شارك المقال
  • تم النسخ

من أجل إنقاذ أكاديمية المملكة المغربية من التهافت تعقيبا على محاضرة الأستاذة أسماء المرابط

قبل سنوات، أصدر ألان دون كتابه الشهير “نظام التفاهة”، وتحدث فيه عن ظاهرة فشو التفاهة في العالم بأسره، وفي المجالات بأسرها، مما يجعلنا نتحدث عن عولمة التفاهة، وسيادة التفاهة.

والمغرب جزء من العالم، يتأثر بما يتعولم فيه من قيم و”قيم” ومبادئ و”مبادئ”، لذلك لا نستغرب فشو التفاهة في الخطاب السياسي، وفي الفعل السياسي، وفي التدبير اليومي، وفي العمل الصوفي (الكركرية نموذجا)، وفي العمل الإعلامي (مواقع التشهير)، كما أن التفاهة عرفت طريقها إلى الجامعة، فرأينا أطاريح تافهة، وندوات تافهة، وأوراق “علمية” تافهة، إلى غير ذلك من الممارسات التي تدل على انخراط المغرب جنبا إلى جنب مع دول العالم في “نظام التفاهة”.

وبما أن لكل قاعدة استثناء، فإن فشو التفاهة في مفاصل المجتمع المغربي ومؤسساته لم يكن عاما شاملا ماسحا لكل الزوايا، بل عرف استثناءات، أهمها صمودُ الصرح العلمي والأكاديمي المعروف بأكاديمية المملكة المغربية، وهي الأكاديمية التي تحتضن قامات علمية عالمية، ونوقشت في دوراتها بحوث في غاية العمق والرصانة، ويكفي أن نذكر ثلة من الأسماء المغربية التي تشرفت بهم الأكاديمية وتشرفوا بها، مثل الأستاذ عبد الكريم غلاب والأستاذ عبد الهادي بوطالب والأستاذ عباس الجراري والأستاذ إدريس الضحاك والأستاذ محمد الكتاني والأستاذ محمد فاروق النبهان والأستاذ عبد الله كنون والأستاذ عبد الوهاب بنمنصور والأستاذ محمد عزيز الحبابي والأستاذ عمر عزيمان وغيرهم من القامات السامقة في سماء العلم والبحث والمعرفة.

هذه الثلة من الباحثين والعلماء والمفكرين أسهمت في ممانعة هذه الأكاديمية وصمودها تجاه التيار الجارف لظاهرة التفاهة، وبين يدي الآن مجموعة عروض ومداخلات الأستاذ إدريس الضحاك التي ألقاها أمام أعضاء الأكاديمية، وكلها تدل على عمق الطرح ورصانة الفكر وصرامة المنهج.

لعل ممانعة هذه المؤسسة وصمودها بدأ يتراجع في الآونة الأخيرة، فخلفَ من بعد الثلة السابقة خلْفٌ أضاعوا العمق والرصانة واتبعوا السطحية و”موضة الفكر” فسوف يلقون غورا ساحقا ما كان ليرضاه الحسن الثاني باعتباره مؤسس هذه الأكاديمية وصاحب فكرتها.

صُدمت بعد أن اطلعت على العرض الذي قدمته السيدة أسماء المرابط بمناسبة تنصيبها عضوا مقيما بالأكاديمية، وهو العرض الموسوم بـ”الأسرة وأزمة القيم: بين حقوق الإنسان الكونية والمرجعية الدينية”.

تهافت العنوان

حري بهذا العنوان أن يكون تصديرا لمقال صحفي أو لعرض تأطيري في سياق تدافعي أو إيديولوجي، أما أن يكون تحت قبة صرح علمي أكاديمي فلا يكاد يستسيغه باحث، لأن المتتبع للعرض وتفاصيله يجد نفسه أمام ثنائية مؤطرة للأزمة، وهي ثنائية [حقوق الإنسان الكونية]، و[المرجعية الدينية]. كما يجد صاحبة العرض ميالة إلى [حقوق الإنسان الكونية]، وانطلاقا من تبنيها لها لم تألُ جهدا في مواجهة أصحاب [المرجعية الدينية]، كما أن المتتبع يدرك لأول وهلة عدم تعاملها بـ”المساواة” مع طرفي الثنائية رغم مطالبتها بتطبيق مبدأ “المساواة” في الإرث.

إن الثنائية المذكورة عرفت خللا آخر، لأن الباحثة لم تتردد في وصف “حقوق الإنسان” بالكونية، وخلعت وصف [الكونية] عن المرجعية الدينية، مع العلم أن هذه الأخيرة بذلك التوصيف أليق، لأن مقصودها من المرجعية الدينية هو المرجعية الإسلامية، وبما أن الإسلام هو دين الله الخاتم، وبما أنه المهيمن على ما قبله من الشرائع وكتبها، فإن قيمه هي القيم الجامعة لقيمها، لذلك كانت قيمه كونية، وحقوق الإنسان المقررة فيه كونية بالتبع. أما حقوق الإنسان المقررة في المواثيق الدولية فليست كونية، بل هي إفراز ونتاج لصراع قيمي بين الدول المتصارعة في النصف الأول من القرن العشرين، أو هي حقوق إنسان أقرها ثلة من ممثلي الحضارة الغربية الذين سادوا العالم بعد الحرب العالمية الثانية، لذلك هي حقوق منبثقة عن القيم الغربية وإن سميت قيما كونية.

وبما أن الباحثة بصدد إلقاء عرض أكاديمي في صرح أكاديمي، فإنها ملزمة بوضع مقدمات صارمة، تبين من خلالها سبب سلبها المساواة بين طرفي الثنائية، وأثناء ذلك، تكون ملزمة للبرهنة على وصف “حقوق الإنسان” بالكونية، كما ستكون ملزمة بالبرهنة على سبب سلب الكونية عن “المرجعية الدينية”.

هذا الاستهلال البرهاني الذي قد يأخذ منها صفحات، هو الكفيل بأن يعطي مصداقية لعنوان عرضها قبل أن ننظر إلى العرض ذاته في تفاصيله وجزئياته، وهذه الصرامة هي التي تفرض على القارئ احترام الباحثين وإن اختلف معهم، ودوننا الكتابات الصارمة للدكتور طه عبد الرحمن، فإنه يبرهن لكلماته فيصون كتاباته من اللغو.

تناقض المحتوى

إذا تجاوزنا العنوان وما اتسم به من التهافت، فإن محتوى العرض ينقض غزل الباحثة نقضا، إذ سرعان ما عمدت إلى وصف الإسلام وقيمه بالكونية حين قالت: “القرآن كنص مقدس له رؤية عالمية متماسكة، وتعاليم عقائدية وأخلاقية وقانونية مترابطة ارتباطا وثيقا، وإننا لا نستطيع فصل رؤيته الأخلاقية عن بعدها القانوني المعياري كما تفعل القراءة السائدة اليوم”.

وإذا كان القرآن يقدم منظومة عقائدية وأخلاقية وقانونية شاملة ومتكاملة ومترابطة، وإذا كان ذا رؤية عالمية ومتماسكة، فلماذا لا نصف قيمه بالعالمية؟ ولماذا لا نصف أحكامه بالعالمية؟ ولماذا لا نرفع صوتنا أمام العالم بإظهار هذه العالمية؟

عودة إلى العنوان

إذا كان عنوان البحث بهذه الصيغة: “الأسرة وأزمة القيم: بين حقوق الإنسان الكونية والمرجعية الدينية”، فإنه يدل صراحة على التعارض والتناقض والمغايرة بين “حقوق الإنسان الكونية” وبين “المرجعية الدينية”.

وبما أن الباحثة أقرت بعالمية القرآن وأحكامه وقيمه، وبما أن حديثها عن “المرجعية الدينية” منحصر في “المرجعية الإسلامية”، فإنها تتبنى بالضرورة عالمية هذه المرجعية وكونيتها، وبناء على هذا الإلزام، صار عنوان بحثها كالآتي: “الأسرة وأزمة القيم: بين حقوق الإنسان الكونية والمرجعية الدينية الكونية”، وبالتالي، فإننا أمام مرجعيتين متعارضتين كونيتين.

وبما أنها برهنت ودللت على عالمية “المرجعية الدينية” ولم تدلل على عالمية منظومة “حقوق الإنسان”، فإن عنوان بحثها لن يتجاوز الصيغة الآتية: “الأسرة وأزمة القيم: بين حقوق الإنسان والمرجعية الدينية الكونية”.

وإذا كان ميل الباحثة وغيرها غالبا للمنظومة الحقوقية بسبب كونيتها وعالميتها، فإننا بينا بالملموس أن الكونية الحقيقية وصفٌ مناسب للمرجعية الدينية دون سواها، فكانت الأحق بالاتباع والأولى بالانضباط والأجدر بالالتزام.

من اللامساواة إلى المساواة

رغم أن الباحثة أسماء المرابط لم تنضبط لمبدأ المساواة بين طرفي العنوان ومرجعيتيه، إلا أن جوهر عرضها ولب مشروعها هو المطالبة بالمساواة في الإرث، هذه المساواة التي تريد تأصيلها قرآنيا وفلسفيا حين قالت: “مصطلح المساواة رغم أنه غير مذكور في النص القرآني، لكن روحه وترجمته ومعناه الفلسفي حاضر، وأحيانا بشكل واضح، وفق فئات مفاهيمية مساواتية تم تجاهلها أو تهميشها طوعا أو كرها من قبل المفسرين”.

وقبل مناقشة قولها، أسجل ملاحظتين:

أولاهما: الادعاء بأن المفسرين قاطبة همشوا معنىً قرآنيا ومفهوما قرآنيا، وهذا لا يخطر ببال أي باحث له إلمام بجهود المفسرين عبر القرون وما بذلوه من جهد لتقريب المعاني الإلهية للعامة والخاصة، لذلك كان التعبير بـ”التهميش” غير لائق وغير سائغ، ويترفع عنه الباحثون في بحوثهم ودراساتهم ناهيك إن كانت تلك البحوث ستلقى في فضاء أكاديمي ذي صيت عالمي كأكاديمية المملكة المغربية.

ثانيهما: لأول مرة أقرأ أن المفسرين همشوا وتجاهلوا معنىً قرآنيا “طوعا أو كرها”، وإذا تفهمنا الطواعية هنا ــ وهي غير مفهومة ــ، فما معنى الإكراه؟ ومن الذي مارسه عليهم؟ وهل مورس في كل الأعصار وكل الأمصار دون استثناء؟

هذا الإشكال وحده يحتاج إلى دراسة علمية تاريخية موسعة، وهو، وما أشرنا إليه في العنوان، يدلان بوضوح على انتهاج الباحثة منهج “إرسال الكلام على عواهنه”، والمؤسف هو وقوع ذلك في فضاء أكاديمي.

إذا تجاوزنا الملاحظتين أعلاه، فإننا نجد الباحثة تشير إلى الآتي:

1 ــ مصطلح المساواة لم يرد في القرآن.

2 ــ للمساواة روح ومعنى فلسفي حاضر في القرآن.

وأجمل ما في نصها هو الإحالة على المقاربة الفلسفية للمساواة، وهذه مناسبة ندعو من خلالها أكاديمية المملكة إلى تخصيص بعض فعالياتها لمناقشة موضوع المساواة وصلته بالعدل والإنصاف، وقبل ذلك نشير إلى نتف فلسفية ذات الصلة.

يقول الفيلسوف الألماني ماكس شيلر في كتابه الإنسان الحاقد: “إن المساواة بصفتها فكرة عقلانية لم تستطع قط أن تحرك إرادة أو رغبة أو عاطفة، ولكن وراء هذه المساواة المنشودة يتستر الحقد على القيم الإنسانية”.

فهذا الفيلسوف الألماني يربط بين المطالبة بالمساواة ونشدانها وبين الحقد باعتباره صفة بشرية سلبية، لذلك ذهب إلى أن “مذهب المساواة المطلقة الحديثة … يصدر بالتأكيد عن الكراهية والحقد”، وكأنه يشير إلى تغليف القيم السلبية [الحقد] بالفضيلة [المساواة].

من يتبنى هذه المساواة المنشودة؟ وعلى من يرد ماكس شيلر؟

أحيانا كان كلامه نقدا لاذعا للاتجاهات الأخلاقية الداعية إلى المساواة خصوصا مع الأنواريين ومن بعدهم كمونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهما من ملهمي الثورة الفرنسية المتبنية للمساواة.

هذه الثورة الفرنسية وروادها سيصب عليهم فريدريك نيتشه جام غضبه، وسيربط بينهم وبين اليهود ربطا ميكانيكيا، فيقول في كتابه في جينالوجيا الأخلاق: “وفي معنى أكثر حسما وأكثر عمقا من ذي قبل، عادت يهودا مرة أخرى مع الثورة الفرنسية إلى الانتصار على المثل الأعلى القديم، فإذا بالنبالة السياسية الأخيرة التي كانت توجد في أوربا ــ نبالة القرنين السابع عشر والثامن عشر الفرنسيين ــ تنهار تحت غرائز الاضطعان الشعبية”.

وإذا استحضرنا الحط الصادر عن نيتشه تجاه اليهود، وتنقيصه من بعض الأنواريين مثل روسو الذي كان لا يتردد في نعته بالمثالي والسوقي، فإننا سنلمس مواقف صارمة لنيتشه تجاه المرأة والمساواة في آن واحد، حيث يصف كل المطالبين بالمساواة بين الرجال والنساء بأصحاب الرؤوس المسطحة، فيقول في كتابه “ما وراء الخير والشر”: “محررو النسوة يسقطون من العين، أن يغلط المرء بصدد المشكلة الأساسية: الرجل والمرأة، وأن ينكر بصدد ذلك التناحر البعيد الأغوار ووجوب التوتر العدائي أبدا، وأن يخطر له أن يحلم [بالمساواة] في الحقوق والتربية والمتطلبات والواجبات، فإن ذلك علامة فارقة للرأس المسطح، وأيّ مفكر أثبت أنه مسطح في هذا الموضع الخطر ــ مسطحٌ بالفطرة ــ يمكن أن يعدّ مشبوها بعامة، بل أكثر، مكشوفا ومفضوحا، ويغلب على الظن أنه سيكون قصير الباع حيال كل مسائل الحياة الأساسية والحياة المقبلة أيضا، ولن يمكن له أن يسبر أي غور”، وبعد هذا، نجد نيتشه يربط بين الثورة الفرنسية وحقوق المرأة التي تؤدي بها إلى التدهور: “بينما تستولي المرأة بهذه الطريقة على حقوق جديدة وتسعى إلى أن تصير [السيد] وتكتب على أعلامها وخِرَقها [التقدم] للمرأة، يحدث بوضوح مفزع عكس ذلك: المرأة إلى تقهقر. إن نفوذ المرأة في أوربا منذ الثورة الفرنسية يتضاءل بقدر ما تزداد حقوقها ومطالبها، وعلى هذا النحو، فإن تحرر المرأة بقدر ما تطالب به وتشجع عليه النساء أنفسهن، وليس الرؤوس الذكرية المسطحة وحسب، إن هذا التحرر يتجلى عارضا لافتاً من عوارض تزايد الضعف والفتور في أكثر الفطَر أنوثةً، ثمة غباء في هذه الحركة، غباء يكاد يكون ذكوريا”.

لن نسترسل في سرد الفلسفة النيتشوية، لكننا أردنا ــ فقط ــ أن نشير إلى أن الإحالة على الحقل الفلسفي في مسألة المساواة لن تفيد الباحثة أسماء المرابط في الانتصار لأطروحتها، ولعلها أحالت عليها دون أن تكون على دراية بالمناقشات الفلسفية المعقربة حول المساواة، ظنا منها أن الساحة الفلسفية متفقة على طرح المنظمات النسوية المعاصرة، وهذا من النقائص العلمية للعرض التي تضاف إلى سابقاتها.

المساواة في القرآن

ذكرت الباحثة في الاقتباس السابق أن القرآن يحبل بالمفاهيم المساواتية التي همشها المفسرون طوعا أو كرها، ومن أهم ما استدلت به على المفاهيم المساواتية في نظرها هو “المساواة في خلق الإنسان، المرأة والرجل، خُلقا من نفس واحدة”.

هذا الفهم يدل في نظرها على المساواة، لكنها نسيت أو تناست، [أو لنقل: همشت طوعا أو كرها]، أن هذه المساواة مبنية على اللامساواة، لأن الله تعالى كما في القرآن الكريم خلق آدم من طين، ولم يخلق حواء بنفس الطريقة، فإذا تجلت المساواة في خلقهما من نفس واحدة كما ذكرتْ، فمن غير المساواة أن لا يخلقا في الأصل بطريقة واحدة. فبماذا نتمسك، بالمساواة اللاحقة؟ أم باللامساواة السابقة؟

وبعد ذلك، جلبت الباحثة نصوصا من القرآن للتدليل على المفاهيم المساواتية التي [همشها المفسرون طوعا أو كرها]، ومنها قولها: “المساواة كمعيار لتقييم الرجل والمرأة”، ثم: “يقوم النص بتقييم الرجال والنساء أولا وقبل كل شيء على إنسانيتهم، معايير التقييم هذه تكون على أساس أعمالهم الصالحة: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى …”. وللقارئ أن يتساءل: لماذا وضعت نقط الحذف ولم تكمل النص القرآني؟

هذا النص القرآني ورد مرتين، أولاهما: “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن …” و”ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن …”، فالباحثة هنا حذفت “وهو مؤمن” طوعا أو كرها حتى يتسنى لها التدليل على المساواة، في حين أن الآية ليست في سياق المساواة، بل هي خاصة في اللامساواة بين الذكور والإناث المؤمنين والذكور والإناث غير المؤمنين، لذلك قال جل وعز في الآية الثانية: “ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب”، والمفهوم اللامساواتي القرآني الذي همشته الباحثة طوعا أو كرها هو أن الله لا يسوي بين الناس في المصير الأخروي وإن تساووا في العمل الصالح في الدنيا، فالذي عمل صالحا دون أن يكون مؤمنا فلا يدخل الجنة ولا يرزق فيها بغير حساب.

ثم استرسلت بعد نقط الحذف السابقة وقالت: “أساس آخر للتقييم هو النزاهة الأخلاقية، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ولست أدري سبب إيراد هذا المفهوم وهذه الآية، لأنها في المفاضلة وليست في المساواة.

ثم استرسلت مبينة أن المساواة في القرآن تظهر أيضا في التمثل الاجتماعي والسياسي الجماعي “كما ورد في هذه الآية الجميلة جدا التي تم تهميشها أيضا: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”.

ومن المستغرب أن تصف الباحثة آية قرآنية بالجميلة جدا، لأن آيات القرآن كلها جميلة جدا.

كما نستغرب إصرارها في الحديث على [تهميش] الآية من قبل المفسرين والمحافظين.

وإذا تجاوزنا هاتين الإشارتين الموصوفتين باللاعلمية، فإننا نقارب الآية بمقاربة قرآنية، لنبين أن الآية مندرجة في اللامساواة ولا علاقة لها بالمساواة. لأن الله تعالى وتقدس قال: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”، فكانت التسوية بناء على الإيمان، ويقابلها التسوية المؤسسة على الكفر والظلم، قال جل وعز: “والذين كفروا بعضهم أولياء بعض”، وقال سبحانه وتعالى: “وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض”.

فعلى فرض وجود تسوية هنا، فإنها تسوية مبنية على الإيمان، والأخرى تسوية مبنية على الكفر، وليستا تسويتين مبنيتين على الجنس، كما أن هذه الآيات وغيرها هي في المفاصلة في مسألة الولاية، لذلك حذر القرآن ونهى في “الآية الجميلة جدا التي همشتها الباحثة” من ولاية المؤمن للكافر، فقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض”.

تكملة من القرآن

بما أن الباحثة تصر على سرد مفاهيم/أوهام مساواتية من القرآن، فإننا سنعتمد على القرآن لسرد ما يدل على اللامساواة، فنذكر أصل الخلقة، وكيف أن الله خلق آدم بطريقة مخالفة لطريقة خلق حواء، وهذه ذكرناها أعلاه.

المثال الثاني: قوله تعالى وتقدس: “وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم”، وهي آية تكررت في القرآن ثلاث مرار، وهي واضحة جلية في حصر البعثة والرسالة في الرجال دون سواهم، ولم يبعث الله تعالى رسولا أنثى قط.

المثال الثالث: أوجب الله تعالى على المرأة المفارقة لزوجها عدةً باعتبارها حدّا من حدود الله، ولم يفرضها على الرجل المفارق لزوجته.

المثال الثالث: حتى النسوة المفارقات لأزواجهن لم يسوّ الله تعالى بينهن، فاليائس عدتها ثلاثة أشهر، والحائض ثلاثة قروء، والمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، كما أن الله تعالى وتقدس فرّق بين المتماثلاث، ففرض العدة على المرأة التي توفي زوجها قبل الدخول بها، ولم يفرض العدة على المرأة التي طلقها زوجها قبل الدخول بها، رغم تساوي الحالتين معا في “الفراق قبل الدخول”.

المثال الرابع: أوجب الله تعالى النفقة على الرجال “وبما أنفقوا من أموالهم”، “فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن”، ولم يفرض على النساء إنفاقا.

والأمثلة على المفاهيم اللامساواتية في القرآن التي همشتها الباحثة أسماء المرابط طوعا أو كرها أكثر من هذا، وأختم بمثال سادس هو على سَنن سابقيه وعلى منوالهم، وهو قوله تعالى: “للذكر مثل حظ الأنثيين”، و”ولكم نصف ما ترك أزواجكم … ولهن الربع مما تركتم”.

الزواج بين الفقه والقرآن:

في سياق حديثها مع أتباع المرجعية الدينية، قالت الباحثة أسماء المرابط: “بينما في الفقه يتم تعريف الزواج بعبارات مثل: المتعة، التمكين، الطاعة، سلطة الزوج. بينما نجد أن القرآن يصف الزواج بكلمات مغايرة: الميثاق الغليظ، وهو مشروط بمبادئ أخلاقية: المعروف، التشاور، التراضي، الإحسان، الفضل، المودة والرحمة …”.

هكذا تحاول الباحثة أن تحاجج خصومها بالقرآن، وأن تجادلهم بألفاظه وكلماته، وهو نفس المنهج الذي سنعاملها به، لكن قبل ذلك، نشير إلى أن من وصفتهم في عرضها بالمحافظين أو بأنصار المرجعية الدينية لا يعرّفون الزواج بالمصطلحات التي تعمدت انتقاءها، بل إنهم يعرفونه بالمصطلحات القرآنية: الميثاق، العفة، الإحصان، التراضي ….، ولا أدل على ذلك تعريفه الوارد في مدونة الأحوال الشخصية التي أنتجها الفقهاء غداة الاستقلال ونصه: الزواج هو ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجده الدوام غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوج، وفي مدونة الأسرة غيروا العبارة الأخيرة ب: برعاية الزوجين، فأين ما تدعيه هذه الباحثة الأكاديمية؟

وبالعودة إلى مجادلتها لخصومها الافتراضيين، فإننا لاحظنا أنها لا تحاجهم إلا بالقرآن، لذلك حاولت إلزامهم بالمفردات القرآنية كالميثاق الغليظ والمودة والرحمة …، ولو كانت علميةً في طرحها لما همشت طوعا أو كرها ألفاظا قرآنية أخرى، مثل: اهجروهن، اضربوهن، النشوز، النكاح، فمتعوهن … أم أن المنهج الانتقائي صار هو المنهج العلمي الذي ستحتضنه أكاديمية المملكة مستقبلا؟

والغريب أنها تستنكر على خصومها استعمال “الطاعة” ومع ذلك تحاجهم بالقرآن، ناسية أو متناسية قوله تعالى: “فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا”.

القرآن بين التفسير والتعطيل

ذكرت الباحثة المرابط أن الإرث في الإسلام له زاويتان، الأولى: شكلية، والثانية: مقصدية، وذكرت أنه من الناحية الشكلية لا يعدو كونه “رمزيا”، أما مقصده الثابت فهو تحقيق العدالة، وبما أن المقصد ثابت، فإن الرمزية متغيرة، لذلك فإن “المطالبة بهذا الهدف اليوم لا تعني المساس بقدسية القرآن، بل تعني التحرك في الاتجاه المتطور لأخلاقيات العدالة والإنصاف”، والسبب في هذا التمييز في نظرها أن “النصوص المقدسة توفر لنا مساحات مذهلة للتفسير ولسياق كبير لكل عصر”.

ولست أدري كيف نتعامل مع النص المقدس: “للذكر مثل حظ الأنثيين”؟، وإذا أعطاني مساحة مذهلة للتفسير وسويت بين الذكر والأنثى، فهل قمت آنئذ بتفسير النص أو بتعطيله؟ وعلى أي أساس سنعمد إلى التسوية؟ هل اعتمادا على المساواة أو اعتمادا على العدل؟ وهل العدل هو المساواة؟ وهل المساواة مبدأ إنساني يمكن إخضاع النص وفقه؟ أم أن العدل هو المبدأ الإنساني والقيمة الكونية؟ وما معنى العدل؟ وما هي مرجعيته؟

أسئلة وغيرها كثير لا يمكن الاجتراء على النص القرآني إلا بعد الحسم فيها، فهل تجرؤ الباحثة أسماء المرابط أن تنفتح على التراث الفلسفي الإنساني بمعايير علمية غير متحيزة لمقاربة هذه الأسئلة؟

وعموما، فإن أخشى ما أخشاه هو تسرب التفاهة إلى رحاب أكاديمية المملكة، وقد بينا بالملموس بناء على اقتباسات منشورة من هذا العرض أنه غير علمي وغير أكاديمي وغير دقيق، وإذا كان هذا النقاش مألوفا في بلاتوهات وسائل الإعلام وفي العروض التي تعودنا سماعها في مقرات دور الشباب، فإنه لم يسبق لنا أن سمعنا بمثل هذه الضحالة والسطحية في المقاربة تحت قبة أكاديمية المملكة، لذا فإننا نتوجه إلى المسؤولين عن هذه الأكاديمية بمطالب مستعجلة صيانة لهذه المؤسسة وحفاظا على حرمتها وسمعتها:

أولها: سحب هذا العرض غير العلمي وغير الأكاديمي من أرشيف الأكاديمية، وعدم إدراجه ضمن منشوراتها.

ثانيها: الترفع عن تبني العروض ذات الخلفية الإيديولوجية.

ثالثها: إذا كانت أكاديمية المملكة مؤسسة رسمية، فمن المعيب أن تحتضن أبحاثا ودراسات مخالفة لدستور الدولة، وهو الدستور الذي لا يتبنى المساواة المطلقة [حصر منصب الملك وولي العهد في الذكور ــ إلزامية الكوطا في الانتخابات]، وهذه المواد الدستورية هي نفسها تلزم الدولة على التحفظ على بنود بعض الاتفاقيات الدولية.

رابعها: نلتمس برمجة فعاليات أكاديمية حول مفاهيم العدل والمساواة والإنصاف وما حولها من مقاربات فلسفية وشرعية وسياسية وواقعية وإنسانية بعيدا عن الخطابة والإيديولوجيا، وبهذا العمل الأكاديمي ستسهم الأكاديمية في حسم كثير من الاختلافات والمناوشات الفكرية التي تثور هنا وهناك.

*باحث أكاديمي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي