Share
  • Link copied

هيا نعيد الجمهور المغربيّ إلى قاعات السينما

قرّرت “غرفة منتجي الأفلام المغاربة” جعل هذه السنة “سنة إعادة الجمهور المغربي إلى قاعات السينما”. الخطوة الأولى في هذا القرار، ندوة بعنوان “نحو إعادة استقطاب الجمهور ـ رهان وطني”، أُقيمت أثناء “المهرجان الوطني للفيلم بطنجة”، في بداية مارس 2017.

لرصد العزوف رقمياً، بيعت 212 مليون تذكرة في فرنسا لجمهورٍ يتألّف من 68 مليون نسمة. بينما بيعت مليون تذكرة فقط في المغرب، الذي يبلغ عدد سكانه 34 مليون نسمة. هذا عار على بلدٍ، تقارن نخبه نفسها بفرنسا كثيراً. في المداخلات، اشتكى الناقد السينمائي من تراجع تقاليد الذهاب إلى السينما، لأسباب تعليمية واجتماعية واقتصادية. لكنه لم يقل كلمة عن ضعف جاذبية الفيلم المغربي.

لحلّ مشاكل السينما، اقترح رجل الإشهار نور الدين عيوش إعداد ملف، والتوجه مباشرة إلى الملك. يحضر عيوش “مهرجان طنجة” لينظِّر للملكية التنفيذية، ويهاجم المنتخبين، ويقترح التعامل مباشرة مع الملك. هو يقترح زيارته في مقرّ شركته (ذكر اسمها مراراً)، لاستقبال وجمع الاقتراحات، قبل التوجه إليه. ردّ عليه الأستاذ الجامعي محمد طروس، قائلاً إنّ الفيلم المغربي لا جمهور له، ولا يحتاج جمهوراً أصلاً، لأن الدولة الأبوية هي المنتج الأول للأفلام، وهي ـ بذلك ـ توفّر تغطية اجتماعية للفنانين، الذين لا يبذلون جهداً.

هذا الإنتاج شكلٌ من أشكال الريع. إنه يسود بكثافة في مجالات أخرى. عيوش يريد دولة أبوية، وهو يقوم بالإشهار لها ولنفسه، ويرغب في أن يصبح مخرجاً، للحصول على الدعم.

في المناقشات، جرى تركيز على إغلاق القاعات السينمائية، كأن المشكلة في الجدران. تحدّث صاحب قاعة، شاكياً من الضريبة على القيمة المضافة، التي تخفض أرباحه. اشتكى أيضاً من أن الأفلام لا تجذب الجمهور. صاحب القاعة هو الأقرب إلى الميدان والمشكلة المطروحة. أكد أن فيلم “الفروج” (أي الديك) للمخرج والممثل والمنتج عبه الله فركوس، يمكن أن ينقذ القاعات، أما سينما المؤلف، فلا. لمواجهة موجة الضحك في القاعة، استطرد المتحدث: “لو وضعت الأفلام التي أحبها في قاعتي لأفلست”. أضاف أن صاحب القاعة يهمّه عدد التذاكر المباعة، وليس محتوى الفيلم. توقع أن 10 أفلام كـ “الفروج” ستنقذ القاعات، بل إن أفلاماً كهذه لا تحتاج السينما إلى الإشهار (هذا غمزٌ لرجل الإشهار)، لأن دعاية “من الفم إلى الأذن” تقوم بإشهار جيد للأفلام، شرط أن يكون هناك محتوى لنقله. هذا هو الإشهار الحقيقي، والأكثر تأثيراً في المغرب (فم ـ أذن).

صاحب الحلّ غائب

لم توجّه الدعوة إلى عبد الله فركوس، للتحدّث عن الموضوع، رغم أن فيلمه احتلّ المرتبة الأولى في شباك التذاكر عام 2015. سبب الإقصاء أن المنتجين، منظّمي الندوة، يعتبرونه مخرجاً أمّياً، كأغلبية الشعب، وينظرون إلى عمله باحتقار، رغم أنه الوحيد الذي وجد الحل لسؤال إعادة استقطاب الجمهور.

يمكن تلخيص خصائص أفلام مخرج “الفروج” بملاحظات عديدة:

أولاً: كثرة حضور المطاردات والـ “كاباريه” والفولكلور لملء الفراغات.

ثانياً: كثرة الكلام والتعليقات التي تدغدغ الجمهور.

ثالثاً: اعتماد الافتراضات الضمنية التي تحكم المجتمع، لذلك فهي كوميديا مشبعة بالقيم السلبية، التي يزخر بها الوعي الجمعي، عن المرأة وكيدها، والفقر والجوع والغباء. هناك أيضاً السخرية من لكنة المناطق ولهجاتها، مع تمجيد رومانسية البادية، رمز الفطرة ضد المدينة المنحلة.

رابعاً: على مستوى البناء، معظم الأفلام مجموعة “اسكتشات” تسخر من السلوك والمواقف، تتوجّه إلى العموم، وتحقّق مشاهدات أكثر.

في الحقيقة، حاولت أفلام كثيرة، عرضت في “مهرجان طنجة”، تقليد هذا الأسلوب. يتوقع لبعضها أن يُحقّق نجاحاً جماهيرياً. لكن، لم يتمّ التطرق إلى هذا الأمر في الندوة، التي لم نسمع فيها كلمة عن ضعف جاذبية الفيلم المغربي، تجنباً للعداوات، رغم أن كثرة الصداقات مضرّة بالنقد.

في المداخلات، يُطالب المنتج بزيادة الدعم لتمويل الأفلام. هذا ديدنه. الناقد السينمائي يشتكي من غياب القاعات، وهذه ليست مهمته بل مهمة المقاول. مهمة الناقد أن يحلّل الأفلام المغربية، ويبيّن لماذا لا تجذب الجمهور. تكرّر لفظ الرداءة بكثرة في أروقة المهرجان، بل إن غياب أفلام عدة لمخرجين آخرين تسبَّب في ضعف مستوى الدورة، ومنهم نبيل عيّوش ونرجس النجار وفوزي بنسعيدي ونور الدين لخماري. السبب المعلن يقول بأن الأفلام غير جاهزة، بينما السبب الحقيقي يكمن في الخوف من حكم الجمهور، والبحث أولاً عن جوائز في مهرجانات خارج المغرب. كل كاتب وفيلم يحصل على جوائز خارجية، تحترمه الصحافة المغربية أكثر.

بالإضافة إلى الأفلام التي غابت عمداً، رُفضت أفلام أخرى لأنها لمخرجين غير مغاربة، رغم أنهم تناولوا المغرب، ويعيشون فيه. صاغ الصحفي الساخر المحجوب فريات الوضع بسؤال مركّب: ما هو الفيلم المغربي؟ هل هو ذاك الذي يُخرجه مخرج يحمل الجنسية المغربية، ويقطن خارج المغرب، وفيلمه ناطق بلغة أجنبية، وموضوعه ليس مغربياً، وممثلوه أجانب، وإنتاجه أجنبي؟ أم إنه الفيلم الذي أخرجه مخرجٌ أجنبي يعيش في المغرب، ويتناول الواقع المغربي، وهو ناطق بالعامية المغربية، وممثلوه مغاربة، ومنتجوه مغاربة؟

تعدّدت الأجوبة عن هذا السؤال المعقد. لكن الجمهور معني بأمر واحد: إنه يبحث عن أفلامٍ تتقاطع مع ما يعيشه. أفلام تساعده على فهم واقعه، أو السخرية منه. هذه نقطة قوة عبد الله فركوس، الذي يحكي عن ديك يزعج السيّاح الأجانب في مراكش، لكنه ديك يوقظ صاحبه لأداء صلاة الفجر.

نقاط ضعف الفيلم المغربي

لرصد سبب عزوف الجمهور عن القاعات، هذا استطلاع شفوي لرصد نقاط ضعف الفيلم المغربي:

أولاً: عدم وجود تسلسل في الأحداث، التي يجب أن تتطوّر تصاعدياً، متّجهة نحو المستقبل. هذا لا يحصل في أفلامٍ مغربية كثيرة، وتحلّ محلّه قفزات غير مفهومة. الأسوأ ألا يجد السيناريست نهاية منطقية للفيلم، وبالتالي فهو يخترع نهاية تافهة، يسمّيها النقاد “نهاية مفتوحة”، تحتمل ألف تأويل. المتفرّج العادي ليس لديه وقت لصداع الرأس هذا.

ثانياً: يكتب السيناريست، البعيد عن النبع، عن أشياء لا تتماشى مع الواقع. يكتب عما لا يعرف. وبالتالي، لا يجد المتفرّج نفسه في الشخصيات السطحية التي يقدّمها الفيلم.

ثالثاً: كثرة الكلام الذي “لا محلّ له من الإعراب”. في بعض الأفلام، يعتقد السيناريست أن المتفرّج في قمة الغباء، فيقوم بالتعمّق في أشياء تافهة، فيصبح الحوار طويلاً ومملاً.

رابعاً: كثرة الـ “فلاش باك”، الذي يجعل السرد “متقطعاً”، بسبب الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر. هذا يقلق المُشاهد. أحياناً، لا يعرف المُشاهد إذا كان ما يشاهده يقع في الحاضر أو الماضي.

خامساً: يجد المتفرّج نفسه أمام القصص نفسها. لا يوجد إبداع أو أفكار جديدة. بالتالي، نلاحظ أن الأفلام كلّها متشابهة. تكون أحداث الفيلم المغربي غير مشوّقة، حتى إن المتفرّج يتنبأ بها مسبقاً. “إذا غاب التشويق، فلماذا سأتفرج”؟ هكذا تساءل أحد المستجوَبين.

سادساً: أحياناً كثيرة، يجد المتفرّج أن عنوان الفيلم لا علاقة له بالقصة. السبب؟ كثرة الاستنساخ و”القصّ واللصق”. أغلب الأفلام يكون بعض أفكارها مقتطفاً من فيلم أو مسلسل أو رواية أجنبية، ينسبها السيناريست لنفسه. يقع الأسوأ عندما يحاول المخرج تقليد أفلام هوليوودية، خصوصاً تصوير أفلام الرعب، فينقصها الكثير من التقدّم والتطوّر على مستوى اللباس والماكياج وطريقة التصوير والتشويق.

سابعاً: التعامل مع الـ “تابوهات” برعبٍ، بحيث يصبح المغرب في عيون المشاهدين بلداً متخلفاً، خاصة بالنسبة إلى المُشاهد الأجنبي.

ثامناً: جُلّ الأفلام تلفزيونية أكثر منها سينمائية، رغم أن ميزانياتها ضعف ميزانية فيلم “انفصال” لأصغر فرهادي، مثلاً. السبب؟ ضعف الكتابة. كم مخرج مغربي لم يكتب في حياته لا مقالة ولا قصة، ثم يكتب سيناريو دفعة واحدة؟

 مهما تكن اللغة السينمائية، فالسيناريو هو “القطعة الأرضية” التي سيبنى عليها الفيلم. القصة ضرورية وحاسمة. عندما تكون هناك قصة، نرى كيف نرويها بالصُوَر، أي باللغة السينمائية. اللغة السينمائية أسلوب لا محتوى. من دون محتوى عميق، لا قيمة للأسلبة.

هذه بعض نقاط الضعف، التي تنبغي مكافحتها لإرجاع الجمهور إلى قاعات السينما. حين يعدّد الناقد هذه النقائص، يوصف بأنه حقود. أما حين يعتمدها المتفرّجون من دون وعي، ويهجرون القاعات، يشعر المخرجون بالعار، حين يرون أرقام مبيعات التذاكر الخاصة بعروض أفلامهم. جُلّهم يردّدون بكبرياء أن شباك التذاكر ليس معياراً.

عن الأقلّ مُشاهدةً

لتجنّب هذا العار، حاول مخرجون كثيرون منافسة وتقليد وصفة عبد الله فركوس، المذكورة أعلاه. منهم محمد أشاور، في فيلم “الحاجات”، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان طنجة. لكن المخرج لا يملك روح الثقافة الشعبية التي تسهِّل السخرية.

مع ذلك، هناك مخرجون يحاولون تقليد وصفة فركوس، وإن لم يتربوا في وسط شعبي مراكشي. من فرط محاولات التقليد، اعتبر ناقد غاضب كوميديا فركوس “مرجعية إستيتيقية”. لو سئل فركوس عن معنى “إستيتيقا”، لاستخرج فوراً من السؤال نكتة، لأنه كوميدي بالفطرة.

بينما يجتهد المخرجون لتقديم سينما شعبية، انتصرت لجنة تحكيم المهرجان ـ برئاسة الروائي فؤاد العروي ـ في النهاية، لسينما المؤلف، بمنحها الجائزة الكبرى لـ “عرق الشتا” لحكيم بلعباس، وجائزة أفضل ممثلة لفاطمة الزهراء بناصر عن دورها في الفيلم نفسه، وجائزة لجنة التحكيم لـ “ضربة في الرأس” لهشام العسري، وجائزة أفضل ممثل لعزيز حطاب عن دوره في الفيلم نفسه.

يعود تحليل ما يعرض على الشاشة إلى النقد السينمائي، ويعود تحليل من يشاهد إلى السوسيولوجيا. لا تنحصر المشكلة فيما يجري على الشاشة فقط. لنرَ طبيعة الجالسين قبالتها: طالبتهم مقدمة الأفلام 30 مرّة بإغلاق الهواتف الخلوية، قبل عرض كلّ فيلم من الأفلام الـ 30، لكن من دون جدوى. بل إن بعضهم كان يجري اتصالاً هاتفياً أثناء عرض الفيلم.

في سياق كهذا، لم يتم ذكر الأسماء في هذا الاستطلاع، لأن التجربة أثبتت أنه عندما يدردش المهتمون بالسينما المغربية عن الأفلام في أروقة المهرجان، يعبّرون عن رأي غاضب وثوري، ويطالبون بمسح الطاولة للبدء من جديد. وحين يُدعون إلى الحديث أمام الكاميرا والميكروفون، فإنهم يستخدمون لغة بيانات القمم العربية. يُثمِّنون الفيلم المغربي، ويحمدون الله على تقدّم السينما المغربية.

*ناقد سينمائي

Share
  • Link copied
المقال التالي