لقد تبنت فرنسا مع المهاجرين سياسة خاصة منذ عقود خلت، وهي ما يعرف بسياسة الإدماج، حققت فيها نجاحات في مناطق ومجالات، إلا أنها وقعت في إخفاقات متعددة، جعلت كثيرا من المهاجرين وأبنائهم يعيشون على هامش المجتمع، وأقصد هنا “الهامش” بتجلياته المتعددة: الهامش الاقتصادي، والهامش الاجتماعي، والهامش الثقافي…
هذه الإخفاقات عرفت تراكمات متعددة، إلى أن وصل إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم، وبدل أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في الإخفاقات، وأن تسرع إلى معالجتها معالجة عميقة، اعتمدت سياسة الهروب إلى الأمام، وحملت الإسلام ذاته المسؤولية، وبَنَت على هذه المقدمة نتائج ثقافية وقانونية قد يتم تنزيلها ابتداء من شهر ديسمبر (2020) وفق ما صرح به رئيس الجمهورية.
وبالعودة إلى المعجم السياسي الفرنسي، نجده قد تضمن في الأربعينيات وما بعدها مصطلح “الانفصال” والنزوع الانفصالية، سواء مع الباسك، أو مع جزيرة الكورس “كورسيكا” أو مع غيرهم، لكن منذ فبراير 2020، أثار ماكرون الانتباه باستعمال مصطلح جديد غير معروف في الساحة الفرنسية، وهو مصطلح “الانفصال الإسلامي”، ورددته من بعده الآلة السياسية والإعلامية الفرنسية، وانمحت من المجال التداولي “الانفصالات” الأخرى، ليترسخ ذلك الانفصال الأحادي -بفعل القصف الإعلامي واللغوي- في ذهن المتلقي الفرنسي، ويتهيأ لقبول القوانين التي ستصدر في شهر ديسمبر، وهي القوانين التي يحتمل أن تعدل قانون العلمانية الصادر سنة 1905.
وعلى اعتبار فرضية أن بعض الفئات من المسلمين لم تحقق الاندماج الكامل داخل المجتمع، فإن المسؤولية تتحملها السياسات والبرامج الفرنسية، وليس الإسلام هو السبب في ذلك، ولنا أن نقارن التجربة الفرنسية مع التجربتين الألمانية والإنجليزية في تعاملهما مع المهاجرين، ولنا أن نتساءل عن سبب عدم تشكيهما من “الانفصال”.
ولعل سبب الحديث الفرنسي عن “الانفصال الإسلامي” دون الحديث عن الانفصالات الهوياتية الأخرى، راجع إلى أمرين متكاملين:
أولهما: أن الإسلام دين حي، ودين نشط، له القدرة على التمدد والاستيعاب، ولأتباعه والمنتسبين إليه تمسك بشعائره وقيمه.
ثانيهما: أن فرنسا تبنت في السنوات الأخيرة العلمانية المتطرفة، أو المذهب المتشدد في العلمانية، بخلاف العلمانيات المرنة في بريطانيا أو ألمانيا أو الدول الاسكندنافية …. ومعلوم أن التشدد والتطرف لا يأتي بخير، سواء كان تطرفا دينيا، أو تطرفا علمانيا.
وبما أن فرنسا تبنت “العلمانية المتطرفة” التي تكاد تكون مرادفة لللادينية، أو معاداة الدين، فإنها لا محالة سوف تعاني من “الدين النشط الحي”، لأنه يزعجها ويقلق راحتها، ويذكرها بالصراع المرير والطويل مع الكنيسة، بخلاف الدول الأخرى المجاورة، التي لا تتبنى العلمانية المتطرفة، وتركز على مفاهيم المواطنة أكثر مما تركز على الفوارق الدينية والهوياتية.
لذا، يمكن اعتبار أهم مدخل لحل مشكل “الانفصال” المقحم في المعجم السياسي الفرنسي، هو تهذيب العلمانية الفرنسية، والنزوع نحو الاعتدال، أسوة بالدول الأوربية الأخرى.
وبدل الاقتصار على مشكل “الانفصال” المشار إليه، وهو مشكل محلي فرنسي، استعمل الرئيس إيمانويل ماكرون عبارة تنتقل به من المحلية إلى العالمية، وهي حين تحدث عن الإسلام كدين، وأنه يعرف أزمة في كل مناطق العالم.
وقد فوجئت كما فوجئ غيري بهذا التصريح الغريب، ما جعلني أتساءل عمن خوله الحديث عن دين عالمي، وعن “أزمته” العالمية. هل هو مصلح ديني؟ أم زعيم ديني؟ ولنتخيل لو أن الرئيس الإيراني أو الرئيس التركي قام خطيبا، وتحدث عن الأزمة والانحسار الذي تعانيه الفرنكفونية في العالم، كيف سيكون رد فعل فرنسا ونخبتها؟ مع العلم أن الفرنكفونية لا تقاس بالإسلام ولا تقارن به، للفوارق العظيمة بينهما.
إذا كان المقصود بـ”أزمة” الإسلام على المستوى العالمي، أنه يعاني من أزمة ذاتية تعرقل مساره، وتحدّ من تمدده، فهذا غير صحيح، والإسلام هو الديانة النشيطة الأولى عالميا، وعدد معتنقيه والمنتسبين إليه في اطراد وتكاثر ولله الحمد.
وإذا كان المقصود بـ”أزمة” الإسلام على المستوى العالمي، أن المسلمين موجودون في قلب الحدث في أزمات ونزاعات متعددة عالميا، فهذا نتوقف عنده ونبحث عن أسبابه ومسؤولية المسلمين أو الغرب فيه.
يتفاعل المسلمون في الشرق الأوسط مع أزمات متعددة، منها:
** أزمة فلسطين: وهي الأزمة الأشهر والأرز والأقدم، والمسلمون فيها ضحايا الصهيونية، وضحايا القوى الاستعمارية التي زرعت الكيان الصهيوني الذي طرد وشرد أبناء الأرض الأصلاء. وفرنسا دافعت وما تزال عن الصهيونية رغم أنها حركة عنصرية، ضاربة بقيم الثورة الفرنسية عرض الحائط.
** أزمة لبنان: لا يمكن الحديث عن لبنان وأزماته، دون الحديث عن فرنسا. وزيارة ماكرون الأخيرة بعد انفجار مرفأ بيروت كانت تحمل نكهة المقيم العام الوصي على البلد، وأزمات لبنان لم تتوقف منذ خروج المستعمر الفرنسي الذي أقر الطائفية وباركها، وأعطى الأهمية للطائفة المسيحية ضدا على معطيات الديمغرافيا المحلية.
** أزمة العراق: شكلت الثورة الإسلامية بإيران حدثا مفصليا في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، حيث أعظم ثورة ضد الظلم والعمالة في القرن العشرين، وقامت فرنسا بأمرين متوازيين، أولهما: دعم صدام حسين في حربه طويلة الأمد ضد الجار الإيراني، مع ما رافق ذلك من إشعال نار الطائفية التي لم تكن مستعرة. ثانيهما: الإخلال بوعودها الموثقة مع إيران، حيث تراجعت عن عقود بيع السلاح التي وقعتها مع نظام الشاه، مقابل تزويد العراق بالسلاح لإذكاء أزمة الشرق الأوسط التي لم تنته إلى الآن.
وفي حرب الخليج، قام الغرب بإحداث أكبر أزمة حضارية في العالم المعاصر، وذلك باتخاذ قرار تحطيم العراق دولةً وحضارة، وكانت فرنسا حاضرة بقوة في هذا القرار الشيطاني، وكان المسلمون في العراق وعموم المنطقة ضحية له.
** في أفغانستان: عانى المسلمون من الولايات المتحدة الأمريكية، (بتأييد ومباركة من فرنسا)، التي وجهت قواتها إلى هناك لتحطيم البلد تحطيما لا يبقي ولا يذر، تحت ذرائع واهية، وبعد أن أضاعت على البلد وأهله عقدين من الاستقرار، جلست مع طالبان على طاولة التفاوض.
** في مالي: عانى الشعب المسلم من سيطرة فرنسا أيام الاستعمار، ويعاني الآن من استلاب خيراته من فرنسا ذاتها، وحين يحاول الشعب تغيير وضعه إلى الأحسن، تهب فرنسا بقواتها العسكرية لقمع الثورة.
** كثير من المسلمين يعانون من اتفاقية سايكس بيكو ونتائجها، وهم ضحية تلك الأزمة، وليسوا فاعلين فيها.
وهكذا دواليك، في كل أزمة من نقاط العالم، نجد القوى الاستعمارية الغربية؛ ومعها فرنسا؛ حاضرة بقوة في ممارسة الظلم والبطش، ونجد المسلمين ضحايا.
تعليقات الزوار ( 0 )