Share
  • Link copied

يوميات في الحجر الصحي (2)

قضيت كل يوم جمعة من حياتي بشيئين، قد يغيب أحدهما دون الآخر: الكسكس وصدى صوت الخطيب يتردد من التلفاز.

من بين أبرز الأمور التي أدركتها منذ سنوات حياتي الأولى أن يوم الجمعة مميز جدا عن باقي أيام الأسبوع، كانت أمي تستيقظ فيه أبكر من المعتاد، تستعيض عن طهي الخبز بشرائه، ثم تنظف أرجاء البيت وتقوم بتعطيره، وبعد هذا كله تنبري لإعداد الكسكس على صوت تلاوة القرآن.

أتذكر أنني طيلة فترة دراستي الابتدائية كنت أدرس يوم الجمعة صباحا ومساء، فحرمني هذا من الاستمتاع بصحبة أمي في زياراتها المنتظمة لأقاربنا بعد الزوال، وفي كل مرة كنت أتذمر وأتوسل لها حتى تؤجل موعد الزيارة إلى يوم السبت أو الأحد كانت تجيب: لابد من صلة الرحم يوم الجمعة. وفي الأسابيع التي لا تصل فيها أمي الأحياء في بيوتهم، تذهب لزيارة الأموات في القبور، تتذكرهم، تترحم عليهم، تجلس لتنصت إلى ماتيسر من القرآن، ثم تغادر بكل خشوع.

كنت أعود من المدرسة عند الظهر، ككل يوم مشيا على الأقدام رفقة صديقاتي يجمعنا الطريق المشترك؛ ونحن نطويه كان عديدنا يتناقص الواحدة بعد الأخرى حتى لا يبقى غيري أنا وصديقتي. أجد الباب مواربا، تستقبلني نكهة الكسكس عند أقصى الرواق وقد سبقها إلى سمعي صوت خطيب الجمعة عبر التلفاز بصوته الرخيم، تزكي أمي كلامه بهمهمات أو بحركات من رأسها وهي مكبة على المرحلة الأخيرة من إعداد الغذاء. أردد بعض عباراته المسكوكة التي أحفظها – وأنا طفلة آنذاك- عن ظهر قلب من كثرة سماعي لها ” إذا قلت لصاحبك أنصت والأمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت، وفي حديث آخر ومن لغا فلا جمعة له” .

كانت أمي حريصة على التآمنا على مائدة الغذاء عقب انتهاء صلاة الجمعة، فنراقب أنا وأختي- بينما تصلي أمي- الشارع عبر النافذة مترقبتين بنفاد صبر عودة جموع المصلين من المسجد، وحالما نلمحهم وهم يهرولون فرادى وجماعات عائدين إلى منازلهم بلباسهم الأبيض المتشابه، يضعون سجادات الصلاة على أكتافهم أو رؤوسهم ، بعضهم ممسك بقوارير اللبن، أو بأكياس الفاكهة التي تباع أمام المساجد، نركض إلى أمي لتقدم لنا الغداء.

بعد سنوات طويلة، غادرت منزل والدي ومعي تعلق شديد بتفاصيل يوم الجمعة بطقوسه التي لم تبرح مخيلتي ولم تغادر وجداني، فصرت لا أغسل الملابس يوم الجمعة إطلاقا حفاظا على وصاة أمي، ولا نتناول الغداء إلا بعد صلاة الظهر، أستمع لخطبة الجمعة عبر التلفاز وأردد مع الخطيب العبارات نفسها، أزور أقاربي أو صديقاتي… أحرص على ألا يمر يوم الجمعة كباقي أيام الأسبوع.

اليوم، وفي ظل الحجر الصحي الذي فرضته علينا جائحة فيروس كورونا المستجد، انسلت تفاصيل يوم الجمعة من بين يدي وغابت، غيابا خلف فراغا أربك كل ماانتظم في ذاكرتي.

فبعد فطور متأخر توجهت إلى المطبخ لأعد الوجبة المعتادة ليوم الجمعة “الكسكس” الذي استغنيت فيه عن بضع مكونات كنا نقتنيها طازجة صبيحة يوم الجمعة من السوق الذي يقع على بعد شارعين من المنزل، لكنه اليوم صار فارغا تماما إلا من قطط اعتادت أن تتسكع في المكان.

بعدما فراغي من إعداد الكسكس، قمت بتشغيل جهاز التلفاز أبحث عن صلاة الجمعة ناسية تماما أن الصلاة لاترفع في المساجد في ظل الحجر الصحي، استغربت من بث فيلم أو مسلسل في هذا الوقت، تفحصت ساعتي لأتأكد من التوقيت، قبل أن أتنبه إلى أن ساعتي مضبوطة وأن زمان كورونا لا يعرف لصلاة الجمعة ميعادا.

ولأتجاوز سحابة الحزن التي كادت تمطر علي دخلت منصة ” يوتيوب” وشغلت إحدى الخطب المسجلة بصوت الخطيب نفسه الذي ألفت أذناي الإصغاء إليه وكررت معه ، وأنا أقدم الغذاء، :” اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد” . نكاية في كورونا .

ولأن الله موجود في كل مكان “فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم”.

ولأن واقعنا هو مانصنعه ومانؤمن به، فإن فترة الحجر الصحي قد تكون نعمة كبيرة على البعض في الوقت الذي ستكون نقمة على البعض الآخر.

روي عن الرسول أنه قال: “نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ”.

n.bouagad1@gmail.com

Share
  • Link copied
المقال التالي