استمر اجتماع “الكابنيت” الإسرائيلي حتى ساعة متأخرة من فجر الليلة الفائتة دون الكشف عن مخرجاته حتى الآن في ما يتعلق بمستقبل الصفقة مع “حماس” بعد استشهاد يحيى السنوار، سوى أن هناك “أفكارًا خلاقة” مطروحة الآن، كما قالت الإذاعة العبرية الرسمية، اليوم. ولم يتضح بعد إذا ما تمّ تخويل نتنياهو وغالانت صلاحية تحديد موعد الضربة في إيران.
قبل ذلك، كانت الإذاعة العبرية قد نقلت، أمس، عن مصدر أمني إسرائيلي قوله إن إسرائيل ستضرب قريبًا جدًا في إيران، وهي تعي أنها لن تحتملها وسترد، ولذا فقد اتخذت تدابير دفاعية خاصة.
وتدلل مواقف القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل، خاصة نتنياهو، على أنها تواصل مساعيها لتوجيه ضربة قوية في إيران واستدراج الولايات المتحدة إلى “ارتطام عظيم” معها بالانتقال من الدفاع إلى الهجوم.
منذ صعوده لسدة الحكم، وضع نتنياهو إيران على رأس أولوياته، كما تجلى في تصريحاته المتتالية، وذلك لاعتبارات إستراتيجية ترى في طهران العدو الأخطر، ولحسابات سياسية؛ فقد استخدمها نتنياهو فزاعة لطرح إسرائيل كضحية معتدى عليها في العالم، ولصرف الأنظار عن القضية الفلسطينية، ودفع الإسرائيليين للاصطفاف خلفه بصفته “القائد القوي الوحيد” القادر على مواجهة “هذا الغول الفارسي”، “تشرتشل الإسرائيلي”.
بين طهران ودمشق
ضمن هذه المساعي، بادر نتنياهو للمصادقة على اغتيال قائد “حماس” إسماعيل هنية وهو في أحضان إيران، داخل طهران، وقبل ذلك صادقَ على اغتيال جنرال إيران داخل سفارتها في دمشق. وهو يعي أن هذه ضربة لإيران ولهيبتها وكرامتها القومية، وذلك في إطار مساعٍ حثيثة وخبيثة لجرّ أمريكا. وقتها أعرب حتى مراقبون إسرائيليون عن شكوكهم حول جدوى وقيمة هذين الاغتيالين أمام مفعولهما الخطير في تصعيد التوتر ودخول محور المواجهة المباشرة الخطيرة مع إيران، فيما تشتعل الحرب في جبهات أخرى.
حتى بدا وكأن نتنياهو معنيٌّ هو الآخر بـ “وحدة الساحات”. ولذا وظّف طاقات ومساحة كبيرة من خطابه أمام الكونغرس، قبل شهور، لإقناع الرأي العام الغربي، خاصة الأمريكي، بضرورة ضرب “رأس الأخطبوط” الذي يهدّد الغرب، وأن إسرائيل تقوم بمواجهته نيابة عنه، فقد ذكرها في كلمته هذه 27 مرة.
تموز ودير الزور
والآن، أكثر من أي وقت مضى، عشية الانتخابات الأمريكية التي تمكّنه من مواصلة ابتزاز الأمريكيين، يجد نتنياهو نفسه أمام لحظة تاريخية لتوجيه ضربة شديدة لإيران ربما تشمل منشآت نووية فيها، وسط رهان على دفع واشنطن مضطرة للانضمام للهجوم كي لا تبدو الإدارة الأمريكية كمن تترك حليفتها لوحدها، وبالتالي صب الماء على طاحونة ترامب وزيادة حظوظه الانتخابية.
يتجه نتنياهو الآن، بدوافع إستراتيجية عسكرية، لتوجيه ضربة شديدة لإيران، ربما تشمل منشآتها النووية، خاصة أنه يذكر، ومعه الإسرائيليون، أن رئيس حكومة الاحتلال الراحل مناحم بيغن (زعيم حزب “الليكود”) قد ضرب مفاعل تموز في بغداد عام 1981 رغم المعارضة الأمريكية، كما يذكرون قيام سابقه في المنصب، وخصمه السياسي اللدود إيهود أولمرت بضرب مفاعل نووي سوري في دير الزور، عام 2007.
فهل الآن، بعدما باتت المواجهة مع إيران مكشوفة، سيمتنع نتنياهو عن القيام بما لا يقلّ عمّا فعله بيغن وأولمرت وهو المصاب بجنون العظمة ومسكون بهاجس التاريخ؟ علاوة على ذلك، يتطلع نتنياهو لاصطياد عصفور آخر بتوجيه ضربة لإيران، فهي تدخل إسرائيل بدائرة “بينغ بونغ” مع إيران، ما يجعل الحرب على جبهاتها المختلفة مفتوحة، طمعًا بالابتعاد عن يوم الحساب الداخلي الذي ينتظره.
نتنياهو، السياسي المجرب، منذ اعتلاء سدة الحكم عام 1996، يستفيد من ضعف الضغوط الخارجية والداخلية. فالإسرائيليون لا يخرجون بكميات كبيرة للشوارع لوقف الحرب المكلفة لأنها ما زالت مستمرة، ومعظمهم يشارك أبناؤهم فيها. ولكن عندما تنتهي الحرب، من المؤكد أن يخرج مئات الآلاف منهم مطالبين بلجنة تحقيق رسمية، وربما بانتخابات مبكرة، لإدراكهم أن ضربة “طوفان الأقصى” أكبر من أن يسامحوا عليها، بعدما ألحقت ضررًا فادحًا بهم وبدولتهم وحفرت في وعيهم.
في التزامن، يتنبّه نتنياهو إلى أن الاستطلاعات لا تبتسم له، رغم المكاسب التكتيكية المتتالية في لبنان وغزة، ما يعني سقوطه من الحكم ومن التاريخ، وهذا هو الكابوس الأكبر بالنسبة له. ولذا، فإنه يخشى وقف الحرب والذهاب لانتخابات عامة، ويمعن في إشعال الحرائق رغم أن مصلحة إسرائيل تقتضي وقف النزيف، وفق ما يراه مراقبون إسرائيليون أيضًا.
مسيّرة قيساريا
ويواصل نتنياهو هذه المساعي، فيوظف الآن مسيّرة “حزب الله” التي هاجمت بيته الخاص في مدينة قيساريا الساحلية. سارع للقول إن وكلاء إيران الذين حاولوا اغتياله وعقيلته (السبت) ارتكبوا خطأً فادحًا، مهددًا من جديد بالقول إن ذلك لن يردعه، ولن يردع إسرائيل عن الاستمرار في الحرب ضد أعدائها.
وتوجه نتنياهو إلى الإيرانيين وشركائهم، محذّراً من أن كل من يمسّ سكان إسرائيل سيدفع ثمنًا باهظًا. ومضى في التهديد والوعيد: “إننا مستمرون في تصفية المخرّبين، وأكرر التزامي بإعادة المخطوفين من قطاع غزة وسكان شمال البلد إلى منازلهم، كما أكرر تعهدي بتحقيق أهداف الحرب المنشودة وتغيير الواقع الأمني في المنطقة”.
على خلفية محاولات نتنياهو وعدد كبير من وزرائه، الذين انضموا لحملة اتهام إيران وتحميلها المسؤولية عن عملية المسيرة في قيساريا، بغية شيطنتها وحصد المزيد من الشرعية الدولية لمهاجمتها، سارعت طهران للنأي بنفسها عن العملية.
ويستفيد نتنياهو، اليوم، من ضعف المعارضة برئاسة يائير لبيد، وانقيادها خلف شعارات الحرب، وتأييدها لضرب إيران، رغم دعوة بعض الجنرالات في الاحتياط للتريث، وإعادة النظر بضرب إيران، والذهاب لوقف الحرب ولتسوية في الجبهات المختلفة، تحاشيًا لاستمرار النزيف والتورط بمغامرة لا أحد يعرف كيف تنتهي.
الرهان على النار
وانضم اليوم عددٌ من المراقبين في إسرائيل للتحذير مما وصفوه بـ “المغامرة الخطيرة”، منهم المحلل السياسي في القناة 13 العبرية رافيف دروكر، الذي يقول إن نتنياهو الآن يندفع نحو إيران وتبادل لكمات معها لاعتبارات تتعلق به لا بإسرائيل، مشددًا على أنها مغامرة كبيرة وخطيرة.
ويضيف، في مقال تنشره “هآرتس”، اليوم، تحت عنوان “طريق مسدود”: “في السطر الأخير، يمكن طرح عدة سيناريوهات لمستقبل الحرب، وقسم منها مبارك يؤدي لتآكل قدرات أعدائنا العسكرية، لكن سيناريو واحداً من الصعب رؤيته: وقف الحرب. نتنياهو غير مستعد لسماع ذلك، ولذا صفقة التبادل مع “حماس” عالقة. جهات مطلعة على المفاوضات تقول إن حالة المداولات لم تتغير بعد مقتل السنوار. الشيء الوحيد الذي حدث هو أن نتنياهو عزز زعمه المضرّ، وبموجبه هناك مبرر لمواصلة الحرب… فها نحن قد قتلنا للتوّ السنوار، والآن ربما نقتل أخاه محمد”.
في هذا السياق، يوجّه المؤرخ الإسرائيلي المختص بحرب 1973 انتقادات واسعة للمعارضة أيضًا، وليس فقط لائتلاف نتنياهو، بسبب تغييب الحلول السياسية ورهان إسرائيل على القوة العسكرية فقط.
دلالة تهريب المستندات
ويرى المحلل العسكري في الصحيفة، عاموس هارئيل، أن تهريب مستندات البنتاغون الخاصة بالضربة الإسرائيلية القوية في إيران يدل على مخاوف أمريكا منها. كما يرى أنه من الصعب التصديق أن التسريب جاء بقرار مؤسساتي أمريكي، لكنه يدل على القلق في واشنطن من توسيع نطاق التصعيد عشية الانتخابات.
بحسب هارئيل، “يستدل من المستندات المذكورة أيضًا أن واشنطن تقدر أن إسرائيل تعدّ لضربة قوية في إيران، وأن مسيّرة قيساريا تطرح احتمال استهداف رموز سلطة إيرانية”.
هذا التصعيد مع إيران يرافقه تصعيد في لبنان، فقبيل الهجمات المدمرة على بنوك “القرض الحسن”، هدد غالانت بالانتقال من هزيمة “حزب الله” إلى تدميره.
في التزامن، يصل المبعوث الأمريكي هوكشتاين إلى بيروت ليجدد المفاوضات تحت النار، وهي تبدو كمساعيه السابقة فاشلة، فهذه المرة أيضًا يحمل شروطًا تعجيزية نقلها نتنياهو لواشنطن.
(القدس العربي)
تعليقات الزوار ( 0 )