تستمر الأزمة الإنسانية المتواصلة في السودان بعد أكثر من عام من الحرب الأهلية، ولا تظهر أي علامات على تراجعها، وفي خضم القتال، تلوح في الأفق تطور كبير ومزعج من شأنه أن يعقد الصراع وينشره خارج حدود السودان: وهو صعود “المرتزقة القوميون”.
وأفاد قرير لموقع “ذا كونفرسيشن” (The Conversation) الأسترالي، أن هذا المصطلح يشير إلى جنود يقومون بالقتال مقابل المال أو لأسباب إثنية، وقد توافدوا إلى السودان من جميع أنحاء منطقة الساحل الأفريقية، وهي المنطقة الشاسعة وشبه القاحلة التي تفصل الصحراء الكبرى شمالاً عن المناطق الاستوائية الأكثر خصوبة جنوباً.
وأوضح التقرير، أن مشاركة المقاتلين العرب غير السودانيين في الحرب الأهلية السودانية لها آثار تتجاوز حدود البلاد وتسلط الضوء على اتجاهات اجتماعية سياسية واقتصادية أوسع عبر القارة الأفريقية.
الهجرة وتغير المناخ وندرة الموارد
واندلع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في أبريل 2023 بعد أن هاجمت قوات الدعم، التي كانت حتى ذلك الحين تحت سيطرة القوات المسلحة، مواقع حكومية في العاصمة الخرطوم، وسرعان ما تحول الصراع إلى قتال دامٍ عبر البلاد بين المجموعتين المتنافستين.
ولا تقتصر المسألة على كونها شأنا محليا، بل أصبحت قضية إقليمية بشكل متزايد، حيث انضم مقاتلون من تشاد وليبيا والنيجر إلى قوات الدعم، مما يشير إلى شبكة من التحالفات تتحدى المفاهيم التقليدية للسيادة والأمن الوطنيين.
ويؤكد هذا التورط عبر الحدود على الترابط بين منطقة الساحل، وأن والمقاتلون المشاركون ليسوا مجرد مرتزقة – إنهم مشاركون في صراع عميق الجذور ومعقد تاريخيا على الموارد والسلطة والذي حرض الجماعات الإثنية في المنطقة ضد بعضها البعض.
ويتأثر تجنيد قوات الدعم السريع لمقاتلين عرب من الخارج – وهي مجموعة نشأت من ميليشيا الجنجويد المسؤولة عن المجازر في جميع أنحاء منطقة دارفور – بعوامل متعددة، بما في ذلك الهجرات التاريخية والضغوط الاقتصادية.
ويلعب إرث فكرة الوحدة العربية وأيديولوجية تفوق العرق العربي، التي روج لها أشخاص مثل الراحل معمر القذافي، دورا في ذلك، حيث تتشابك هذه الأفكار مع قضايا معاصرة مثل تغير المناخ ونقص الموارد لتخلق بيئة متقلبة تكافح فيها هياكل الحكم التقليدية الحفاظ على النظام.
ومنذ الستينيات، كانت هناك نزاعات أهلية في تشاد بين الحركات القبلية وفي السودان بين جماعات متمردة في دارفور والحكومة المركزية في الخرطوم، لكن فهم صعود المرتزقة القوميين في منطقة الساحل يتطلب مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار الأبعاد التاريخية والاجتماعية والاقتصادية.
تعريب السودان
وفي كتابه الإثنوغرافي لعام 1954 “السناسي في برقة”، يلتقط عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد إيفانز-بريتشارد الروح البدوية لأحد أفراد قبيلة أولاد علي في منطقة الساحل الشمالية: “لا نعتبر أي مكان وطننا. إنه أينما وجد العشب والماء”.
واستنادا إلى المصادر ذاتها، فقد وصل النفوذ العربي إلى النيجر والصحراء الغربية بحلول القرن الرابع عشر عبر طرق التجارة، مما أدى إلى التزاوج مع المجتمعات المحلية، وفي شرق تشاد، ترتبط المجتمعات العربية بالسودان، حيث يعود تعريبها إلى أوائل الإسلام.
وباستثناء قبيلة الرزيقات البقارة التي تتمتع بحقوق أراضٍ قديمة في دارفور، فإن الرحل العرب في منطقة الساحل كانوا دائمًا يتحركون منذ العصور ما قبل الاستعمار، حيث إن عوامل مثل النزاعات على الأراضي والتصحر ــ العملية التي تتحول من خلالها الأراضي الخصبة إلى صحراء ــ كانت تاريخياً هي التي دفعت حركة القبائل العربية عبر الحدود الوطنية.
وتتمتع هذه القبائل، التي هاجرت خلال حقبة ما قبل الاستعمار الفرنسي والبريطاني، بعلاقات طويلة الأمد تتجاوز الحدود السياسية الحديثة، مما يزيد من تعقيد السرد التبسيطي للصراع المدني الداخلي.
وأدى الجفاف الشديد الذي حدث في أوائل الثمانينات إلى تفاقم النزاعات حول الموارد.
وعلى سبيل المثال، أجبر انخفاض هطول الأمطار وتدهور الأراضي في دارفور المجموعات العربية على الانتقال جنوبًا، مما أدى إلى تكثيف المنافسة مع المزارعين الأصليين، وساهمت الهجرة الكثيفة من شمال دارفور وتشاد إلى المناطق الزراعية الوسطى في حدوث مجاعة في الفترة 1983-1984 تسببت في وفاة الآلاف.
كما أن حزام البقارة، الذي يمتد من السودان إلى النيجر، يتحدى الحدود الاستعمارية، حيث أدت الهجرة إلى قيام مؤسسات تقليدية بإدارة النزاعات على الأراضي، لكن القوانين الاستعمارية وما بعد الاستعمارية غالبًا ما أدت إلى تفاقم الصراعات من خلال حرمان القبائل البدوية من حقوق الأرض.
وزادت حكومات ما بعد الاستعمار الوطنية من تأجيج هذه الصراعات من خلال تسليح الميليشيات القبلية في مواجهة الجيوش الوطنية الضعيفة.
ديناميات ما بعد الاستعمار
وأضاف التقرير، أن تاريخ العلاقات الإقليمية بين المجموعات القبلية المعتادة على الهجرة عبر الحدود بحثاً عن الموارد قد وفر الخلفية للظروف السائدة في السودان اليوم، حيث يتم جر المرتزقة العرقيين إلى الصراع.
ولكن ليس تدفق الناس وحده هو الذي أدى إلى تعقيد الصراع الحديث في منطقة الساحل. وكذلك الحال بالنسبة لتدفق الأسلحة.
وأدى تدفق البنادق الحديثة إلى دارفور من ليبيا في السبعينيات إلى تأجيج أعمال العنف. وفي الوقت نفسه، أدى الصراع في تشاد من عام 1978 إلى عام 1982 إلى تفكك الحكومة وتدفق الأسلحة المتقدمة.
وفي دارفور، كانت تجارة الأسلحة مع الوسطاء التجاريين، وخاصة الزغاوة، تطغى على الشرطة السودانية، وقامت الحكومة السودانية بتسليح عرب البقارة في منتصف الثمانينيات لمواجهة الجماعة المتمردة الجيش الشعبي لتحرير السودان، مما أدى إلى قيام الميليشيات القبلية بمهاجمة المناطق المجاورة.
وأدى تدفق الأسلحة هذا إلى زعزعة السلام والاستقرار والأعراف التقليدية. وقد نجح مبدأ “الدية” – دفع الدية للضحايا غير المقصودين أو أسرهم – في الحد من العنف، ولكن الأسلحة الحديثة أدت إلى زيادة عمليات القتل، مما جعل دفع الدية أمراً لا يمكن تحمله.
وفقد النذير، وهم زعماء القبائل التقليديون، السيطرة على الشباب المسلح في السودان في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مما أدى إلى تصاعد أعمال العنف.
وفي الآونة الأخيرة، إضافة إلى المخاوف المتزايدة بشأن المنطقة، يوثق تقرير جديد كيف بدأ المقاتلون الجهاديون العاملون في منطقة الساحل بالانتقال إلى الدول الساحلية الأكثر ثراء في غرب إفريقيا مثل نيجيريا وبنين.
بالإضافة إلى ذلك، أدى صعود قوات الدعم السريع وهجماتها على السجون الفيدرالية شديدة الحراسة في الخرطوم إلى مخاوف من انضمام الإرهابيين إلى صفوفها في الحرب.
وتتطلب معالجة الاضطرابات الإقليمية فهماً دقيقاً لهذه الديناميكيات وتنسيق الجهود لتعزيز الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل.
وأشار التقرير الأسترالي، إلى أن صعود المرتزقة العرقيين التابعين لقوات الدعم يهدد بمزيد من زعزعة استقرار المنطقة المضطربة بالفعل، وفي حين أنه من الأهمية بمكان وقف التجنيد العرقي عبر الحدود، فإن هناك حاجة إلى نهج شامل لمعالجة الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة الخطيرة: تغير المناخ، وتدفق الأسلحة، وسوء الإدارة.
تعليقات الزوار ( 0 )