أولا : الإرهاصات و التمظهرات
كثيرة هي التفاعلات والمتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية بعد سقوط جدار برلين وانهيار الإتحاد السوفياتي سنة 1991 وبروز القطبية الأحادية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية ؛ منذ ذلك الحين إلى اللحظة، برزت قوى اقتصادية جديدة في الواجهة ( الهند، تركيا، البرازيل…)، وأخرى عسكرية طورت من ترسانتها التسلحية والنووية ( إيران، كوريا الشمالية…). هذه المتغيرات وغيرها حولت الكثير من البؤر المستعرة حول العالم إلى أشبه ما يكون بساحة لاستعراض العضلات بين هذه القوى التي تحاول جاهدة بعث رسائل مختلفة، لإثبات الذات وإحساس الآخر بهذه المتغيرات عبر المطالبة بين الفينة والأخرى بتغيير بعض من قواعد القانون الدولي التي تحكم العالم بالرغم من التحولات والتفاعلات السالفة الذكر.
ثمة حديث متداول هذه الأيام في صفوف مختلف المهتمين وعامة الناس عن حرب باردة جديدة يجهز لها في دهاليز مخابرات بكين وواشنطن. وهذا يقودنا إلى مقارنة ما يحدث حالياً من توتر وتنافس إقتصادي وأيديولوجي وعسكري مرير بين البلدين، مع ما حدث بين الاتحاد السوفياتي سابقا والغرب بزعامة أمريكا منذ خمسينات وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
و يرى العديد من المراقبين أن الحرب التجارية التي اندلعت بين البلدين العام الماضي، ما هي إلا السحابة التي غطت الصراع التكنولوجي والعسكري الذي تقوده شركات ومخابرات البلدين منذ مدة، فخطوة الصين التي سارعت إلى تثبيت شبكات الجيل الخامس من تكنولوجيا الانترنت، دفعت بالمخابرات الأمريكية إلى دق ناقوس الخطر نظرا للتهديد الذي تشكله هذه الشبكة على أمنها القومي وعلى قوتها الناعمة التي غزت بها العالم لما تحمله من تقنيات تُستعمل لأغراض تجسسية، وهو الأمر نفسه الذي أكدته التقارير الدورية التي تصدر عن البنتاغون التي صنفت ”الصين العدو الأبرز الذي يشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي”، والذي يجب التعامل معه بحزم قبل فوات الآوان.
هذا المستجد دفع واشنطن لتركيز معظم هجماتها صوب التجارة التي تجمعها ببكين، وبالتحديد على شركة “هواوي” عملاق التكنولوجيا الصيني كونها الأكبر والأكثر ابتكارا وتنافسية على المستوى العالمي، الأمر الذي عجل بإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إدراج شركة هواوي تكنولوجيز الصينية العملاقة وسبعين شركة تابعة لها في “قائمة الكيانات” التي سيشملها الحظر الأمريكي، وهي بمثابة قائمة سوداء تمنع الكيان الصيني من الحصول على المكونات التكنولوجية من الشركات الأمريكية دون موافقة الحكومة.
كثيرة أيضا هي التمظهرات التي تشير إلى أن بكين وواشنطن دخلتا في حرب باردة غير معلنة، وفي هذا الإطار لا بد من التذكير ببعض الاتفاقيات الدولية التي انسحبت منها واشنطن للحد من الزحف الاقتصادي والعسكري الصيني في العقدين الأخيرين :
–إنسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية باريس للمناخ: إن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ في 1 يونيو 2017 لم يكن محل صدفة أو ترجمة لشعار انتخابي غابر. فدوافع ترامب كانت مدروسة بدقة عالية من لدن صناع القرار في بلاد العم سام، وما استخدام شعار “أمريكا أولا” الذي ردده غداة فوزه بالرئاسة سنة 2016، خير استشعار بالخطر القادم من الشرق الآسيوي، وهذا ما جعل ترامب يقول إن اتفاقية باريس ستقوض الاقتصاد الأمريكي وستكلف الولايات المتحدة وظائف وستضعف السيادة الوطنية الأمريكية وستضع البلاد في موقف سيئ دائم مقارنة بباقي دول العالم، وهذه الرسالة بقدر ما هي موجهة لإقناع المواطن الأمريكي جراء هذا الانسحاب، فهي موجه بالأساس إلى الصين التي زادت من وتيرة اشتغال عجلتها الاقتصادية في العقدين الاخيرين حتى صارت أكبر ملوث للبيئة بفعل انتعاش صناعاتها الثقيلة التي تخشاها واشنطن، ويرى ترامب في هذا الأمر مبعث قلق لبلاده التي إذا ما التزمت بمخرجات “مؤتمر باريس للمناخ سيعجل بفقدان الزعامة الاقتصادية العالمية لصالح الصين التي تستغل كل الفرص لتتربع على عرش اقتصادات العالم، عمل بالعبارة التي تقول “من يسود اقتصاديا يسود في جميع المجالات”.
–انسحابها الولايات المتحدة من المعاهدة الدولية لحظر الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى، والتي وقعتها مع الاتحاد السوفياتي سابقا عام 1987 : وكانت هذه المعاهدة تحظر على الجانبين وضع صواريخ قصيرة أو متوسطة المدى تطلق من البر في أوروبا ويتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر، مما يقلل من قدرتهما على توجيه ضربات نووية مباغتة. وهنا لا بد أن نشير إلى أنه بالرغم أن بعض التبريرات الأمريكية في البداية كانت منصبة على اختراق روسيا لهذه الاتفاقية من خلال تطويرها لأنواع من هذه الصواريخ المحظورة، إلى أن الرسالة الرئيسية من خلال هذا الانسحاب كانت مُرسلة بالأساس للصين، إذ أن العديد من الساسة والعسكريين الامريكيين رأوا أن هناك استحالة في الاستمرار بالتعامل ببنود هذه الاتفاقية، لطالما هناك طرف آخر – الصين – يسارع في تطوير ترسانته الصاروخية دون أن تحده أي اتفاقية أو معاهدة دولية، وهي إشارة صريحة إلى أن بكين التي تستغل هذه الظروف للحاق بركب الدول الرائدة في هذا المجال ( أمريكا وروسيا ).
هذه المعطيات وغيرها، توحي بأن الصراع بين الخصمين اللدودين ليس وليد أزمة كورونا وما واكبها من تراشقات بين الطرفين حول منشأ الفايروس كما يحاول البعض إظهاره، كل ما في الأمر هو أن هذه الجائحة جاءت لتزيد من وتيرة تطور هذه الصدامات بين الطرفين المتناحرين منذ مدة، ولتخرجها من السر إلى العلن، ولتعلن رسميا للعالم أن قطبين جديدين دخلا لحلبة الملاكمة، فأمريكا تحاول بقاء الأوضاع على ما هي عليها من خلال آلياتها المتاحة (العقوبات ودعم المعارضين)، والصين تريد نظاما عالميا آخر غير الذي يوجد حاليا رغم نفي هذا السيناريو من طرف ساستها في مناسبات عدة.
ثانيا : المستفيدون من هذه الحرب
إضافة إلى تطوير الأسلحة والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا وغزو الفضاء…، فإن من أهم الأسس التي تتميز بها هذه الحروب غير التقليدية هي البحث عن التحالفات القوية التي من شأنها السماح للطرفين بالحشد والحشد المضاد لاختبار سلاح النفَس الطويل والإنهاك الاقتصادي والعسكري تحت شعار “البقاء للأقوى”، (وهو ما حدث مع الإتحاد السوفياتي سابقا حين انهارت قواه في المستنقع الأفغاني )، نظرا لاستحالة اصطدام عسكري مباشر بين القوتين العظميين، وفي هذا الصدد فإن ثمة بعض الأطراف على الساحة الدولية ترى أن من مصلحتها اشتداد احتدام الصراع بين بكين وواشنطن، فإطلالة قصيرة على المواد الإخبارية التي يبثها كل من الإعلام الروسي والإيراني في هذا المجال، يحيلنا على أن الطرفين يحاولان الدفع بهذا الصدام للأمام لتحقيق بعض الاستفادة التي لن تتحقق إلا في مثل هذه ظروف .
فروسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، استفادت كثيرا من الدروس والعبر إبان حربها الباردة التي خاضتها مع أمريكا، وترى فيها فرصة ذهبية لتقليص الفوارق مع هاتين القوتين خاصة على مستوى اقتصادها الذي يرزح تحت وطأة العقوبات الغربية. أما إيران التي تعيش بدورها تحت رحمة العقوبات الأمريكية غير المسبوقة، فإنها ترى في هذه الحرب طوق نجاة لإنقاذ اقتصادها المنهك، وأول ثمرة جنتها طهران من خلال استغلالها لهذه المناوشات الدائرة بين الخصمين، هي تسييرها للعديد من الناقلات النفطية باتجاه التنين الصيني الذي كان في وقت قريب مرغم الإنخراط في العقوبات التي فرضها ترامب على طهران عندما تحاشت بكين في مناسبات عدة على استيراد البترول الإيراني.
في الجهة الأخرى، تتطلع تايوان إلى الاستفادة من هذا الصراع من خلال زيادة الدعم الأمريكي لها من مناحي عدة، فالسنوات الاخيرة عرفت تطورا مهما في عدد صفقات التسلح التي أبرمتها واشنطن مع تايبيه، في رسالة إلى الصين على يد أمريكا هي العليا في مناطق يطمح الحزب الشيوعي الصيني لجعلها الحديقة الخلفية له في المستقبل القريب، نفس الإسقاط يمكن استعماله بالنسبه لمعارضي الصين في هونغ كونغ، فالاتصالات التي التقطتها مؤخرا المخابرات الصينية، لانفصاليين من هونغ كونغ مع مسؤولين أمريكيين أغضبت بكين كثيرا، وهذا ما دفعها لتحذير أمريكا من التدخل في شؤونها الداخلية، مع تهديد هذه الأخيرة بفرض عقوبات في حال أقرت الصين القانون الذي يتيح لها إحكام قبضتها الامنية على هونغ كونغ .
و ختاما، يمكن القول أن هذه الحرب في حال اشتدادها، فإنها ستكون أشرس من سابقتها ( الحرب الباردة بين أمريكا والإتحاد السوفياتي سابقا)، وقد تتولد عنها حروب بالوكالة في الكثير من مناطق الصدام بين الطرفين في آسيا وأمريكا الجنوبية ( كوبا، فنزويلا )، وقد تسرع في بروز نظام عالمي جديد، الذي سيفضي لقوانين جديدة قد تغير الكثير من القواعد التي كان معمول بها منذ نهاية الحرب الباردة الأولى. وأي هفوة من أمريكا ستسمح بتحقق تنبؤ نابليون بونابرت الذي قال آنذاك ” الصين مارد نائم فدعوه نائما إذا استيقظ هز العالم”.
* باحث في القانون الدستوري- جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس
تعليقات الزوار ( 0 )