يعرف المغرب ظاهرتين اثنتين، ظاهرة انتشار السلفية التسطيحية، ويمثلها بالأساس دعاة ينشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل حمزة الخالدي وحسن الكتاني وعمر الحدوشي ومحمد الفزازي وعموم نشطاء موقع هوية بريس، ولعل أهم ممثل لهذا التيار هو الداعية والشيخ ياسين العمري، وهو أستاذ تقنيات التواصل، وخريج شعبة الأدب الفرنسي، ولا يجد أي حرج في اقتحام مباحث فقهية عويصة كالبدعة والجهاد وغيرهما. والظاهرة الثانية هي ظاهرة الإلحاد والربوبية التسطيحية، والمتمثلة في بعض النشطاء الذين يستثمرون العلب الليلية في الكلوب هاوس أو تقنيات اللايف في اليوتيوب، ويعد أحمد عصيد ورشيد أيلال وهشام نوستيك أهم ممثلي هذا التيار، ومن هذا التيار من ادعى النبوة.
والقاسم المشترك بين هاتين الظاهرتين هو لاعلمية أصحابهما والتسطيح في مقاربة المواضيع الحساسة وصناعة البوز، مع عدم إغفال الجانب التجاري عند الطرفين من خلال السعي نحو الرفع من عدد المشاهدات وما يتبع ذلك من ضخ الأموال في الأرصدة الخاصة.
قبل أيام، وقع تشابك بين بعض ممثلي هاتين الظاهرتين، حيث أقدم أحد ممثلي الظاهرة الثانية على الاتصال بياسين العمري من أصحاب الظاهرة الأولى، وتقمص دور المستفتي، وطرح عليه سؤال دقيقا وموجها، وهو: ما هو الدليل على تحقيق التواصل بين النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى وتقدس.
ومن المعلوم أن الجواب يجب أن يرتبط بالسؤال، لكن جواب ياسين العمري كان يتراقص يمنة ويسرة ولم يقارب السؤال من أي زاوية، مع محاصرة السائل له بتكرار السؤال مرات وتذكيره به وتنبيهه إلى أنه لا يجيب عن السؤال.
بعد ذلك، طارت المكالمة بين ممثلي الظاهرتين كل مطار، واقتنصها على وجه السرعة صناع المحتوى من أصحاب الظاهرة الثانية لتشويه سمعة ياسين العمري، وأخضعوا المكالمة للتعليق على أجوبة الرجل، ولم يجد أنصار الظاهرة الأولى مسلكا لنصرة أخيهم.
هنا، يجب أن نتوقف عند هذه الوضعية لمقاربتها من زوايا متعددة، منها:
أولا: أهم درس يجب أن يستفيده التيار السلفي الوهابي هو ضرورة التصالح مع علم الكلام، لأن الأثريين لا يتحدثون مع الآخر غالبا، وإنما يتحدثون مع أنفسهم، فتجدهم يقنعون أنفسهم بما هم مقتنعون به أصلا، فحين حديثهم عن الإرث وتعدد الزوجات والعقيدة والتوسل والبدعة، لا يتجاوزون مكرور الكلام المأثور عن القدماء دون إضافة أو إبداع أو محاولة اقتحام أرضية الطرف الآخر. وكثيرا ما كرروا أنهم يحاربون الإلحاد ويتوسلون لذلك بتراث ابن تيمية وأنه أنجع وأفيد من الكلام الأشعري، وهاهم يرسبون في امتحان بسيط بطلُه أحد رموز الميديا عندهم، ولو كانوا منفتحين على علم الكلام وأدبياته الجدلية والتراث الضخم الذي خلفه الغزالي والرازي وغيرهما لما صاروا رموز التسطيح والتسذيج.
ثانيا: بتتبعي لصناع المحتوى من أصحاب الظاهرة الثانية، فإنهم غالبا ما ينأون بأنفسهم عن العلمية، ويميلون إلى مناقشة القضايا المعقربة بالسخرية والاستهزاء والتسطيح أيضا، وهذا من معايبهم، وكثيرا ما قرأنا لملاحدة، لكنهم أرقى بكثير من هؤلاء، وهؤلاء الذين يميلون إلى السفسطة هم في حاجة إلى الرقي في المناقشة والتشبث بالعلمية والابتعاد عن السخرية والشعبوية.
ثالثا: بعد متابعتي لمناقشات هؤلاء لشريط ياسين العمري، تبين لي – بناء على ما رددوه من تحكك وتمحل – أنهم يبحثون عن دليل واحد ووحيد، وهو أن يروا الله تعالى يتكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ودون هذا فهو غير مقبول عندهم. والغيبيات والنبويات لا يناقشها العقلاء بهذا المنطق الطفولي.
رابعا: من غير السائغ أن يتشبث ياسين العماري ومناصروه بقضية إخبار القرآن الكريم أو النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات التي وقعت بعد البعثة بسنوات أو بقرون، لأن مشركي مكة كانوا في حاجة إلى من يقنعهم في تلك اللحظة وليس بأدلة يثبت صدقها بعد وفاتهم وفوات أعصارهم.
خامسا: من المقرر أن كل نبي بعث إلى قومه خاصة، ولذلك كانت المعجزات دليلا على صدق نبوتهم، وكانت معجزاتهم مادية بالأساس، يلمسها ويحسها ويراها أبناء قومهم وعشيرتهم، وهم الفئة المستهدفة من بعثتهم، أما النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن مبعوثا إلى قومه فحسب، لذا كانت معجزته الأعظم الدالة على صدق نبوته هي معجزة القرآن، لأن إعجازه ليس موجها إلى قومه فقط، بل خالد ودائم بحمد الله.
سادسا: قبل الرجوع إلى القرآن الكريم باعتباره دليل نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هناك دليل آخر على ذلك، وهو شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ذاتها، وهو الشخص الذي عاش في قومه أربعين سنة قبل النبوة، وخبروا صدقه في كل صغيرة وكبيرة، حتى صار الصدق والأمانة عَلَما عليه، لا يكاد يُعرف إلا بهما. ومن حكمة الله تعالى أنه لم يرسله في سن مبكرة، لأن سن العشرين أو أكثر ربما لا تفي بمعرفة الشخص كسن الأربعين، والتقية التي قد يمارسها الشخص سنوات معينة سرعان ما تنكشف مع مرور الزمن، أو قد تنكشف بذكاء المحيطين به، ومن العسير أن يمارس المرء التقية أربعين سنة وأن يخدع نخبة قومه وأذكياءهم، لذا كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم طَبْعا من غير تكلف.
سابعا: قد يرد البعض دليل صدق الرسول بدعوى أن صدق المخبر لا يدل بالضرورة على صدق الخبر، وقد يصدر من الصادق ما ليس بصدق، وهنا نقر بهذا من الناحية النظرية، لكننا بالعودة إلى متن القرآن نفسه، فإنه يحبل بالأدلة على صدق الرسول لا العكس. إضافة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أننا نؤمن بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة استصحابا لصدقه في الحياة المشهود له به من قبل أبناء قومه وعشيرته، ومن قال بعكس ذلك فهو المطالب بإثبات دعواه، أما التشكيك لمجرد التشكيك فليس من شيم العقلاء.
ثامنا: بعد النبوة، تعاملت قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم بطرائق متعددة، منها الإغراء تلو الإغراء، وكانت الإغراءات مما يميل إليها طبع الإنسان، مثل النساء والمال والجاه، والكاذب في دعوته يستسلم لهذه الإغراءات التي يسيل لها اللعاب، ولا يصمد أمامها ولا يمانع في نيلها.
تاسعا: بالعودة إلى القرآن الكريم، نجد بين ثناياه ما يدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
أ – الإعجاز والتحدي، حيث تحدى الله تعالى منكري إلهية القرآن أن يأتوا بمثله، وعجزوا وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، وبعد ذلك تحداهم بأن يأتوا بعشر سور منه فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل سورة واحدة منه، فكان العجز نصيبهم، وهنا نقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم عربي مثلهم، فإن كان القرآن من إنشائه فساعتئذ سيسهل عليهم أن يأتوا بمثله أو أفضل منه، ولما لم يستطيعوا، فهذا وحده دال على أنه من عند الله تعالى، ودليل على صدق رسالة ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على تحقيق التواصل بين الله تعالى ونبيه [وهذا هو موضوع السؤال].
ب – لم يستسغ كثير من القرشيين هذا الوافد الجديد على ساحتهم، لذا حاولوا التشكيك فيه من خلال التشكيك في المبلّغ له وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستطيعوا أن يتهموه بالكذب، ولجأوا إلى كلام هو إلى الهذيان أقرب، فقالوا شاعر وكاهن، فرد عليهم كبير عقلائهم وأخبرهم بأنه الأعرف بالشعر وقريضه وبالسحر ومسالكه، والقرآن أبعد عنهما معا. ولما شهد شاهد منهم بهذا، لجأوا إلى الهذيان الصرف، وقالوا بأنه مجنون، وهذا كلام لا يصدقه قائلوه قبل غيرهم.
ج – تضمن القرآن الكريم كلاما قاسيا عن أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته أم جميل، وهذا دليل على أن القرآن من عند الله تعالى من وجهين:
الوجه الأول: لو كان القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم بسوء في عمه، خصوصا أنه يعيش في بيئة تغلّب منطق العائلة والعشيرة على الجوانب الأخرى، وبالخضوع إلى منطق الذكاء البراغماتي، فإن مصلحة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي عدم الإساءة إلى عمه، لأن ذلك سيكون سببا في أن ينفض عنه باقي رموز العائلة الهاشمية وأبنائها، وهذا ما لم يراعه القرآن، فتأكدت صدقية النبوة وصدقية التواصل بين الله تعالى ونبيه من خلال الوحي [وهذا موضوع السؤال الموجه إلى ياسين العمري].
الوجه الثاني: لو كان القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم بسوء في أم جميل زوجة أبي لهب، لأنها بنت عائلة وجيهة في قريش، وهي البيت الأموي الشهير، وهي أخت أبي سفيان والد معاوية، وإعلان العداوة لواحدة من وجهاء هذا البيت قد تكون له آثار سلبية، أدناها رفض رموز هذا المكون القرشي للدعوة ولصاحبها، وبمنطق الربح والخسارة، لو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو منشئ القرآن ومبدعه لما أعلن المواجهة مع أمثال هؤلاء الوجهاء والسادة.
أما وقد أعلن ذلك مع أقرب المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم [أبو لهب] ومع سيدة من رموز الوجاهة [أم جميل/المكون الأموي] فإن هذا التسامي على منطق الربح والخسارة وعدم الخضوع للبراغماتية دليل على أن القرآن وحي خالص، ودليل على التواصل بين الله تعالى ونبيه العظيم [وهذا هو موضوع السؤال الموجه إلى ياسين العمري].
وهناك أدلة أخرى من القرآن نفسه تدل على صدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقتضي المقام التوسع في جلبها وإيرادها الآن.
وفي الختام، ندعو ممثلي الظاهرتين إلى الابتعاد عن السطحية وأن يكفوا عن نشر السذاجة في المجتمع، كما نشير إلى أن تصرفات وتصريحات بعض السلفيين تدعو بالحال والمقال إلى نشر الإلحاد والنفور من الدين وتنجح في ذلك أكثر من نجاح الملاحدة أنفسهم، بل إن بعض ممثلي الإلحاد السطحي ليسوا إلا نتاجا للفكر الديني المشوه والسطحي الذي يسعى عدد من الشيوخ إلى نشره في المجتمع دون أدنى تلكؤ من خلال منابر الجمعة أو المنابر الجديدة (وسائل التواصل الاجتماعي)، فالمرجو من الشيوخ والدعاة أن يفرملوا جهودهم في نشر الإلحاد.
تعليقات الزوار ( 0 )