تَشكَّلَ التقرير حول الموارد البشرية المدرج عل هامش مشروع قانون المالية لسنة 2022 من ثلاثة أجزاء، كان أولها بعنوان: “كسب رهان تطوير الإدارة العمومية، التزام دائم” بينما جاء الجزء الثاني و الثالث من التقرير تواليا تحت مُسَمَّى “الموارد البشرية بالوظيفة العمومية المغربية 2011-2021” و مسمى “نفقات الموظفين”.
وإذا كان الجزأين الأخيرين يتعلقان بتقديم إحصائيات متنوعة حول الموظفين من حيث العدد أو التوزيع الجغرافي وغيره، وكذا تطور نفقات الموظفين، فإن الجزء الأول قد راهن على التأسيس لإدارة مواطنة مندمجة في إطار الدينامية التي يشهدها المغرب في مجالات متعددة، وهو ما لا يمكن بلوغه إلا بالتمحيص والمعاينة من خلال سرد نموذج من الواقع يتجلى ضمن مثالنا هذا في مديرية الموارد البشرية لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، للوقوف على مدى تطابق الحصيلة مع الأهداف. وفي هذا الإطار أشار التقرير إلى بدائل العمل الحضوري، حيث فرضت الظرفية الوبائية التي تعيشها البلاد، اعتماد وسيلة العمل عن بعد تفاديا للاحتكاك بالمرتفقين من جهة و بالزملاء الموظفين من جهة ثانية.
وقد عملت إدارة الجمارك في البداية على اعتماد هذه التقنية إلى جانب تقنية المناظرة عن بعد، وأكدت على نجاحها الذي فاق التوقعات بالنظر إلى طبيعة بعض المهام الجمركية التي لا تستدعي إجراء المراقبة من داخل المكتب، مثل مراقبة تتبع الحسابات في إطار الأنظمة الاقتصادية للجمرك، أو المراقبة غير المادية لبيانات التصاريح الجمركية، والذي مَكَّنَ المفتش، عبر ما أتاحه التجريد المادي للوثائق، من إجراء المراقبة انطلاقا من فحص الوثائق المدرجة في النظام المعلوماتي، حتى إذا ما ظهرت بعض الاختلالات، أمكن للمفتش إحالة بيان التصريح الجمركي آلياً على الآمرية المكلفة بالمراقبة الميدانية.
لكن سرعان ما تم التخلي عن تقنية العمل عن بعد هذه، لربما بسبب ما كشفت عنه من هراء الحركة الانتقالية، التي أضحت غير ذي نفع، في ظل تواجد مراقبة عن بعد تفي بكل التطلعات، وهو ما يشكل صفعة لهذه المديرية من حيث تبعات قرار النقل الجماعي الذي لا يعكس الصالح العام بقدر ما يعكس الأفق الضيق لمُصْدِرِه، مثلما تشهد على ذلك كثرة الطلبات الرافضة للنظام الأساسي لهيئة موظفي الجمارك المستحدث مؤخرا والمنتظر إحالتها على إدارات أخرى محترمة تفعيلا لمسطرة إعادة الانتشار، أو مثلما عبرت عنه كثرة الشواهد الطبية التي أفادت وجود حالات من التذمر والاكتئاب في صفوف الأطر والأعوان، مما هَمَّش توصيات المنظمة العالمية للجمارك الداعية إلى تعزيز الشعور بالانتماء، مع أن الحكمة في هذا المقام تقتضي نقل الرؤساء وليس المرؤوسين.
أولا-البرنامج الوطني لإصلاح الإدارة:
حيث يهدف هذا البرنامج إلى تنزيل كافة المشاريع المسطرة بين يونيو 2018 و نهاية 2021، ومنها:
- قانون الحصول على المعلومات الذي اعتبر في مضمونه بأن تكريس هذا الحق يأتي ليؤكد الالتزام الدائم للمملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وبمقتضيات المادة 19 من الإعـلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وكذا المادة 10 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي ألزمت الإدارات العمومية بضرورة تمكين المواطنين من الحصول على المعلومات واتخاذ التدابير الكفيلة لممارستهم لهذا الحق، تعزيزا للشفافية وترسيخا لثقافة الحكامة الجيدة. لكن واقع الإدارة الجمركية الحالية قد أثبت عكس هذه التوجهات مرة أخرى عندما أغلقت هذه الأخيرة باب الرد على التظلمات المرفوعة من موظفيها حول قرار النقل الجماعي، أو حول التظلم ضد بعض القرارات الأخرى الجائرة كقرار التهديد بتوقيع عقوبات عن عدم إخلاء مسكن شبه وظيفي سبق لشاغله تسليمه للجهة المعنية في الوقت المناسب، مما ينذر بسوء التسيير وغياب التحيين بشكل قد يثير انتباه وزيرة الاقتصاد والمالية المعينة حديثا بصفتها وصية على القطاع.
- ميثاق المرافق العمومية الذي أكد في بعضٍ من جوانبه على الجودة عبر تقديم خدمات تستجيب لحاجيات المرتفقين وانتظاراتهم، بتعبئة جميع الوسائل المتاحة، أخذا بعين الاعتبار تحقيق النجاعة والفعالية، وكذا اعتماد مبدأ التفريع في توزيع الاختصاصات من أجل اتخاذ القرارات و تنفيذها على المستوى الأكثر ملاءمة، وهي أهداف لا يمكن تحقيقها إلا بوسائل سليمة يأتي على رأسها الرأسمال البشري، حيث لم تعر إدارة الجمارك الأهمية المطلوبة لهذه الموارد مثلما يشهد على ذلك كثرة الطلبات بالتقاعد النسبي أو المُبكِّر وكثرة الشواهد الطبية بالاكتئاب الحاد وكذا تعبير عدد من الموظفين عن الرغبة في التراجع عن النظام الأساسي الجديد لهيئة موظفي الجمارك الذي مُورِس، بقصد قبوله، ضغطٌ بلغ أَوْجَهُ على الموقع المعلوماتي الداخلي بتعطيل خانة “عدم الموافقة”، الشيء الذي يتنافى مع الحقوق الدستورية والمبادئ القانونية في هذا الإطار. كما أن تنفيذ القرارات على المستوى الأكثر ملاءمة لن يبلغ مداه مادامت الإدارة الجمركية تُقْصِي ذوي الاختصاص ممن راكموا تجربة عن طريق إبعادهم أو تنقيلهم إلى مراكز لم يعتادوا مهامها بالنظر إلى تشعب المهام الجمركية، على غرار الإدارات الأمنية للبلاد، و تنوعها بين عمليات المحاسبة العمومية أو عمليات التصفية الضريبية التي تتفرع بدورها إلى مجالات مختلفة منها ما هو تقني كاختبارات المعادن الثمينة و منها ما هو قانوني لا يصلح فيه الموظف إلا لتمثيل الإدارة أمام المحاكم تبعا للمؤهلات ذات الاختصاص.
- الميثاق الوطني لللاتمركز الإداري الذي أقر في مادته الثالثة على أن اللاتمركز الإداري لمصالح الدولة يعد تنظيما إداريا مواكبا للتنظيم الترابي اللامركزي للمملكة القائم على الجهوية المتقدمة، وأداة رئيسية لتفعيل السياسة العامة للدولة على المستوى الترابي، قوامه نقل السلط والوسائل وتخويل الاعتمادات لفائدة المصالح اللاممركزة على المستوى الترابي، من أجل تمكينها من القيام بالمهام المنوطة بها، واتخاذ المبادرة تحقيقا للفعالية والنجاعة. وفي هذا الإطار يكون التساؤل مشروعا حول الجدوى من وجود مصالح جهوية للتكوين المستمر في الوقت الذي تم فيه مركزة هذا النوع من الخدمات بمعهد التكوين الجمركي في مدينة بن سليمان، كما يحوم التساؤل حول مدى استقلالية المصالح الجهوية عن مديرية الموارد البشرية والبرمجة بالإدارة المركزية في تدبير الموارد اللوجيستكية الخاصة بها وإبرام صفقاتها العمومية.
ثانيا- إصلاح الإدارة من منظور النموذج التنموي الجديد:
أعْطِيَت انطلاقة التفكير في النموذج التنموي الجديد بالمملكة المغربية من طرف ملك البلاد في خطابه الموجه إلى البرلمان بمجلسيه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة في 12 أكتوبر 2018، وهو نموذج يحمل تصورا تنمويا في أفق 2035 استطاعت اللجنة الموكول لها إعداده، أن تقدمه أمام جلالة الملك في 25 ماي 2021، بحيث أشار إلى ضعف ثقافة الفعالية وروح القيادة داخل الإدارة مستعرضا تطلعات المواطن لإدارة شفافة وخدمات عمومية تتسم بالجودة مع التوظيف الأمثل للإمكانيات والفرص التي تتيحها الرقمنة، ومُؤكِّداً على ضرورة تطوير جاذبية الوظيفة العمومية العليا وأهمية البحث عن الكفاءات واستقطابها وتحسين فعالية الجهاز الإداري. وهي حقيقة نلمسها في التسيير الحالي لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة الذي أضر بالكفاءات التي سبق للبعض منها أن التحق بسلك التعليم العالي، في وقت لازال فيه البعض الآخر ينتظر دوره من خلال تفعيل مسطرة إعادة الانتشار، لقناعته التامة بسلبيات النظام الأساسي الخاص الصادر حديثاً والذي أتى لِيُجْهِز على ما تبقى من حريات كان يكفلها قانون الوظيفة العمومية.
أما عن رؤية المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فقد قدم توصيات تهدف إلى تعزيز ثقافة الاستحقاق وتقييم الأداء والمساءلة، كما أوصى بضرورة تقوية ثقافة الانتماء لدى الفاعلين العموميين، وهي كلها أهداف تم تغييبها في الإدارة الجمركية بشكل كشف للدولة عن عيوب في التسيير وجب تداركها بربط المسؤولية بالمحاسبة أولاً ، و بإعادة هيكلة هذه الإدارة عن طريق وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ثانياً.
يجب تفعيل المحاسبة ضد كل من يعبث بالتسيير الإداري