Share
  • Link copied

وتستمر حرب الخرائط

روبن جمركي بلجيكي يفاجأ في العام 1986 بالتوقيع على الاتفاقيات المتعلقة بإلغاء الجمارك بين البلدان الأوروبية، وهو البلجيكي المتشدد في انتمائه لأصوله الوطنية في مواجهة الغزو الفرنسي المحتمل الذي يتغذى من التاريخ القديم بين البلدين. في العام 1993، تصبح الاتفاقيات واقعا على الأرض لتتحول معه الحدود إلى مجرد ذكرى جعلت مهنة الجمركي مجرد بذلة بلا معنى. واقع لا يمنع روبن من الإصرار على مراقبة “الحدود” بل التلاعب بها بحضور ابنه الصغير ليو. والقصة من الفيلم الكوميدي (لا شيء للتصريح به ـ 2010) للمخرج الفرنسي داني بوون.

روبن: لا تخبر والدتك بهذا! سيكون هذا سرنا المشترك.
ليو: لماذا تقوم بتحريك هذه العلامات؟
روبن: ليست هذه مجرد علامة عادية. هذه علامات ترسم الحدود بين البلدان. 

يحرك روبن العلامة لعدة أمتار.

روبن: أين أنا الآن؟
ليو: في بلجيكا. لقد فهمت الآن. إننا نجعل بلادنا أكبر. هذا رائع.
روبن: لا يا ليو. نحن نسترد ما كان ملكا لنا في الماضي. هل تعلم أن مملكة بلجيكا الكبرى كانت تمتد لأبعد من 200 كلم من هنا. ذكرني متى كان ذلك يا ليو.
ليو: في القرن الثالث.
روبن: برافو ليو. ولماذا أسميتك ليوبول؟
ليو: تيمُّنا بالملك ليوبول الأول. أول ملك حكم بلجيكا في 26 يونيو 1941.
روبن: خطأ. كان ذلك في العام 1831.
ليو: اعذرني والدي. والسماء فوقنا هل هي بلجيكية أم فرنسية؟
روبن: بلجيكية طبعا.
ليو: والنجوم؟
روبن: هي أيضا بلجيكية.
ليو: لكن الأرض تدور يا أبي. وهذه النجوم تتحول مع دورانها إلى نجوم فرنسية.
روبن: أبدا. النجوم تسافر إلى الخارج لكنها لا ترتاح إلا هنا. لأجل ذلك تعود ليلا إلى بلجيكا حيث ترقد في سلام. هيا بنا! لا أعرف ما يخبئه المستقبل لنا يا بني. لكن اعلم أن والدك سيكون هنا دوما للدفاع عنك وحمايتك..

وتمر الأيام، لتتحول قصة روبن وابنه إلى واقع معاش، شهر أيار (مايو) من العام 2021، حيث اكتشف مؤرخ محلي كان يمشي في الغابة، بالقرب من قرية إريكولينس البلجيكية، أن اللوحة الحجرية التي ترسم الحدود بين البلدين الجارين قد أُبعدت عن موضعها بمسافة تفوق المترين، وهو خبر أثار كثيرا من الاهتمام بالنظر إلى أن اللوحة الحجرية تعود لسنة 1819 عاما قبل ترسيم الحدود بين البلدين بموجب معاهدة كورتريك كنتيجة مباشرة لهزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو الشهيرة. تحويل اللوحة الحجرية كان فعلا غير مقصود من مزارع بلجيكي أعاقت مسار جراره، لكنه بفعله ذاك كاد يتسبب في “أزمة” تجد في التاريخ أصلا لها. 

يحدث هذا في قارة ألغت الحدود بين بلدانها بالرغم من أن جائحة كورونا اضطرتها إلى استعادة عدد من الحواجز والنقاط التفتيشية درءا لتفشي الوباء. لكن الأكيد أن التوجهات اليمينية “الوطنية” المنغلقة على الهوية المحلية في مواجهة الانفتاح على أوروبا، والتي باتت تسيطر شيئا فشيئا على النقاش السياسي وتوجهه في عدد من البلدان، تعيد استحضار ماضي ما قبل الوحدة الأوربية وتدعو لاستعادة الحدود الوطنية ومعها العملة المحلية حتى أن رفع العلم الأوربي تحت قوس النصر الباريسي، احتفالا بتسلم فرنسا قيادة الاتحاد قبل أيام، تحول لأزمة سياسية استغلتها معظم الأحزاب الفرنسية للنيل من الرئيس ايمانويل ماكرون، ما اضطره وحكومته للتراجع وإنزال العلم الأوربي خصوصا وأن البلاد تعيش سنة انتخابية رئاسية حاسمة يمكن لليمين مجتمعاً حسمها، ولا مجال لمنحه مزيدا من الزاد الانتخابي الحانق على ماكرون وعلى التوجه الأوربي الذي يرى جزء من الناخبين المستهدَفين أنه حدّ من استقلالية القرار الوطني. 

كيف إذن سيكون الحال في جغرافيا “الوطن العربي”، حيث توصي الجامعة العربية منظماتها الموازية باعتماد خريطة بلا حدود في واقع تطبعه المنازعات الحدودية المزمنة الموروثة عن الاستعمار، أو واقع حدوده المعترف بها محكمة الإغلاق إلا في وجه المهربين والمجرمين وربما نعوش الموتى في بعض الحالات؟ 

حرب الخرائط مستمرة بين الدول العربية منذ الاستقلال، حيث كانت سببا مباشرا في اندلاع حروب ومعارك وصراعات لم تندمل جراحها بعد. ولأجل حل بعض منها لم نجد غير المحاكم الدولية مكانا لتصفية الإرث الاستعماري بشكل يؤخر المواجهة ولا يلغيها. في شهر آب/ أغسطس من العام 1990، شهدت المنطقة العربية واحدة من أسوأ أزماتها حين غزت القوات العراقية دولة الكويت وأعلنتها مقاطعة تابعة لها. هكذا بجرة قلم أو طلقة مدفع أو رشاش تقرر إلغاء دولة كاملة من الوجود في ظل عجز إقليمي عربي يمكّن من احتواء الأزمة وتداعياتها التي لا تزال مؤثرة في الواقع القومي حتى اليوم. لكن الله أحيانا حتى رأينا حاكما انقلابيا عربيا يقايض جزر بلاده مقابل شرعية هو فاقد لها ولا يزال.

حروب ودسائس وصراعات وأحقاد أججتها الأطماع الاستعمارية التي لم تأخذ الحقائق التاريخية ولا الخصائص الإثنية أو القبلية في رسمها للحدود القطرية فزرعت في المنطقة قنابل موقوتة انفجر كثير منها ولا زال في الجعبة مزيد. ولعل آخر الفصول التي نتابعها منذ أسابيع تلك الحرب الضروس التي تشنها الجزائر في دفاعها المستميت عن كيان “صحراوي” مزعوم في محاولة يائسة لحجز “الصحراء الغربية” حدودا له في الخرائط لعلها تتمكن بذلك من زرعه بالجامعة العربية بعد نجاحها في الفعل ذاته بالاتحاد الافريقي. 

مناسبة الحديث رد الفعل الجزائري الرسمي، نهاية شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على لسان المبعوث الجزائري الخاص بـ “الصحراء الغربية” والمغرب العربي، عمار بلاني، الذي اعتبر ما نشرته وكالة الأنباء المغربية الرسمية عن مذكرة وجهتها الجامعة العربية لمنظماتها الموازية باعتماد “خريطة المغرب كاملة” في الفعاليات التي تشرف على تنظيمها، “حدثا وهميا لا وجود له إلا في العقول المخادعة لهؤلاء الذين يبدعون في فنون التلاعب والخداع”.  

بلاني اعتبر أن ” مصادر مغربية رسمية تواصل باستمرار مشروعها التضليلي السافر ودعايتها الكاذبة بخصوص عقد القمة العربية المقبلة بالجزائر حيث جندت بوقها الرسمي بخصوص خريطة جديدة مزعومة تضم الإقليم المحتل من الصحراء الغربية”. ينسى عمار بلاني أن الخريطة تلك وإن لم تحمل حدودا للدول الأعضاء فإنها لا تشمل إلا الأراضي المعترف بها لتلك الدول ومن بينها إقليم الصحراء. 

الخلاف إذن في القراءات المقدمة وليس في المضمون الذي يقر بسيادة المغرب على صحرائه كما أكد عليه اجتماع القمة الأخير لدول مجلس التعاون الخليجي، وهي حقيقة لا خروج عربيا عنها إلا في تصريحات بلاني ومواقف الوفود الجزائرية المشاركة في مختلف المؤتمرات والمنتديات كما حدث مع انسحاب الوفد الجزائري، شهر نيسان (أبريل) الماضي من الاجتماع الإقليمي لمدراء الجمارك لشمال افريقيا والشرق الأوسط، احتجاجا على ظهور خريطة المغرب كاملة في الاجتماع باعتبار ذلك منافيا ل”الشرعية الدولية وتوصيات الأمم المتحدة”.

الحقيقة الثابتة أن أرض الصحراء “الغربية” التي كان المغرب قد حصنها بالجدار الرملي، صارت أكثر تحصينا بالطائرات المسيرة التي تتعامل مع كل متسلل يقترب من حدودها، وبالتواجد القنصلي لعدد من البلدان العربية والإفريقية، وبتعديل عدد من المنظمات ووسائل الإعلام والعلامات التجارية الكبرى لخرائطها بما يتناسب والواقع على الأرض بما فيه آخر الملتحقين بالركب الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وكذا بالاعتراف الأمريكي بالسيادة المتواصل مع إدارة جو بايدن، وتكرس بنشر مجلة وزارة الخارجية الأمريكية، قبل أيام فقط، لخريطة “وظائف الخدمة الخارجية”، التي يعدها مكتب الجغرافيا والقضايا العالمية في مكتب الاستخبارات والبحوث، وضمت حدود المغرب كاملة دون انتقاص. 

لكن الضمانة الأهم هي اليقظة الشعبية التي تقوت مع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي بشكل جعل المبادرات الشخصية وتلك المنظمة وسيلة تعريف وضغط كان افتتحها مواطن مغربي في العام 2015 بمطار أمستردام حين بادر إلى تعديل الحدود الكاملة للبلاد على خريطة معلقة بالمطار، وتبعه مواطن آخر بمركز تجاري أمريكي.

بين المغرب والجزائر لا تضع “الحرب” أوزارها حتى تنطلق أخرى ليبقى الثابت هو الحرب الإعلامية المتواصلة دون هوادة لكسب الرأي العام في الداخل والخارج على حد سواء دونما اكتراث بنشر الأراجيف والأكاذيب. فبعد حرب القنصليات ها نحن نعيش على وقع حرب الخرائط، ومعهما خضنا ولا نزال حرب الزوايا الدينية وحرب التراث في مسعى لتملك اللباس والأكل والموسيقى، وهي حروب تتجدد بين الفينة والأخرى لتؤكد لمن لا يزال في قلبه مرض أن الشعبين الجزائري والمغربي شعب واحد ينهل من حضارة ومعين واحد وإن فرقتهما حدود وهمية لا تزال محكمة الإغلاق برا وبحر وجوا حتى حين.

Share
  • Link copied
المقال التالي