لا أكشف جديدا إذا قلت إن المغرب دخل في ازدواجية غريبة منذ نهاية عهد “الحماية”، بسبب تركة و”تريكة” الماريشال ليوطي وقاعدته الشهيرة : “المغرب النافع والمغرب غير النافع”.
فقد نجح تلاميذ الماريشال في تطوير هذه القاعدة، بحيث اصبح بعد الاستقلال، المغرب النافع منتفعا، والمغرب غير النافع غير منتفع… وهو واقع سيزداد رسوخا، بعد أن تستحوذ المدن المونديالية على الزبدة وثمن الزبدة طيلة السنوات الست المقبلة..
وبركاتك يا مونديال..
لهذا، وبعد طول “إنكار”، اضطرت “الدولة” في النهاية للاعتراف، وإن بشكل خجول جدا، بما أسمته “غياب العدالة المجالية”، وهو العنوان الذي يمكن ترجمته بلغة أبسط، إلى أن الحكومات المتعاقبة راهنت علي سياسة الواجهة، أي تزيين المناطق المحظوظة، وإهمال الباقي، الذي كان مع ذلك يساهم في “خلق الثروة”، عبر الضرائب التي لا ينجو منها أفقر جيب في أقصى دوار أو مدشر، وعبر الفلاحة المعاشية التي كانت كثير من منتوجاتها تنتهي على موائد مغاربة المغرب النافع، بل إن عبقرية الدولة تفتقت على استغلال مظاهر الفقر والهشاشة والتهميش لتكون أولا، توابل “تتبل” الجولات السياحية لـ”البيضان” المتشوقين لاكتشاف نوعية الكائنات البدائية التي تعيش في ظل هذه الظروف المزرية، وثانيا لاستعمالها كعاهات للتسول وطلب “الإحسان الدولي”.
لماذا هذه المقدمة الطللية؟
إنها مجرد توطئة لكثير من الكلام أحاول اختصاره قدر الإمكان. أقضي عادة نصف العطلة السنوية في مسقط رأسي بإحدى قرى الأطلس المتوسط الشرقي -إن جازت هذه التسمية-.
ورغم أن الفقر والتهميش والهشاشة، وكل القاموس الذي تستعمله بلاغات المبادرة والوطنية للتنمية البشرية، صار واقعا لا يرتفع بهذه البلدة ومحيطها القريب والبعيد، إلا أن السؤال الذي يراودني في كل مرة: لماذا لا يتغير الوضع أبدا، رغم كل الأموال التي “تهدر” على التنمية والعدالة المجالية والمشاريع المهيكلة.. إلخ؟
الجواب الوحيد الذي هداني إليه تفكيري المطول في هذه الإشكالية، هو أن “الدولة” لا تضع التنمية ضمن أولوياتها، عكس ما توحي به الوصلات الإعلانية المطولة.
ومما زاد في تأكيد هذه القناعة، أن الأمر لا يتعلق فقط بهذه القرية المعلقة في خصر جبل، بل تستطيع أن تتحرك انطلاقا من هذه القرية في دائرة قطرها أكثر من مائة كلم، في جميع الاتجاهات، ضمن نفوذ الجهة الشرقية، ولن تجد أثرا للتنمية التي يتحدثون عنها في التلفزة.
والأخطر من ذلك كله، غياب أي مؤشر على أن “الدولة” تفكر أصلا في التنمية، باستثناء “المؤشر” الذي يحرم الجياع من “الدعم”.
قد يتساءل البعض لماذا التركيز على “الدولة”، مع أن هناك “متورطين” آخرين، يفترض أن توجه لهم أصابع الاتهام، وعلى رأسهم المجتمع المدني، بل والمواطن نفسه، الذي لا يعمل على تغيير واقعه، ولا حتى على المطالبة بحقه وحصته من “خيرات الوطن”؟
لكن الجواب بسيط..
فالمجتمع المدني مهما بلغت إمكانياته المادية والبشرية، ومهما كان إخلاصه وتفانيه، لا يمكن أن ينوب عن الدولة، ولا أن يقوم بأدوارها.
أما المواطن، فلا يمكن مساءلته عن عجزه وكسله، إلا بعد أن تكون الدولة قد وفرت له ظروف “حرية المبادرة” (الفصل 35 من الدستور).
ففي المثال الذي نحن بصدده، تتوفر القرية موضوع المقال على إمكانيات هائلة في المجال السياحي (السياحة البيئية، والجبلية، والصحراوية، والدينية، والاستغوار…)، لكن الأمر يتطلب مشروعا حقيقيا تضع الدولة قطاره على السكة، ثم بعد ذلك يكون على المواطن تحمل مسؤولية الفشل أو جني ثمار النجاح..
كما هناك أيضا مؤهلات فلاحية، (تربية المواشي والدواجن، المنتوجات البيولوجية، الصناعات الفلاحية المحلية…)..
لكن هذا القطاع يحتاج أيضا إلى تدخل من الدولة يضع الأسس… ثم بعد ذلك لكل حادث حديث..
الخطير أكثر، أنه في الوقت الذي لا تتوقف فيه الحكومة وتلفزتها عن الحديث عن “الدولة الاجتماعية”، لا ترى هذه القرية سوى “الدولة المتوحشة”، التي تحالفت مع الجفاف فقضت على الفلاحة المعاشية، والتي تبذل مجهودا خرافيا لدفع من تبقى من الساكنة للهجرة نحو المدن الفقيرة المجاورة، للمساهمة في توسيع أحزمة البؤس، وتعزيز جيوش العاطلين.. بدل خلق أنشطة مدرة للدخل، هي أصلا في حكم الممكن.
وإن العقل ليحار في تفسير كيف قبلت هذه الدولة “الاجتماعية” مثلا، حرمان نساء، أرامل وعوانس، فوق السبعين، من الدعم البسيط الذي صرف لهن بضعة أشهر، ثم اتضح لـ”الكمبيوتر” العجيب أنهن ارتقين إلى الطبقة الوسطى وأصبحن في غنى عن الخمسمائة درهم، التي قد ينفقها أحد منظري “الدولة الاجتماعية” على فطور واحد في أحد مطاعم الرباط، بينما تعيش بها اسرة كاملة، شهرا كاملا، بفطوراته وغذاءاته وعشاءته وأدويته وأطبائه ونقله وتنقله وفاتورة كهربائه، بما أن الماء والهواء بالمجان.. لحد الآن على الأقل..
ولا يتعلق الأمر بالعوانس والأرامل، بل هناك أسر تتحمل أعباء أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يتلقى أهلهم سنتيما واحدا من “الدولة الاجتماعية” لتغطية ولو نزر يسير من تكاليف الأدوية والتحاليل والتطبيب.. (الفصل 34 من الدستور).
فإلى متى ستستمر هذه “الملهاة”؟ وإلى متى سيتعايش الجياع مع الجوع على أنه قضاء وقدر وليس من صنع البشر؟ وإلى متى ستستمر “الدولة” في حالة الإنكار بمعناها في “علم نفس السلوك الدولتي”؟..
ختاما..
لو كان لي من الأمر شيء..
لأجبرت جميع أعضاء الحكومة الموقرة، وأولهم “أمقرانهم” على قضاء عطلتهم السنوية في قريتي المنسية، مع إلزامهم باستعمال “سريع النقل المزدوج” للوصول إليها عبر منعرجاتها، وليس سياراتهم الفارهة المكيفة، وتوزيعهم عبر القرعة على بيوت البلدة (وانت وزهرك) مع عدم السماح لهم بإحضار شيء سوى قليل من الملابس الخفيفة التي لن تحميهم من لسعات الناموس الميكروسكوبي الخفي، وتجريدهم من هواتفهم الذكية وبطاقاتهم البنكية التي لن يحتاجوها أصلا لأن بضائع السوق الأسبوعي والحوانيت، لا تساعد على ممارسة هواية “الشوبينغ”.. مع عدم السماح لهم بالمرض أصلا، وإلا فخدمات المستوصف القروي أقصى ما يحق لهم من “تغطية صحية”.. أما الطعام فمما ياكل الناس والانعام في البلدة..
وبعد قضاء أسبوعين سنرى ما إذا كانت “الدولة الاجتماعية” حقيقة كما تقول الحكومة وإعلامها ووزراؤها، أم خيالا كما ستكشفه وجوههم ولغة أجسادهم، بعد إقامة قصيرة في المغرب الذي لا يعرفونه..
تعليقات الزوار ( 0 )