الحاج مصطفى حصري، يا رفيق والدنا، يا صديق والدنا، ويا خليل والدنا، حين قل الأخلاء، فاجعتنا فيك نكأت فينا جرح فاجعة الوالد، يا عمنا حين ارتحل عنا الأعمام، وخالنا حين فقدنا الأخوال، ويا من كنت في شعورنا ووعينا بمثابة الوالد، هكذا افترقنا دون وداع، ونحن نمني النفس برؤيتك وعودتك إلينا من المستشفى، معافى قد غالبت الفيروس وطاردته من صدرك، ونحن نستحث الساعات ونجاري الزمن أن نظفر بمكالمة معك، نتحين فقط وقتا يلاءم راحتك واستعدادك، ونحن نريد ونتشوق ونتحرق، ولكن الله عز وجل أراد وقدر وقضى، وإرادة الله سبحانه أسبق وأمضى وأنفذ، ولا راد لقضاء الله، ونحن مؤمنون ومستسلمون لقضاء الله.
فاجعتنا فيك حرى وأليمة، أن نبكيك فيها ما طاب لمآقينا أن تسيل دمعنا الهاتن، وما امتلأت صدورنا بأنفاسها وزفراتها وأنينها ونشيجها ونحيبها، ونرثيك ما رثي الثكالى فقداءهم وأحبابهم.
لازال لكلماتك الأخيرة جرس طيب لطيف خالد في مسامعي، وقد كنت قريبا تحادثني هاتفيا وأنا على فراش المرض، في المصحة، ترفع من معنوياتي وتبشرني بالشفاء والتطهر، وتحدثني معزيا ومواسيا في وفاة أمي حماتي الحاجة فاطنة الجزولي وشقيقها الحاج أحمد الجزولي، ورغبت في أن أرد لك التحية بأحسن منها وأرفع معنوياتك وأنت على فراش نفس المرض، ولكن حسم القضاء الإلهي باستشهادك.
للفراق لوعته وأناته، ولكننا نثق في وعد الله لك، ونصدق فيك بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك وأمثالك من الشهداء، وأنعم وأكرم بها منزلة الشهداء عند الله.
وقد أبليت بلاء حسنا في الخير والمعروف والحسنى مع الناس كل الناس، يشهد لك بها القريب والبعيد، وقد أفنيت عمرك متفانيا في خدمة الوطن، بالصدق والإخلاص والنزاهة والمثابرة، فتخرج على يديك أجيال المتعلمين منذ الستينيات، وأجيال رجال التعليم الذين كنت لهم مفتشا ومرشدا مكونا.
أما الصهارة معك، ويا لنعيم الصهارة معك، فقد كانت جنة الله في الأرض، وما رأيت أرقى ولا أزهى ولا أندى ولا أكرم ولا أهنأ من هذه الصهارة التي كنت فيها، وأخونا ابنك خالد الرجل الفاضل الفضيل، وحرمك الحاجة أم خالد، عجل الله بشفاءها، المرأة الطيبة الخلوقة الحنون، وكل أبناءك وبناتك الذين واللائي ربيتهم أحسن وأرقى وأطهر تربية، لقد كنت وأسرتك لابنتنا شقيقتي جليلة ظلالا ظليلة وارفة، ونسائم عليلة رخية، وحضنا دافئا ساكنا وادعا، وغدقا رغيدا، ونهرا عذبا رقراقا سلسبيلا، لا بل إننا جميعا عشنا وذقنا معكم، هذه النعومة والعذوبة والرقة في الحياة حياة النسب الصهارة.
وما أشهد به للتاريخ وعلى رؤوس الأشهاد، أن ابنك خالد الذي خرجته بإرشادك من خيرة الرجال، تعرف علي قبل أن يعرف شقيقتي للاقتران بها، تعرف علي مباشرة بعد الإفراج عني من الاعتقال السياسي، ولم يكن يعرف لا أسرتي ولا شقيقتي، فقط اتخذ من هذا النضال والاعتقال السياسي الإسلامي، معيارا يستدل به على واقع الأسرة وحقيقتها، ولا زلت أذكر باستغراب كيف أنه استغنى وضرب صفحا على هذا التعرف رغم إلحاحنا على وجوبه وضرورته، مستعجلا الزواج، واكتفى بهذا العنوان الوحيد، معتبرا أن ذلك يلخص له كل شيء، ويخلصه من عناء الاستقصاء.
ولن ينمحي من ذاكرتي ووجداني أبدا ، كيف ولما جئت خاطبا وأسرتك، وقد قبلت بواقع الأسرة الممتحنة، وما أدراك ما هو قبول هذا الواقع في زمن الجمر، واستقبلكم الوالد بحفاوة واحتراس، فلم يكن يعرفكم، وكانت ليلة تاريخية، اكتشف الوالد رحمه الله، فيك المثقف المتبصر والعالم النحرير، واكتشفت رحمك الله في الوالد المثقف الناضج المستنير المحيط بمعارف الدين وواقع العصر، فقد كانت ليلة مناظرة علمية، خاض الوالد بك فيها مناقشات وجولات في الدين والتاريخ والسياسة والأدب، وخضت معه هذه الجولات بإمتاع وإبهار واستفاضة ومهارة ، وكنا نحن شهودا منصتين لبحار العلم والوعي تتماوج، حتى سعد الوالد وارتضى واطمأن إلى أنه إزاء بيت عريق نبيل قدير، فأصبح هو الخاطب لا المخطوب عنده.
فلله درك كيف كنت رجل علم وحلم وتؤدة، ورجل عقل وفضل ومروءة وطيبة أرومة.
رجلا فذا شامخا مثلك فقدناه كيف لا نبكيه، ورجلا فاضلا صادقا غاليا في قدرك كيف لا نألم ونرثيه.
بيض الله وجهك، ونور الله قبرك وثبتك الله الليلة والغداة عند السؤال وتقبلك الله في الشهداء.
شهر الفواجع أنت يا نونبر، غدا سنشيع حبيبا لنا كما شيعنا قبله أحبة لنا الحاج أحمد الجزولي والحاجة فاطنة الجزولي والمرحومة فاطنة بهاج.
يا لنوائب دهر طافت على آل بوروضا وآل لعماري وآل بهاج وآل حصري، جعل الله لها حدا ونهاية، فاللهم يا حنان يا منان ويا حي يا مغيث تداركنا برحمتك واشف مريضتنا الحاجة أم خالد، وخفف ما نزل بها، فقد شهدت وفاة زوجها وهي معه في غرفته بالمستشفى على وهن منها ومحنة مرض. وصبرت وصابرت على قساوة المصاب، اللهم آمين يا سميع يا مجيب يا قريب.
تعليقات الزوار ( 0 )