طلقات نارية تخترق واجهات الأبنية، قناصة يطلقون الرصاص عشوائياً، قتلى وجرحى يسقطون تباعاً وسكان محاصرون داخل منازلهم.. عينة من مشاهد هزت اللبنانيين عند إحدى خطوط التماس القديمة الخميس معيدة للأذهان ذكريات الحرب الأهلية الأليمة.
صباح الخميس، وبالتزامن مع تظاهرة لمناصري حزب الله وحركة أمل أمام قصر العدل في بيروت، اندلعت اشتباكات عنيفة لم تتضح ملابساتها حتى الآن عند منطقة الطيونة القريبة، أودت بحياة ستة أشخاص وأصابت 30 آخرين بجروح.
في هذه المنطقة تحديداً اندلعت شرارة الحرب الأهلية (1975-1990)، ومنها يمر طريق رئيسي يفصل بين أحياء ذات غالبية مسيحية وأخرى ذات غالبية شيعية، تحول إلى خط تماس خلال سنوات الحرب.
عند مستديرة الطيونة التي تحيط بها أبنية عدّة ما زال بعضها مهجوراً منذ سنوات الحرب، وجد السكان أنفسهم رهائن رصاص أطلقه قناصة ومسلحونودوي قذائف صاروخية. ووجه كثر نداءات استغاثة عبر وسائل الاعلام لمساعدتهم على إخلاء منازلهم. وهلع أهال الى مدارس أطفالهم في المنطقة.
وبدت المنطقة أشبه بساحة حرب، رغم تواجد وحدات الجيش وتنفيذها انتشاراً سريعاً في المنطقة.
أنعشت المشاهد ذكريات الحرب الأهلية لدى سحر (41 عاماً).
وتقول لوكالة فرانس برس “منذ الصباح، أتلقى رسائل من أصدقائي ممن عايشوا معي زمن الحرب نتحسر فيها على جيل جديد يعيش اليوم تجربتنا ذاتها.. من الاختباء في أروقة المدرسة أو زوايا الغرف أو في الحمامات، كانت مشاهد أسبوعية اعتدنا عليها”.
وتضيف “ما جرى مرعب وأيقظ الماضي والحاضر والمستقبل.. كأننا عالقون في آلة زمن، إذ أن الأشخاص ذاتهم هم وجوه الحرب والسلم، حكامنا اليوم ومن يطبخ مستقبلنا غداً”.
– “تذكرت كل شيء” –
انتهت سنوات الحرب في البلاد بعد توقيع اتفاق الطائف العام 1989، وجولة عنف أخيرة انتهت في 1990. وخلّفت الحرب اللبنانية أكثر من 150 ألف قتيل و17 ألف مفقود.
وتقاسمت القوى السياسية التي خاضتها، السلطة بعد الحرب وفشلت في بناء دولة مؤسسات وقانون، وتتحمل اليوم مسؤولية الانهيار الاقتصادي المستمر في البلاد منذ أكثر من عامين، وبات معه نحو 80 في المئة من السكان تحت خط الفقر.
في شوارع مؤدية إلى مستديرة الطيونة، شاهد مصور لوكالة فرانس برس الخميس مسلحين، بعضهم مقنع، من حركة أمل وحزب الله يطلقون النيران باتجاه أبنية يتواجد فيها قناصة.
وفيما لم يكن الطرف الآخر واضحاً للعيان ولم يتسن لوكالة فرانس برس تحديد مطلقي النيران، وضع بعض مسلحو حزب الله وحركة أمل شارات تؤكد انتمائهم، فيما ارتدى الغالبية لباساً مدنياً.
واتهم الحزبان الشيعيان “مجموعات من حزب القوات اللبنانية”، أبرز الأحزاب المسيحية التي شاركت في الحرب الأهلية وتعد اليوم معارضاً شرساً لحزب الله، بـ”الاعتداء المسلح” على مناصريهما.
لم تتمالك مريم ضاهر (44 عاماً) دموعها عندما سمعت أصوات الرصاص وشاهدت على التلفاز رجلاً وامرأة يختبئان خلف سيارة في الطيونة.
وتقول ظاهر وهي أم لصبيين، “تذكرت كل شيء.. في اللحظة نفسها وصلتني رسالة من مدرسة ابني تطلب من الأهالي أن يأتوا لاصطحاب أطفالهم”.
وتضيف “سألت نفسي في أي رواق يجلس سكان أبنية الطيونة اليوم، ثم استرسلت بالبكاء وتذكرت نفسي طفلة مختبئة في رواق المنزل”.
وأعاد إطلاق الرصاص صور مسلحين الى ذاكرة مريم، اعتادوا الصعود الى سطح البناء حيث كانت تسكن مع أهلها، ليبدأ القنص “وتشتعل المنطقة”.
وبدأت الاشتباكات الخميس، وفق وزير الداخلية بسام مولوي، “من خلال القنص” باتجاه الرؤوس.
وطبع رصاص القنص مرحلة الحرب الأهلية، التي أنهكت جيلاً كاملاً من اللبنانيين، خصوصاً سكان خطوط التماس والمناطق الساخنة.
تسأل مريم نفسها سؤالاً واحداً اليوم “كيف استطاع زعماء الحرب أن يسيطروا على جيل آخر اليوم؟”
وتضيف “فكرة اندلاع حرب جديدة مرعبة، لا أستطيع أن اعيش التجربة نفسها مجدداً. أريد المغادرة وحماية ولديّ”.
وفي وقت اختبأ الناس في بيوتهم وشهدت شوارع بيروت ومداخلها حركة سير خفيفة، توالى مسؤولون على التحذير من “الفتنة”.
وخلافا للحرب الأهلية التي بدأت بين أحزاب مسيحية وفصائل فلسطينية ساندتها قوى إسلامية ويسارية لبنانية، وما لبثت أن شاركت فيها قوى إقليمية أبرزها سوريا وإسرائيل، فإن اشتباكات الخميس تزامنت مع توتر إزاء الموقف من المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار.
وتعرض الأخير خلال الأيام الأخيرة لحملة ضغوط قادها حزب الله، القوة السياسية والعسكرية الأبرز في البلاد، اعتراضاً على استدعائه وزراء سابقين وأمنيين لاستجوابهم في إطار التحقيقات التي يتولاها، تخللها مطالبات بتنحيته.
ويقول الياس (48 عاماً)، الذي عايش الحرب الأهلية أيضاً وانقطع بسببها عن الدراسة لعامين، “الفرق أنه كان ثمة سياق وظروف للحرب أما ما جرى اليوم فلا يوجد ما يبرره”.
ويضيف “انتهت الحرب ولم تجر محاسبة المرتكبين.. ما نشهده اليوم هو نتيجة للإفلات من العقاب ويؤكد أن صوت السلاح يعلو دائماً فوق كل ما عداه”.
تعليقات الزوار ( 0 )