Share
  • Link copied

‎إعادة قراءة حديث الفرقة الناجية: بين الرواية والتأويل والتاريخ

شكّل حديث الفرقة الناجية أحد أكثر النصوص الحديثية التي أُثير حولها الجدل داخل الفكر الإسلامي، سواء من حيث مدى صحته وأسانيده، أو من حيث التأويلات المختلفة التي تبنّتها الفرق والتيارات الدينية عبر العصور. فالحديث الذي يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي جاء فيه: “ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.”، لم يكن مجرد نص يُنقل في كتب الحديث، بل تحول إلى ركيزة في الخطاب العقدي والسياسي لكثير من الجماعات التي سعت إلى احتكار مفهوم النجاة وإقصاء غيرها من الدائرة الإسلامية.

عند النظر في السند، نجد أن الحديث قد ورد عن عدد من الصحابة، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعوف بن مالك الأشجعي، وأخرجه عدد من المحدثين مثل الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه، وأحمد بن حنبل، والحاكم، والطبراني، والدارمي، بدرجات متفاوتة من الصحة. غير أن بعض العلماء مثل ابن حزم الظاهري رفض صحة الحديث مشيرًا إلى اضطراب طرقه وضعف بعض رواته، فيما أشار الإمام الشوكاني إلى ضعف بعض رواياته، وإن لم يرفض معناه بشكل قاطع، كما رأى الإمام الصنعاني أن الحديث يعاني من إشكالات سندية واضحة. من جهة أخرى، ركّز بعض العلماء المعاصرين، مثل محمد رشيد رضا، على الأثر السلبي لاستخدام الحديث في تكريس الانقسام بدلًا من تعزيز الوحدة الإسلامية.

إلى جانب ذلك، فإن الحديث ورد بصيغ متعددة، بعضها لا يتضمن عبارة “كلها في النار إلا واحدة”، مما دفع بعض العلماء إلى القول بأن هذه الزيادة قد تكون إدراجًا تفسيرياً من بعض الرواة وليست نصًا نبوياً قاطعًا. كما أن إضافة “ما أنا عليه وأصحابي” جاءت بصياغات مختلفة، مما يثير تساؤلات حول مدى ثبات النص الأصلي للحديث. هذه التباينات في الرواية تجعل من الضروري النظر في المتن ومدى انسجامه مع المبادئ الكلية للإسلام، بدلًا من اعتماده كقاعدة لتصنيف المسلمين إلى ناجين وهالكين.

الإشكالية الأعمق لا تتعلق فقط بصحة الحديث، بل بتأويله وتوظيفه، ومدى انسجام ذلك مع القيم الأساسية للإسلام. فلو افترضنا صحة الحديث من حيث السند، فإن تأويله لا ينبغي أن يُبنى على نظرة إقصائية تستند إلى تصنيف الناس بين “ناجٍ” و”هالك”، بل يجب أن يُفهم في سياق التحذير من التمزق والتفرق، وليس كمعيار للحكم على الفرق والمذاهب المختلفة. المشكلة الأساسية في التأويل التاريخي لهذا الحديث أنه تحوّل إلى أداة أيديولوجية تُستخدم لتبرير الصراعات داخل الأمة، حيث ادّعت كل جماعة أنها الفرقة الناجية وأخرجت غيرها من الإسلام، مما أدى إلى حالة من التشرذم الداخلي. هذا الفهم يتناقض مع القرآن الكريم الذي يؤكد على وحدة الأمة في قوله تعالى: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.”، كما أنه لا ينسجم مع الأحاديث الصحيحة التي تؤكد سعة رحمة الله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.”

الإسلام لم يجعل النجاة حكرًا على جماعة واحدة، بل جعلها مرتبطة بالتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم.”، فكيف يمكن لحديث آحاد أن يُستخدم كمرجعية لتحديد مصير الأمة بأكملها؟ المشكلة لا تكمن في الحديث ذاته، بل في تأويله التاريخي، حيث تحوّل إلى معيار مذهبي يُستخدم لإقصاء الآخرين، بدلًا من أن يكون تحذيرًا من التشرذم والانقسام. إذا كان الهدف من الحديث بيان الفرقة الناجية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم بتحديد هذه الفرقة بصورة قاطعة بحيث لا تترك مجالًا للتأويلات المختلفة؟ الإجابة تكمن في أن الفهم الصحيح للإسلام لا يُبنى على الإقصاء، بل على الرحمة والسعة التي جعلها الله أساسًا للدين.

من هذا المنطلق، جاء إصداري الجديد “الفرقة الناجية: بين النص والتأويل والتاريخ”، وهو محاولة علمية لإعادة تفكيك هذا المفهوم وإخضاعه لدراسة نقدية تأصيلية وفق منهج أصولي ومقاصدي، يعيد الاعتبار للنصوص المؤسسة بعيدًا عن التأويلات الإقصائية التي كرّست الانقسام داخل الأمة. هذا الكتاب لا يدافع عن فرقة دون أخرى، ولا ينحاز إلى تيار فكري بعينه، بل يهدف إلى مساءلة الموروث الحديثي والتفسيري بطريقة تحرّر العقل الإسلامي من القيود التأويلية التي أُلصقت بهذا الحديث.

لقد أصبح من الضروري اليوم إعادة قراءة هذا الحديث وفق رؤية علمية تعتمد على التمييز بين الحديث كخبر وتأويله كأداة مذهبية، فلا يُستخدم كمصدر للتقسيم والإقصاء. كما أن الرجوع إلى مقاصد الشريعة في الوحدة والرحمة يُظهر أن الإسلام ليس دينًا يقوم على تصنيف الناس إلى فئات ناجية وأخرى هالكة، بل هو رسالة تُخاطب البشرية جميعًا، وتفتح باب النجاة لكل من يسعى إلى الحق. توسيع مفهوم النجاة ليشمل الأمة جمعاء بدلًا من البحث عن فرقة واحدة تحتكر الحق هو السبيل لفهم الحديث فهمًا أكثر انسجامًا مع المبادئ الكبرى للإسلام، فالحديث ليس دعوة إلى تكفير الفرق والمذاهب، بل تحذير من خطورة التفرق والتشرذم الذي يهدد وحدة الأمة.

التعامل مع حديث الفرقة الناجية لا ينبغي أن يكون من خلال تأويلات متعسفة توظّفه لخدمة صراعات تاريخية أو أيديولوجية، بل يجب أن يكون في إطار البحث عن فهم يتماشى مع مقاصد الإسلام في العدل والرحمة. حتى لو قُبل الحديث سندًا، فإنه لا يمكن أن يكون حجة تُناقض الأصول القطعية للقرآن الكريم والسنة النبوية التي تؤكد على أن الإسلام رحمة للعالمين. إعادة قراءة هذا الحديث في ضوء السياق التاريخي والمعرفي المعاصر هو ضرورة علمية، لأن كثيرًا من الإشكالات التي تعاني منها الأمة اليوم ناتجة عن تأويلات خاطئة للنصوص، حُوّلت إلى أدوات للصراع بدلًا من أن تكون وسائل لتحقيق الوحدة والتقارب.

الحاجة اليوم ليست إلى البحث عن فرقة ناجية تحتكر الحقيقة، بل إلى استعادة روح الإسلام التي تقوم على العدل والرحمة والشمولية، بحيث يكون الإسلام دينًا يحتضن جميع المسلمين، بدلًا من أن يكون عنوانًا للفرقة والانقسام. الفهم الصحيح لهذا الحديث يجب أن يُحرر من القراءات الضيقة التي سادت عبر العصور، وأن يُعاد تأويله بطريقة تحقق غايات الإسلام في توحيد الأمة بدلًا من تفريقها. الإسلام ليس مشروعًا للإقصاء، بل هو دين يقوم على الأخوة والتكامل، وما لم يُفهم هذا الحديث ضمن هذا السياق، فسيظل يُستخدم كأداة للتنازع بدلًا من أن يكون وسيلة للإصلاح.

والله من وراء القصد.

Share
  • Link copied
المقال التالي