شهد العالم خلال الانتخابات الأمريكية الأخير زخما كبيرا في تتبع أطوارها و تحليل وقائعها و أحداثها، زخم كان يحمل في طياته تعطشا لمعرفة كوادر وصناع القرار الجدد بالإدارة الأمريكية. يرجع هذا إلى التحول الكبير الذي شهده العالم على المستوى خريطته السياسية نتيجة للقرارات التي اتخذها الرئيس السابق ترامب خلال فترة توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، قرارات في مجملها لم تبنى على أسس تفاوضية بل كانت أحادية الجانب دون مراعاة الحفاظ على التوازنات الإقليمية و الدولية. ينضاف إلى هذا قرارات تم بموجبها الانسحاب من عدة اتفاقيات دولية دون تحمل مسؤولية التبعات الأخلاقية و السياسية لكل هذه التكتيكات الديبلوماسية.
كل هذه التحركات أدخلت دولا كانت تعتبر حليفا رئيسيا لأمريكا في مشاكل و إكراهات ترتب عنها جمود كبير في عدة ملفات، و بالتالي فكانت الرغبة في التخلص من ترامب حلم لعديد من الدول.
نجاح بايدن بدوره لا يمثل مطلبا للعديد من الدول خصوصا و أن الرجل يأتي في وقت يشهد تحولا على مستوى الخارطة السياسية للعالم و تحولات جيوسياسية كبيرة. فبايدن تنتظره ملفات شائكة نحاول أن نجملها على النحو التالي:
صفقة القرن
اتسمت تحركات ترامب خلال مراحل توليه الحكم نحو الاستثمار في القوة و فرض الهيمنة و التوسع، استغل في ذلك ضعف الأنظمة العربية اقتصاديا و حقوقيا مما سمح لإسرائيل للركوب على هذه الثغرة الكبيرة و توجيه ملف التفاوض مع الدول العربية في اتجاه تقديم الحصانات و المقايضات بملفات أمنية و اقتصادية، بالمقابل أن يتم الاستفادة من شرعنة التواجه الإسرائيلي داخل الدول العربية باتفاقيات و معاهدات و تطبيعا للعلاقات. السرعة التي تم بها إنزال فصول صفقة القرن مع الدول العربية حال دون أخذ الوقت الكافي من أجل الحصول على ضمانات.
يختلف نمط تفكير بايدن عن ترامب في هذا الملف لأن بايدن لا يريد تقديم حصانات، خصوصا في بعض الملفات الحقوقية، مما سيفتح باب المقاومة الشرسة للوبي الإسرائيلي من داخل الكونكرس. فلكي يحافظ بادين على توازن في هذا الملف سيحاول أن يبقي على ما تم اكتسابه من طرف إسرائيل من تقدم داخل الدول العربية لكن في المقابل سيدفع باتجاه الضغط على بعض مسؤولي الدول العربية لاستغلالهم أكثر خصوصا في الحروب بالوكالة، و جلب الأموال للخزينة الأمريكية.
الملف التركي
لا يخفى على أي متتبع للشأن الدولي مدى تطور تركيا حيث أصبحت قوة إقليمية تفرض وجودها و قوة اقتصادية باعتبارها داخل النادي الاقتصادي العالمي وقوة عسكرية من خلال وصولها إلى نسب متقدمة في الاكتفاء العسكري و قوة ديبلوماسية في فرض قرارتها في عدة ملفات و سياسية في صناعتها لنظام ديمقراطي داخلي و بالتالي أصبحت دولة قوية بمنطقة الشرق الأوسط مما خلق لأمريكا مناسف جديد و لاعب مهم في الساحة. فقرار إلغاء تركيا من المشهد السياسي ليس قرارا استراتيجيا ناجحا و بالتالي فتقزيمها و تحجيمها سيكون أحد أهداف بايدن، خصوصا و أن أحد أبرز سمات خطابه خلال الحملة الانتخابية فيما يتعلق بالملف التركي لم تكن إيجابية بل و أبدى رغبته في دعم المعارضة التركية.
في المقابل يرى مراد غوزال و هو مسؤول في “اللجنة الوطنية الديمقراطية” (DNC)، وهي أعلى هيئة إدارية في الحزب الديمقراطي، المنتمي إليه بايد. يرى بأنه العلاقات الأمريكية التركية سوف تتحسن و لن تسير على النهج الذي كانت عليه في فترة ترامب باعتبار أن الادارة الديمقراطية أكثر انفتاحا على باقي المؤسسات الداخلية في صناعتها للقرارات بخلاف الادارة الجمهورية التي تميل الى عدم الانفتاح على باقي مكونات المشهد السياسي الأمريكي الداخلي في اتخاد أي قرار خارجي.
الملف الصيني
عرفت العلاقات بين البلدين أزمة في عهد ترامب، تجلى هذا في الحرب التجارية بين البلدين ناهيك عن التصريحات الرسمية الأمريكية الشديدة اللهجة التي وصلت إلى حد المطالبة بتغيير النظام الحاكم في الصين. في المقابل يخشى الكثير من المحللين أن تسخن مياه بحر الصين الجنوبي نتيجة أي توتر بين إدارة بايدن و الصين لأن هذا سينعكس على الإقتصاد العالمي، فقمع المعارضة في الصين و التدخلات الخارجية في بعض الملفات تعتبر شرارات لنشوب أي تصعيد.
بالنسبة لبايدن هذا الملف لا يقل أهمية عن باقي الملفات إذ لم تعد العقوبات تؤثر كثيرا على الصين صاحبة الاقتصاد القوي. و من جهة أخرى فالرئيس الأمريكي الجديد لن يقبل بالصين كرائد اقتصادي بل سوف يسعى لاحتوائها. و يمكن أن نتوقع بأن بايدن لن يخطو نهج ترامب في استخدام القوة الخشنة بل سينهج أسلوب القوة الناعمة من خلال كسب و تحقيق نتائج مهمة على طاولة المفاوضات خصوصا و أن الصين تبدي رغبتها في فتح صفحة جديدة مع الادارة الجديدة و تقديم الدعم في عدة ملفات مهمة من صلب اهتمام ادارة بايدن.
الملف الروسي
لا يمكن لأي مهتم بالشأن الروسي أن يستبشر خيرا بنجاح بايدن على روسيا خصوصا و أنه سبق و عاتب ترامب على عدم لومه لروسيا خلال هجومها الالكتروني على أمريكا، هدف روسيا في التوسع العسكري لن يتم قبوله بسهولة. و بالتالي فإنه ليس من المستغرب أن توجد قناعة من داخل الكرملين الروسي على أنه يستبعد أن يكون هناك أي صفحة جديدة مع أمريكا لأن الخلافات الجذرية تتعارض مع المصالح الأمريكية في عدة ملفات.
نستطيع القول بأن بايدن سيسعى للتحكم في أي تصعيد يحصل مع روسيا خصوصا التسلح الاستراتيجي، وأبرز ما سوف يتسم به نهج الإدارة الجديدة هو ارغام روسيا على تحمل تبعات أخطائها لا فيما يتعلق بتعاملها مع المعارضين بالداخل و لا من خلال التدخل في الشأن الأمريكي من خلال الاختراقات الأمنية التي لا يزال هناك غموض في مدى تدخل روسيا فيه. و قد يتجه بايدن للضغط بقوة على روسيا حتى تقوم الأخيرة بتقديم تنازلات فيما يتعلق بالمشروع النووي الإيراني و التدخل في الشأن السوري.
الملف الإيراني
انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران بعثر الأوراق التفاوضية وأنتج ضبابية في مستقبل هذا الملف الذي ترى فيه إيران مصيرا لها بينما ترى عدة دول من بينها أمريكا أنه يشكل تهديد على المدى البعيد لمصالحها بالشرق الأوسط. فبدون شك، على نهج صديقه باراك أوباما سيعيد بايدن ملف المفاوضات للطاولة، لكن في المقابل سيكون أحد أهم الأهداف لبايدن هو القضاء على مشروع الطائفية.
عودت ملف المفاوضات للطاولة يشوبه عدة إشكالات، أهمها هو كيف يمكن دعم اقتصاد إيران في حين أن أي تعامل اقتصادي معها و تشجيع لأي استثمار داخلي لها سوف يؤدي لا محال للتعامل مع الحرس الثوري الذي يمسك بزمام الاقتصاد الايراني. لكن من المتوقع بأن بايدن لن يسارع إلى المفاوضات إلا بعد مرحلتين، الأولى و هي الضغط على روسيا حتى لا تقدم الدعم الكافي لإيران و الأمر الثاني هو الانتخابات الإيرانية و التي بدورها سوف تكون محدد لشكل التفاهم مع ادارة بايدن خصوصا و ان هناك شعبية للتيار المحافظ الذي له موقف معارض للاتفاق النووي.
الملف الاتحاد الأوروبي
عرفت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب تأزما وجمودا نسبيا، وصلت درجة هذا الجمود إلى خروج ترامب بتصريحات لم تعتد عليها الديبلوماسيات الغربية من أمريكا. خصوصا و أن ترامب لم يهتم كثيرا بتاريخ العلاقات و لا بمدى أهميتها و عمقها بقدر ما كان مهتم فقط بمصلحة بلاده فقط. ناهيك عن انسحابه من اتفاقية المناخ و مواقفه المخالفة للتوجه الأوروبي فيما يتعلق بنقل السفارة إلى القدس لأن هذا سوف يقوض عملية السلام، و غيرها من الخلافات بين الإدارتين. نتج عن هذا الجمود ضعف على مستوى اتخاذ العديد من القرارات لدى دول الإتحاد.
ليس متوقعا بتاتا أن يستمر بايدن على هذا النهج، بل سيسعى لتصحيح ما أفسده ترامب بالشكل الذي يجعل من الاتحاد الأوروبي حليف قوي في الضغط على عدة دول و على رأسها تركيا التي أصبحت الأن دولة قوية.
الخمس سنوات القادمة ليست باليسيرة على العالم، خصوصا و أن حجم المشاكل التي ورثها بايدن من ترامب ليس عادية، و يزيد من ثقلها التغير الكبير الذي حدث على مستوى الخريطة الجيوسياسية، إعادة ترتيب الأوراق بما يحفظ لأمريكا هيبتها سيكون عنوان الحقيبة الديبلوماسية لإدارة بايدن، فإذا قمنا بجمع كل هذه الإكراهات و الملفات مع المشاكل الداخلية نتيجة لأزمة كورونا، فيمكن أن نخلص إلى أن بايدن سيقوم بالإسراع للبحث عن تحالف ينعش اقتصاده الداخلي، و بالتالي فخيار الاتحاد الأوروبي وارد بقوة مع مراعاة أن يكون التحالف لتحجيم تركيا. و يعتبر خيار التعاون مع الصين خيار تكتيكي فقط حتى يتم تقليص تدخلها في الملف النووي الإيراني بشكل أو بأخر. بينما التحالف مع تركيا لن يكون واردا في هتين السنتين بتاتا إلا إذا كان من باب الضغط على روسيا و إيران.
المصادر :
تصريح د. عزمي بشارة : مستقبل القضية الفلسطينية وملف التطبيع مع إسرائيل.
تصريحات بايدن في مقابلة صورتها معه صحيفة نيويورك تايمز
وكالة الأناضول : سياسي أمريكي يتوقع تحسن العلاقات مع تركيا في عهد بايدن (مقابلة)
موقع الجزيرة : هدوء أم مواجهة؟.. إليك ما ينتظر الصين في عهد بايدن
خالد الغرابلي : لقاء صحفي مع قناة فرانس 24
وكالة رويترز : بايدن: على ترامب توجيه اللوم لروسيا في هجوم إلكتروني على أمريكا
المركز العربي للأبحاث و الدراسات : بايدن وإيران: ما مدى تحسن العلاقات مع إيران في حالة فوز الديمقراطيين؟ مصعب الألوسي
وكالة رويترز : الاتحاد الأوروبي يرحب بالرئيس بايدن “صديقا” في البيت الأبيض
تعليقات الزوار ( 0 )