العقل الفارابي !
إنسان بأربع عقول!
شعلة من الفرح والغرور، كانت تتقد بداخل الواحد منّا، عندما يحاط بالمدح، ويستشعر تفرد شخصه عن دونه. ولو تذكرنا طفولتنا بحذق لتوقفنا على العديد من هذه المشاعر تتردد على أفواه والدينا عندما يصفوننا بالذكاء، أو النشاط، أو العقل!
ربما كانت تشدنا آنذاك صفات الحصافة والفطنة، لأن كل ممنوع مرغوب، ومعلوم كم تعني جملة “فلان عاقل”، لدى الطفل، فهي عبارة موجودة في العديد من اللهجات، يتداولها العوام غالباً للإشارة لحسن سلوك الفرد، أو رزانة شخصيته، أو تميزه في الابتعاد عن الطائش المتهور من الفعل أو القول، وإذا وسعنا دائرة العقل قليلاً، وأدخلنا حيزها الكبير والصغير، فهل يشترك كل عاقل بحجم إمكاناته الذهنية، وهل يتشابه العقل ويختلف استخدامه لدى البشر؟
وقد انطلق غالبية الفلاسفة والمفكرين والعلماء من أرضية منهجية أقرب لإيمانهم، في رحلة تفسير العقل وماهيته، وجاء في المعجم الفلسفي باعتباره مصطلح ذو ثلاثة أوجه دلالية، فإما يكون دالاً على الوقار، فهو صفة ظاهرة في سلوك الإنسان عامةً، وكلامه، واختياراته، وإما أن يدل العقل على المكتسب من المعاني والأحكام الكلية، فيترجم من خلال اختياراته للأغراض والمصالح، وإما أن يكون العقل دالاً على ما يوافق الفطرة فيحسن الإنسان التمييز بين الغث والسمين.
وفي سبيل الحصول على صورة مكتملة تفسر ماهية العقل، وبخاصة في الفلسفة الإسلامية، لا بد من الإمعان في المنطق الفارابي الذي سخر جهداً وفيراً في هذا المجال، سعياً منه في التأكيد على ضرورة السير بمنطقية في طريقة التفكير، للوصول لفكرة سليمة يمكن الأخذ بها من خلال “قوة الذهن”، التي تعين على إدراك الصواب وتمييزه من غيره، وربما هذا ما نجد ترجمته في العديد من كتب التنمية البشرية، التي تعين الإنسان على الاقتراب أكثر فأكثر من الفكرة الراشدة، والتسلسل المنطقي، والاسترشاد بإشارات ذهنية ربما لا تكون واضحة للجميع.
نظرية العقل عند الفارابي
ويبني الفارابي نظريته للعقل على أربع مستويات رئيسة، أولها العقل بالقوة (العقل الهيولاني)؛ ويدل على التهيؤ والاستعداد العقلي لقبول كل ما يوافق المعقول والمنطقي، من خلال صور الأشياء وماهيتها الموجودة في الطبيعة، وبالتالي فإن الطبيعة تتحد بقوة وجودها مع العقل، وأما النوع الثاني فهو ما يسمى ب”العقل بالفعل”؛ الذي يعبر عن انعكاس صورته في النوع الأول، مما يعني هيئته مترجمة كفعل معاش، وبالتالي دل على ارتقاء العقل الإنساني متجهاً نحو إدراك شيء وليس التوقف على التعرف عليه وحسب.
وفي التدرج المنطقي، وإمعان العقل الإنساني بحذق، يأتي نوع آخر من العقل، هو “العقل المستفاد”، إذ يبني على استيعابه للمعقول، وصيرورته الوظيفية لمستوى الإدراك الذي يتدرج بتناغم ومنطقية. مما يعني أن تسلسل هذه الأنواع هو تعبير باضطراد تصاعدي عن تكوين “عملية الإدراك”، التي تسمو وتتصاعد إزاء المحسوسات من خلال إطلاق عنان الحس والخيال، فكلما زاد إدراك الإنسان ابتعد عن ملاحظة المادة، واقترب لما وراء المحسوس .
لايزال الإنسان يعتبر مصدراً للدهشة الذي يسببها لنفسه، من خلال التفكر والتدبر في هذه الكينونة المغمورة، حتى وصفها الصحابي الجليل علي بن أبي طالب بقوله: (وتحسب أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر)!، إذ يمكن أن تعبر كل الشروحات والايضاحات السابقة عن مستويات تدرج التفكير الإنساني وحسب، أما ما يتممها فيبدو أنه النوع الرابع من العقل، الذي ينتقل بالإنسان من طور الاستعداد للمعرفة، إلى الإدراك الفعلي، أو “العقل الفعال”، الذي يتربع على قمة الهرم في نظرية العقل الفارابية، مستغنياً عن الجمود في المادة المجردة، ومرتقياً عن دونه من المستويات. ومع هذا كله يبقى العقل مدار التفكير والتصوير فلا توضع لبنة “العقل الفعال” في القمة، إلا ويعلوها شيء آخر، إذ يبقى كل هذا التطور والتسلسل في حدود “سلم الموجودات”، الذي يستظل بالمرتبة الأولى، والعليا التي لا تكون إلا للخالق سبحانه.
غاية المعرفة
إن العقول الأربع (العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال)، تبقى حجةً على ذات الإنسان فيما يستطيع أن يسمو به ويتطور، وفيما يمكنه يضيف عليه إضافةً نوعية، وفي الآن ذاته، يمثل هذا التدرج كاملاً شاهداً على الإنسان بمدى ضعفه وحاجته المتعطشة على الدوام للارتواء من أعلى مراتب المعرفة، وأوسعها علماً ودرايةً وإحاطة، من خلال السمو في العلاقة مع الخالق عز وجل، ونزع تراتبية التطور والحداثة المعرفية المنحصرة في سياق الولادة الفلسفية، والاستحداث المنهجي، والثبات وراء “هلامية” المادة منزوعة الروح. وبالتالي يبدو الانعتاق من تراكمات المعارف، وإملاءات الطبيعة، هو السبيل الحكيم لفهم غاية المعرفة، إذ يبدو المنهج الموروث عن العلماء والأنبياء، وحسن أولئك قدوةً ودليلا.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
تعليقات الزوار ( 0 )