه وتحقيق الأحلام.

كل شيء آل الآن إلى سكون وهدوء، إنه الآن مجرد جثة باردة بدون تلك الأحاسيس الحارة الدافئة التي كانت.

 هو الآن مجرد جثة  فاغرة فاها. جاحظة عيناها، جامدة لا تختلف عن خشب الطاولة التي وضعت عليها. إنها ستؤول إلى الكون الصامت، وتعود إلى ظلامها الدامس، حيث كانت قبل الانبثاق والانبلاج،  في لحظة عشق طائشة ورغبة عابرة، تحالفت فيها الصدفة مع الأقدار ليخرج هو وليس غيره

وهكذا جاء العالم نفسه في لحظة ليس قبلها لحظة في الزمن الفزياىي، حين انسحق الكون كله في ذرة مثل حبة بث فيها الله حرارة فانفجرت  الانفجار العظيم، ومنذ ذلك الوقت والعالم ينتفخ كالبالونة إلى ما لا نهاية. شأنها كشأن الإنسان لينطوي في لحظة الانتثار  والإندثار  إلى الهاوية، قال الله تعالى:(يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب) صدق الله العظيم.

فهذا العالم سائر. للانكماش، وليس ذلك بغريب فالكون نفسه إنسان كبير، والإنسان كون صغير،  العالم  يشبهنا ونحن نشبهه، ومصيره يشبه مصائرنا. قال الله تعالى، :(هو الذي يحييكم ثم يميتكم ثم يحييكم  ثم إليه ترجعون)  صدق الله العظيم. فنحن بين موتتين  وحياتين ،  ثم بعدها الرجوع الكبير، حيث لا يبقى هناك إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

فالرجوع هنا يعني العودة، كعودة الابن الضال إلى البيت   فكأننا في رحلة نحمل فيها متاعنا فوق ظهورنا كمسافرين بلا بوصلة واسطرلاب، في صحراء التيه أو بحر الظلمات،  فمنذ لحظة الاستهلال والصراخ،  الذي أعلنا  فيه فزعنا الإنساني،  خرجنا  إلى هذا الكون المبهم،وليس شيء بأيدينا، ونحن في شقاء وتعب وألم وحيرة.

يقترح علينا الفيلسوف الألماني الكبير آرثور  شوبنهاورز (وهو معاصر لهيجل ويعتبره نتشه معلمه الأول) في كتابه الأساسي العالم كأرادة وتمثل،  وصفة رائعة  تمكننا من  الانتصار على هذه المأساوية والعبثية القاتلة عن طريق التأمل الفلسفي والفن والمعرفة والموسيقى لأنها متع حقيقية و ليست جسدية، ولأنها متع منفلتة من الزمن العابر نستطيع بواسطتها لملمة جراح الحياة وعبثية العالم وتفاهته، ومن خلال كل ذلك يمكن مقاومة إرادة الحياة المسببة للألم، فإرادة الحياة في رأيه محاولة بائسة ويائسة لمقاومة الفناء، وهذه الإرادة ليست كما يتصورها البعض إرادة واعية، وإنما هي إرادة تعبر عن نفسها باندفاع أعمى غير عاقل نحو الحياة،  وهي تمتد فيما وراء الحياة الواعية، وتتجلى في الطبيعة اللاعضوية كقوة المغناطيس والجاذبية مثلا ، وفي الطبيعة العضوية  بدءا من  النبات ومرورا بالحيوان وصولا إلى الإنسان، ومثال ذلك ما يقع في عالم النحل إذ يسعى النحل الذكر في سباق محموم للوصول إلى الملكة، بقصد التزاوج، واستمرار النوع، وهو لا يعلم أن في ذلك حتفه وموته، ولكنها إرادة الحياة المتوحشة المتغولة، تستعمل هذا النحل المسكين  من أجل استمرار الحياة، وهذا شأن الكائنات والموجودات كلها،  لَكن الفنان أو الزاهد والعارف  والفيلسوف هم من يستطيعون التخلص من هذه الحلقة المقيتة،فالزاهد لا تساوي عنده شيئا،  لأنه لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافر، لكنها معبر ومكان مؤقت، للتزود للأبدية بالخيرية والإيمان،  يقول شلايرماخر وهو فيلسوف ألماني لاهوتي في كتابه عن الدين، خطابات ضد محتقريه :(الدين رهبة وقداسة حقل لا نهائي للعقل ينشأ بالضرورة من داخل كل روح طاهرة، وينتمي إلى منطقة غامضةغريبة من مناطق النفس البشرية يسود فيها بشكل مطلق).

 فحضور الله في حياتنا  يؤدي  للاطمئنان والهدوء،. لأننا  منه وإليه،باعتبارنا  ننتمي إليه وصدرنا عن فيض من فيوضاته،  ونقوم بقيوميته، ونصمد بصمديته، بدونه يفقد الإنسان غائيه َوجوده، مهما تمسك بمظاهر الأشياء،فكل شيء هالك إلا وجهه.

أما الحائرون  المتشككون اللاأدريون، فهم أيضا  في حالة من حالات الإيمان المختنق، الباحث عن الحقائق في رحلة الشك الموصل لليقين، إذ لولا الإنكار ما حدث الاعتراف والقرار،   فكلما جدفت وأنكرت أقررت بالنقيض بشكل حتمي، إذ لولا إيمانك في الباطن، ما أنكرته في الظاهر، إنه نوع من المعاندة والمكابرة الطفولية، كلنا في حاجة للامتلاءبالوجود الإلهي  . الحائرون أيضا في كنف الله فلله يسجد من في الأرض طوعا أو كرها  وأمرهم إلى الله.

أما  الأشرار  ممن يملأ قلبهم الجحود و الحقد والكراهية للإنسانية ، المتسببون  في الإبادات و الآلام والأحزان ومحترفي الإجرام،  فهم ذاهبون على الوجه الذي كانوا عليه، وتلك نارهم وسجنهم وعقابهم، إنهم  لا يجدون فكاكا من أفعالهم وأعمالهم، يخنقون أنفسهم بأيديهم،  ويسيطر عليهم كابوسهم المرعب، أبد الآبدين، فنفسهم  المتوهمة كما يقول الإمام  الدهلوي في كتابه االحجة البالغة، تحبسهم  في صور الحياة الفانية، فتتجسد أفعالهم وما كانوا عليه، تصوروا حجم الألم والمعاناة لو أن أحدا ما لا يستطيع النهوض من نومه، والتخلص من حلمه، ويبقى محبوسا فيه أبدا الآبدين، إن ذلك هوجحيم الأشرار ، وأعمال الطيبين جنة الأخيار، قال الله تعالى : ( من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.) فرؤية الأفعال شرا أو خير هي الجنة أو النار.

لهذا لا مجال للخوف نستطيع التغلب على عبثية العالم، وألم الحياة، بالإيمان والمعرفة والفن والموسيقى، لا مجال للخوف والحزن. باعتبارنا أخيارا، نحن بالضرورة سائرون إلى حياة أفظل وعالم أرحب، فقط يجب أن نعطي قيمة للحظات البسيطة والعميقة والأحاسيس الدافئة، التي نعيشها مع بعضنا البعض،  كارتشاف  فنجان على كرسي خشبي في زواية من مقهى عتيق، أو لحظة تأمل على شاطئ بحر هائج، او أثناء مرافعة عن متهم بريئ،  او دفاعا عن امرأة معنفة أو مهضومة الحقوق، او مساعدة عجوز يعبر الطريق، أو سجودا خاشعا لله في وقت السحر، وقد نام  الخلق وانهمرت الدموع بكاء حارا في ظهر الغيب.

حينما نكون مع أنفسنا لوحدنا دون الآخرين، لا نكون مرائين أو منافقين، حينما نكون صادقين نكون أصفياء.

سنعبر جميعا  هذه المحنة التي أقضت مضجع العالم وأفرغت الشوارع، َََوجعلتنا نكتشف ضعفنا،وقلة حيلتنا وهواننا،  فاكتشفنا ذواتنا على حقيقتها وهشاشتها. ستمر هذه الأزمة وقد تطهرنا من أنانياتنا، سنلتقي وقد اكتشفنا أننا نحتاج بعضنا البعض إنطلوجيا ووجوديا أكثر من أي شيء آخر في هذه الحياة. ذلك أنه لولا الحب والعشق ما خلق الله العالم فنحن في حالة انجذاب دائم إليه.

واختم بقول عظيم  للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكية : وبالجملة  فالقلوب به تعالى هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصلوه تعالى عن العالم بالكلية من شدة التنزه فلايقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب فلايتحقق لهم، فعلى الدوام متحيرون، فتارة يقولون هو، وتارة يقولون ما هو؟ وتارة يقولون هو ما هو؟ وبذلك ظهرت عظمته.

Share
  • Link copied
المقال التالي