التعددية الثقافية والمذهبية ظاهرة متجذرة في تاريخ المجتمعات البشرية، لكنها تثير تساؤلات جوهرية حول دورها في استقرار الدول أو تهديد وحدتها. هل يمكن لهذا التنوع أن يكون عاملًا للثراء والتكامل أم أنه يبقى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة؟ يتوقف الجواب على طبيعة الدولة التي تدير هذه التعددية، وعلى مدى قدرتها على تحقيق التوازن بين احترام الهويات المتنوعة من جهة، وضمان وحدة النسيج الوطني من جهة أخرى
من الناحية الفلسفية، يُنظر إلى التعددية على أنها انعكاس طبيعي للحقيقة المتعددة الأوجه، إذ لا يمكن اختزال المجتمع في رؤية واحدة أو هوية متجانسة. الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط رأى أن الاختلاف والتعدد هما أساس تقدم الفكر الإنساني، فيما اعتبر هابرماس أن المجتمع الحديث لا يمكنه الاستمرار دون الاعتراف بالتنوع كعنصر بنيوي في تشكيله. لكن هذه الرؤية الفلسفية تصطدم أحيانًا بالواقع السياسي، حيث تتبنى بعض الدول خطابًا يوهم بأن الانسجام لا يتحقق إلا عبر فرض هوية أحادية، متجاهلة أن التجربة التاريخية أثبتت أن الدول الأكثر استقرارًا ليست بالضرورة تلك التي تحاول صهر مكوناتها في نموذج واحد، بل تلك التي تنجح في خلق نظام يسمح لمكوناتها بالتفاعل ضمن إطار وطني مشترك.
من الناحية السياسية، يمكن القول إن التعددية ليست مصدر تهديد بحد ذاتها، لكن طريقة إدارتها هي التي تحدد ما إذا كانت ستتحول إلى عامل استقرار أم إلى وقود للنزاعات. الدول التي استطاعت بناء نموذج وطني قائم على المساواة بين مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم الثقافية أو الدينية، نجحت في تحويل التعددية إلى مصدر قوة وإبداع. أما تلك التي فشلت في توفير العدالة الاجتماعية وأصبحت تتعامل مع بعض الفئات باعتبارها مكونات هامشية، فقد وجدت نفسها عرضة للاضطرابات والصراعات الداخلية. في هذا السياق، يمكن فهم التجربة الأوروبية الحديثة التي استندت إلى فكرة المواطنة كإطار جامع يعلو على الانتماءات الفرعية، وهو ما أشار إليه الفيلسوف الألماني ليسنغ في أسطورته حول “حكمة الحلقات الثلاث”، والتي ترى أن القيمة الحقيقية لا تكمن في الهوية الدينية، بل في السلوك الإنساني القائم على الأخلاق والتسامح. لكن أوروبا نفسها لم تصل إلى هذا النموذج إلا بعد قرون من الحروب الدينية والصراعات المذهبية، مما يجعل التعددية تحديًا يتطلب مقاربة طويلة الأمد تقوم على بناء الثقة بين مكونات المجتمع وليس فرضها بالقوة.
في العالم الإسلامي، ظل التنوع المذهبي والثقافي جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي، لكن طريقة التعامل معه تفاوتت بين فترات ازدهار حضاري شهدت اعترافًا بالتعددية، وفترات أخرى اتسمت بالقمع والإقصاء. عندما كانت الدولة قادرة على احتواء التنوع ضمن إطار المواطنة والعدالة، ازدهرت المجتمعات الإسلامية وشهدت حالة من التفاعل الثقافي والفكري الخلاق. أما عندما تحولت الهوية إلى أداة صراع سياسي، فإن هذه التعددية نفسها كانت وقودًا للانقسامات. اليوم، يواجه العالم الإسلامي تحديات متجددة بسبب تصاعد الخطابات الطائفية وتدخل قوى خارجية تستغل هذا التنوع لإثارة الفتن وتحقيق مصالحها السياسية. فالتحريض الطائفي والتلاعب بالهويات الثقافية أصبحا أدوات تُستخدم لتقسيم المجتمعات وإضعاف الدول، في وقت تحتاج فيه هذه الدول إلى خطاب وحدوي يتجاوز الهويات الضيقة نحو مشروع وطني جامع.
لكن كيف يمكن تحقيق هذا التوازن في ظل عالم تتصاعد فيه التوترات العرقية والمذهبية؟ يكمن الحل في بناء دولة قوية لا تُقاس قوتها بقدرتها على فرض رؤية واحدة، بل بمدى قدرتها على استيعاب التعددية دون أن تتحول إلى أداة تفتيت. هذه الدولة لا بد أن تستند إلى مبدأ المواطنة كمرجعية أساسية، بحيث يكون الولاء لها وليس للطائفة أو العرق. كما أن ترسيخ ثقافة التسامح والحوار داخل المؤسسات التعليمية والإعلامية يصبح ضروريًا لخلق وعي جمعي يرى في التنوع عاملًا إيجابيًا وليس تهديدًا. إن الاعتراف بالتعددية لا يعني الوقوع في فخ النزعات الانفصالية، بل يعني بناء نظام سياسي يُشرك الجميع دون إقصاء أو تمييز، مما يضمن ولاء المكونات المختلفة للدولة بدلًا من البحث عن بدائل أخرى تعزز الانقسام.
التاريخ يقدم نماذج مختلفة لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين التعددية واستقرار الدول. في التجربة المغولية خلال القرن الثالث عشر، كان الإمبراطور مونغكه خان يدير إمبراطورية متعددة الأديان والثقافات، وعقد نقاشًا عامًا بين ممثلي مختلف الديانات في قراقورم، حيث شبّه التعددية بأصابع اليد، التي تختلف لكنها تعمل معًا لتحقيق غاية مشتركة. هذا النموذج يؤكد أن الدولة عندما تكون محايدة تجاه التعددية، فإنها تستطيع استثمارها في بناء مجتمع أكثر تماسكًا. لكن التجربة نفسها أظهرت كيف أن الحياد قد يتحول لاحقًا إلى انحياز إذا ما تغيرت الظروف السياسية، كما حدث عندما بدأ المغول يدعمون البوذية على حساب الطاوية لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما يوضح أن إدارة التعددية تحتاج إلى توازن دائم وليس مجرد قرارات ظرفية.
من ناحية أخرى، يمكن ملاحظة كيف أن بعض الدول التي لم تدرك أهمية هذا التوازن انتهت إلى فوضى أو تفكك داخلي. ففي كثير من الدول التي شهدت انهيارات سياسية، كانت الشرارة الأولى تأتي من انفجار الهويات الثقافية والمذهبية نتيجة سياسات الإقصاء أو التدخلات الخارجية التي استغلت هذا التوتر لتقسيم المجتمع. عندما يتم تفكيك الدولة على أساس الهويات الفرعية، فإن كل جماعة تبدأ في البحث عن استقلاليتها الخاصة، مما يؤدي إلى صراعات لا تنتهي، ويحوّل التعددية من عامل إثراء إلى معول هدم.
السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يمكن للدول التي تعاني من تحديات التعددية أن تتجنب السيناريوهات الكارثية؟ الإجابة تكمن في الإرادة السياسية والإدراك العميق بأن التعددية ليست في ذاتها خطرًا، بل الطريقة التي تتم إدارتها هي التي تحدد مصير الدولة. الدولة التي تتعامل مع التنوع كعنصر تهديد ستجد نفسها في مواجهة دائمة مع مكوناتها، بينما الدولة التي تبني سياساتها على العدالة والمساواة ستجد أن هذا التنوع يمكن أن يكون مصدرًا لقوتها وتقدمها.
المطلوب إذن هو إعادة التفكير في مفهوم الدولة الوطنية بحيث تصبح قادرة على استيعاب التعددية ضمن إطار يحقق الاستقرار دون أن يتحول إلى قمع أو إقصاء. هذه المهمة ليست سهلة، لكنها ضرورية إذا كان الهدف هو بناء مجتمعات متماسكة قادرة على مواجهة التحديات، بدلاً من أن تصبح ساحة لصراعات داخلية تُدار من الخارج. هل نحن مستعدون لهذا التحول، أم أننا لا نزال أسرى لخطابات الماضي التي ترى في التعددية خطرًا بدلًا من أن تدركها كفرصة؟
تعليقات الزوار ( 0 )