تندرج هذه الورقة في مشروع عام، يهدف الى تحرير الدين من قبضة “الكهنوت الاسلامي” والحفاظ له على حياديته تجاه الكل، وتحرير الناس من الدجل والشعوذة باسم هذا الدين العظيم، الذي نعتبره جميعا ملحمة العرب، ومعجزتهم التاريخية.
وتجد هذه الورقة مبررها في الاخفاق الذريع الذي منيت به جماعات “الاسلام السياسي” والفشل العارم والعام، الذي أعقب تجربتها في مجال قيامها بتدبير الشأن العام للدولة، وهي التجربة التي نعتبر انها كافية لتقييم اداءها ودراسة مدى تأثير تدين “قياداتها” عليها في هذا المجال، والتباين الممكن بين تدبيرها وتدبير غيرها، من باقي المكونات السياسية والفصائل، التي لم تتدثر بلباس الدين ولم تتلبس به اثناء قيامها بالدعاية لنفسها، والترويج لأطروحاتها في الاستحقاق الانتخابي.
تتناول الورقة موضوع علاقة الدين والسياسة، وتُعنى ببيان حقيقة اعتبار “الاسلاميين” أن العمل على إقامة “الدولة الاسلامية” من اصول هذا الدين، و من اهم واجباته، كما تتناول أهم القضايا التي يتكئ عليها الخطاب “الاسلامي” المسيس، في سبيل التأصيل لمشروعه، و ذلك بإخضاعها للنقد و التفكيك، لبيان تهافتها ، وتعنينا السياسة هنا، كما هي في مجال التجربة التاريخية للعرب والمسلمين، وليس في النصوص “المقدسة”
تتناول الورقة هذا الموضوع، من خلال طرح عدد من الاسئلة والتساؤلات: فهل صحيح أن الاسلام في حاجة إلى الدولة؟ وأن الدعوة اليه والتبشير به متوقفان على وجود هذه الدولة المزعومة ؟ وهل كان الاسلام معنيا بتشييد الدولة وبنائها ؟ وإذا كان ذلك كذلك، فبأي معنى ؟ ومن استخدم من؟ الدين أم الدولة؟ ؟ من وظف من؟ الدين أم السياسة؟ وما ذا وراء مطالبة الحركة الاسلامية بتطبيق الشريعة الاسلامية و الاعتناء ب”حاكمية الله” وما اليهما ؟ وماذا يعني ان يتحالف كل من رجال الدين ورجال الحكم؟ وما هي الاضافة التي قدمتها الحركة “الاسلامية” في هذا المجال ؟ هل صحيح أنهم اختلفوا او يختلفون عن غيرهم ؟
الاسلام والدولة
تعتبر هذه الورقة أن مشروع الاسلام ـ كدين ـ مشروع هداية، وليس مشروع دولة، وأن هدفه الأساس، هو أن يحرر الانسان من داعية الهوى، كما يقول الأصوليون، وأن يدفعه الى مجاهدة هذا الاخير، أي الهوى، إلى ان يصبح خالصا لربه، ومنتصرا له ضدا على نوازع الشر، التي تقتل فيه خيريته وفطريته، وقيمه الاصيلة.
كما تدعي الورقة أن الاسلام لم ينتشر بالسيف والقوة بالضرورة، وأنه لا يثق تماما، في من دخله تحت تأثير الخوف من السيف، و يشك فيه، وأن الدولة التي تأسست على أيدي “المؤمنين”، لم تكن مختلفة عن غيرها من الدول والامبراطوريات، التي كانت في ذلك الزمان، وأنه يكاد لا يوجد لها من الاسلام الا الدعوى، والا تلك الحدود، التي لم تكن تطبق ـ في الغالب ـ إلا على فقراء المسلمين وضعافهم، فتحولهم إلى معطوبين و “مشوهين” ، ومفتقرين الى وسائل الكسب. في حين يسلم منها الأغنياء، و ذوو السؤدد و الجاه.
وان الدولة التي يزعم “الاسلاميون” أنها تختلف عن غيرها، من حيث كونها تهتم بالأخلاق وترتكز عليها، و تُعنى بالدين وتسوس الناس به، وتحملهم على ما فيه صالحهم في الدنيا والاخرة، لا وجود لها في الواقع، ولا حقيقة لها طيلة تجربتها التاريخية، فلم تكن الدولة العربية معنية لا بالأخلاق، و لا بغيرها مما في معناها، إذ كانت عواصمها مشهورة بكل ما يعتبرونه ” فواحش” و”منكرات” ومظالم، وغيرها، ولم تكن معنية بالدعوة الى الاسلام، ولا حريصة عليه، والسبب في ذلك عائد بالدرجة الاولى، إلى “الدهرانية” التي تُنسب العرب إليها، وأن الدولة العربية، منذ عصر الخلفاء، كانت مهتمة ـ فقط ـ بالجباية و ليس بالهداية، أي أنها كانت مهتمة بالجواري، واثقال الذهب والفضة من الغنائم، التي كان “الخلفاء” يأمرون بأن تُحمل إليهم، و كانت، في كثير من الحالات، لا تعترف بإسلام الناس، حتى تنهب اموالهم وخيراتهم بدعوى أداء الجزية، وما يحملها على ذلك الا تعلقها بالمال والثروة.
لقد كانت الدولة، عبر كل تجاربها، فوق الدين وأكبر منه، و كانت تتعالى عليه، كما يقول ” سمير أمين”، وأنها هي التي كانت تستعمله و توظفه، وذلك من خلال توظيفها لرجاله و “حراسه” واستلحاقهم بها للخدمة في أسلاكها، والاستعانة بهم لترويض الناس وضبطهم ب “الاديولوجيا” التي يعكفون على دراستها، و التي تظل هي، أي الدولة متعالية عليها، ولسنا هنا، في حاجة إلى تناول كيفية إعادة تفسير الدين وتأويله، بما يلائم السلطة، بل وإنتاج فقه لا رسالة له ولا وظيفة، إلا خدمة فئة المترفين والاغنياء و ذوي السلطان.
تطبيق الشريعة الاسلامية
تعول الحركات الاسلامية المسيسة في تبرير رغبتها في الوصول الى السلطة وتولي الحكم على ضرورة تطبيق الشريعة الاسلامية، التي لا يتأتى تطبيقها الا بالحكم، و لا يمكن إلا به، و بما أن الدولة في الاسلام ليست ضرورة ” شرعية”، أي لا يوجد أي نص يفرض على المسلمين تشييدها وبناء كيانها ، بشكل واضح و صريح، يتولون الحديث عن وجوبها بأدلة عقلية لا نص فيها و يزعمون أنها أدلة “شرعية”، فيقولون أن المسلمين لا بد لهم من إمام يقوم على شؤونهم، ويقسم فيهم الفيء بالسوية، وينفذ فيهم أوامر الشريعة الاسلامية، اي يطبق فيهم حدودها، مما يعني ان مقصد الشريعة الاسلامية الأعظم هو تعذيب الناس وتقتيلهم وقطع ايديهم و سمل عيونهم، وليس تكريم الانسان وتوفير شروط الحياة الكريمة له وتمتيعه بظروف تحقيقها، حيث الحدود كلها، إنما شرعها الإسلام كوسائل لحماية حقوق العباد، و ليس غايات تراد لذاتها، كما يفهم بعضهم.
و الحقيقة أن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، بل إن الحديث عن ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية ، يكشف رغبة واضحة في تولي السلطة، لأن المفترض في تطبيقها، أن توكل في تطبيقها الى العارفين بها، العالمين بها، أي تلك الأسماء التي تشتغل بدراستها و ممارسة السياسة بها، وبالتالي، فإن هذه الدعوة دعوة صريحة وسافرة إلى الوصول الى سدة الحكم، للانفراد بالثروات والاستئثار بها من دون الناس.
الحاكمية لله
وما قيل بشأن تطبيق الشريعة الاسلامية ينطبق تماما على مقولة “حاكمية الله” التي لا نعرف منها الا تكريس الاستبداد وفرض حاكم باسم الله يلغي ارادة الشعب، و يصادر حق الأمة في تقرير مصيرها، ويتجاوز سيادتها ويعلن نفسه “مقدسا” لا يجوز الرد عليه ولا الاعتراض عليه، وهذا يعلن طموحا جبارا وخطيرا وشهية شديدة للسلطة، ورغبة فاحشة في الاستئثار بالسلطة والاستبداد بها، خاصة اذا علمنا انه لا “حاكمية” لله في واقع الامر، لأن عدد الأحكام المنصوص عليها من قبل رب العالمين في كتابه الكريم قليل و لا يتجاوز عدد أصابع اليد، و أن عددا كبيرا من العقوبات التي يتضمنها المعمار الفقهي الإسلامي ليست إلا من وحي اجتهاد فقهاء و “علماء” تصدوا لأزمات واقعهم و زمانهم و جابهوها، و التشبث بها اليوم و الحرص عليها و إحاطتها بهذا السياج من التقديس، لا يعني إلا إنزال تلك الاجتهادات و الاختيارات الفقهية منزلة “احكام الله” الثابتة و تكريس سلطة رجال الدين المسيسين اليوم، باعتبارهم ورثة سر هؤلاء. إنها في الحقيقة حاكمية “للإكليروس الإسلامي” والنخبة الوصية على الدين، فاذا كان القرآن كتابا صامتا لا ينطق، وانما ينطقه الرجال، أي ينطق على ألسنتهم، أي وفق مصالحهم و أهوائهم ورغباتهم، التي يعمدون الى سترها دهاء منهم وسياسة فان هذه الحاكمية ليست في واقع الامر الا حيلة لمصادرة حق الامة في سيادتها على نفسها وتعيين الحاكم الذي يفترض فيه انه موظف عندها عامل عندها وان لها انم تعزله متى شاءت
في حقيقة الصراع بين قوى الاسلام السياسي وبين خصومها
يحلو “للإسلاميين” صرف حقيقة الصراع بينهم وبين خصومهم “الإديولوجيين” إلى خلاف حقيقتها، وإلى خلاف جوهرها، وذلك من خلال الزعم أن هذا الصراع الذي يخفي في عمقه حربا سياسية فقط، إنما هو حرب بين مشروع يؤمن بالهوية والاصالة ويناضل بهما وتحت سقفهما وبين مشروع يرمي إلى مسخ هوية الأمة و تكريس تبعيتها للغرب “الكولونيالي”.
يروج “الاسلاميون” في ادارتهم لأزماتهم مع خصومهم، أن هؤلاء يشكلون تهديدا لحصونهم الثقافية الداخلية، وتحديا لدينهم، وأنهم يتصدون لهم تحت هذا العنوان، وتحت هذه اليافطة، والواقع مختلف تماما، عن هذه الدعوى، بدليل أن هؤلاء الخصوم ليست لهم أية مشكلة مع الاسلام، كدين يحمل مشروع الهداية، ويدعو إلى صلاح الأفراد لتستقيم احوالهم، ولكن مشكلتهم مع من يوظفهن أي الدين، لصالح أغراض دنيوية، لا تختلف ـ في الحقيقة ـ عن اغراض غيرهم وتطلعاتهم واهدافهم.
يكشف “فرج فودة” القضية في كتابه “الحقيقة الغائبة” أن المشكلة مع “الإسلاميين” ليست دينية و إنما هي سياسة و مدارها السياسة حتى و إن ظهر غير ذلك، و”محمد صادق العظم” في كتابه “نقد الفكر الديني” الذي اعتبره نقدا مباشرا للدين ذاته و نقضا له، ينوه بأنه لا يقصد الدين في كونه ظاهرة روحية نقية ، بل حتى “مشيل اونفري” في كتابه “نفي اللاهوت الديني” يعلن أن مشكلته مع من يركب الجماهير باسم هذه النبوءات الكذوبة
ماهي القيمة المضافة التي قدمها الاسلاميون الذين وصلوا الى الحكم او شاركوا في ادارته ؟
إن المأزق الذي انتهى إليه بعض “الإسلاميين” الذين تحملوا مسؤولية ـ أو مسؤوليات ـ ما في الحكم، و النتيجة الكارثية التي “تحققت” في فترتهم، و التي يعرفها القاصي و الداني، و عاشها الناس واقعا، بحيث أنها لم تعد تحتاج إلى الدليل و الشاهد، تجعل فرضية كون “الإسلاميين” لا يختلفون عن غيرهم إن لم يكونوا أسوأ منهم فرضية متحققة و ليس بها أي خلاف. و تجعل فشل هؤلاء البعض، فشلا ينسحب على جميع “الإسلاميين” في أعين الناس، و تجعل المصير الذي آل إليه أولئك هو عينه المصير، الذي سيؤول إليه الآخرون، و بالتالي يكون الحديث عن قيمة مضافة “للإسلاميين” في تخليق الحياة السياسية حديثا لا معنى له و لا فائدة منه.
تعليقات الزوار ( 0 )