Share
  • Link copied

هل يطلق وباء كورونا شرارة حرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين؟

يوما بعد يوم، يتراكم عداء مناهض لبكين في سماء العاصمة واشنطن، وقد حذر الكثير من الخبراء من تزايد/تمدد خطوط الصدع الناشئة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وتزايد هذا الإحساس بالاشتباك الذي يلوح في الأفق بين أصحاب الوزن الثقيل في القرن الواحد والعشرين منذ أن أصاب الفيروس التاجي الجديد العالم بشلل كبير، فتزايدت معه التصريحات العدائية بين الطرفين، وكان آخرها تصريح الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الخميس الماضي على شبكة “فوكس نيوز” اليمينية، والذي طرح من خلاله إمكانية قطع العلاقات بأكملها مع الصين في أعقاب هذا الوباء.

هذه التوترات والاتهامات المتبادلة دفعت الكثيرين إلى التساؤل حول ما إذا كانت هذه السجالات تقربنا بالفعل من حرب باردة جديدة بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل تسمح تلك المعطيات فعلا لقياسات الحرب الباردة بتأطير العلاقات الأمريكية-الصينية المعاصرة؟ وهل كانت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تتأرجح فعلا بالقرب من حافة الهاوية قبل الفيروس التاجي المستجد، وأن الأخير دفعها على الفور؟ وهل ستشكل هذه الحرب الجديدة تغييرا في شكل النظام الدولي؟  أم أن مجريات المواجهة ونتائجها من سيحدد أمد التغيير؟

 سنحاول مناقشة هذه الأسئلة من خلال مجموعة من النقاط.

أولا: خطورة الوضع وارتفاع منسوب الخوف من حرب باردة جديدة

لقد حذرت الكثير من المراكز ومعاهد الأبحاث والدراسات من خطورة الوضع والعلاقة المتوترة القائمة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وقد أكد على ذلك (وانغ هوي ياو Wang Huiyao) رئيس مركز الصين والعولمة  Center for China and Globalization، وهو مركز أبحاث غير حكومي في بكين بقوله  “وصل مستوى الثقة بين الصين والولايات المتحدة إلى أدنى مستوياته منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية لأول مرة في عام 1979”. 

وقال “كليت ويليمز”  المسؤول التجاري السابق بالبيت الأبيض لشبكة CNBC “أعرف أن الناس لا يشعرون بالارتياح تجاه المصطلحات، لكنني أعتقد أنه يجب أن نكون صادقين، وأن نسمي الأمور بمسمياتها، هذه بداية حرب باردة جديدة..وإذا لم نكن حذرين، فقد تسوء الأمور كثيرا”.

وصرح (أورفيلل شيل Orville Schell) ، مدير مركز العلاقات الأمريكية الصينية في جمعية آسيا  لبيزنس إنسايدر  Business Insider  “نحن في الأساس في بداية الحرب الباردة”. “نحن في انحدار نزولي نحو شيء عدائي متزايد مع الصين.” وأكد شيل على أن عواقب انهيار العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ستكون خطيرة للغاية بالنسبة للعالم والاقتصاد العالمي، لأن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية والصين على العمل معا كانت حجر الأساس لكامل قاموس العولمة والعالمية، ومع هذا الانحباس سيكون هناك قدر كبير من الإضطراب.

من جهتها قالت (بوني جلاسر Bonnie Glaser)، مديرة مشروع الطاقة الصيني في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية CSIS، لمجلة Insider أن هناك عناصر من المنافسة الأمريكية الصينية “تذكرنا بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي”.

وقال )ميكو هووتاري(Mikko Huotari، المدير التنفيذي لمعهد ميركاتور للدراسات الصينية Mercator Institute for China Studies(MERICS) ، وهو مركز أبحاث مقره برلين يركز على الصين ، لـ “فاينانشيال تايمز“: “سيكون من الصعب للغاية ترسيخ العلاقة المتدهورة مرة أخرى في هذا المركز.” “ستبقى المنافسة الإستراتيجية هي النموذج السائد. السؤال هو ما إذا كان يميل نحو العداء الدائم والشامل “.

كما أكد روبن نيبليت (Robin Christian Howard Niblett) مدير المعهد الملكي للشؤون الدولي “تشاتم هاوس” (Chatham Houseفي مقال له على أن إدارة العلاقات مع الصين فور انتهاء أزمة فيروس كورونا ستكون واحدة من أكبر التحديات التي تواجه القادة السياسيين في الولايات المتحدة وأوروبا، وهما من أكثر المناطق تضررًا من الفيروس الذي نشأ في الصين. وذلك في ظل تفاقم التدهور في العلاقات بين الطرفين.

هذا التخوف المتنامي في أوساط الأكاديميين والمفكرين و المحللين، جاء نتيجة ما أصبح يعيشه واقع العلاقة المتوترة بين بكين وواشنطن، ليس فقط مع ظهور جائحة كورونا، ولكن قبل ذلك أيضا، وهو واقع كانت سمته البارزة الاتهامات المتبادلة، وتحميل كل طرف المسؤولية للطرف الآخر  في مختلف القضايا العالقة بين الطرفين.

ثانيا: مظاهر التصدع والصراع في العلاقة الصينية-الأمريكية

لقد تعددت المظاهر التي توحي بتدهور العلاقة بين كل من الدولتين، سواء على شكل سجالات واتهامات متبادلة، همت كلا من الجانبين السياسي و الاقتصادي بالأساس، أو على شكل إجراءات عملية عززت منطق التوتر بين الطرفين.   

1-سجالات واتهامات متبادلة

لم يكن اختلاف الرؤى والتوجهات بين بكين وواشنطن وليد اللحظة –أي مع انتشار وباء كورونا – بل كانت تلك الاختلافات قبل ذلك، إلا أنها زادت عن الشكل المألوف، وبنسق مرتفع بداية مع حملة ترامب الرئاسية عام 2016، حين صور ترامب الصين بأنها متنمر عالمي استفاد من الولايات المتحدة الأمريكية، وصولا إلى توليه مقاليد الحكم في بلده ليكيل الاتهامات كلما سنحت له الفرصة بذلك، وقد رأى الرئيس ترامب وحلفاؤه بأن انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية منذ ما يقارب العقدين من الزمن، بمثابة الخطيئة الكبرى، حيث حول البلاد – الصين – إلى قوة اقتصادية عظمى مدفوعة بالصادرات، وهم يسعون إلى استبدالها واعتبارها غير ذات صلة.

وقد عرفت العلاقة بين الطرفين أزمات سابقة عن أزمة كورونا، وكانت جلها تقريبا ذات صلة بالعلاقات التجارية بين البلدين، ومنها أزمة شركة هواوي الصينية المشتغلة في مجال التكنولوجيا، وقد توصل الجانبان إلى اتفاق تجاري مطلع السنة الجارية. إلا أنه ومع ظهور وباء كورونا أصبحت هدنة الحرب التجارية في مهب الريح، وبدلا من توحيد الصفوف للتعامل مع الفيروس، خاضت الدولتان معارك خطابية يتم فيها تبادل الاتهامات حول أصل الفيروس، ففي واشنطن يصفه الرئيس دونالد ترامب بـ “الفيروس الصيني” منذ بدء ظهوره في خطاباته الصحفية وتصريحاته المنشورة عبر تويتر، وفي بكين تروج وسائل الإعلام الرسمية وعدد من الدبلوماسيين لرواية أن الفيروس وصل إلى الصين عن طريق الجنود الأميركيين الذين شاركوا في دورة الألعاب العسكرية التي عُقدت في أكتوبر2019 في ووهان، وهي البؤرة الأصلية للوباء، كما تتهم الرئيس ترامب بالعنصرية، وترفض بكين بشدة الاتهامات بكون الفيروس تسرب من مختبر  ووهان.

واتهم الرئيس ترامب الصين بإخفاء التقارير التي تثبت إمكانية انتقاله من إنسان إلى آخر، كما أساءوا للدكتور لي وين ليانج الذي حذر من هذا الفيروس واتهموه بنشر الإشاعات، كما  أثار ترامب إمكانية طلب تعويضات من بكين بسبب الفيروس. كما أعلن الرئيس الشهر الماضي عن وقف التمويل لمنظمة الصحة العالمية ، التي اتهمها بأنها تتمحور حول الصين. وفي حديثه عن الجائحة هذا الأسبوع، قال ترامب  “هذا أسوأ من بيرل هاربور، إنه أسوأ من حادثة مركز التجارة العالمي، لم يحدث هجوم مثل هذا أبداً”، وقال “كان يمكن إيقافه في الصين، كان يجب إيقافه في منبعه مباشرة، ولم يحدث ذلك”.

وقد وصف ترامب التعامل مع الصين بالمكلف للغاية، حيث أنه بمجرد الانتهاء من إبرام الصفقة التجارية مطلع هذا العام، وقبل أن يجف حبر الاتفاقية – حسب وصف الرئيس الأمريكي – حتى أصيب العالم بالطاعون من الصين، وزاد بأن 100 صفقة تجارية لن تعوض الفرق، والخسائر في الأرواح.

وقد تحدث وزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان إلى “فوكس نيوز” قائلاً إنّ الصين هي التهديد رقم واحد للولايات المتّحدة، اقتصاديّاً وديبلوماسيّاً وعسكريّاً، مضيفاً: “إنّه عالم يجب أن نواجهه”.

و أشارت جريدة الواشنطن بوسط في وقت سابق إلى أن بعض المجهولين في البيت الأبيض سربوا للإعلام تهديدات بإمكانية تخطي التزامات الديون الأمريكية المستحقة لفائدة الصين، وهي خطوة إن صحت ستضر بمصداقية الولايات المتحدة الأمريكية على المسرح العالمي.

2- إجراءات عملية عززت منطق التوتر بين الطرفين

حذر تقرير داخلي حسب وكالة رويترز قدمته وزارة أمن الدولة الصينية إلى كبار قادة البلاد من العداء العالمي المتزايد تجاه بكين، والذي ولده جزئيا الخطاب الأمريكي، حيث كان في أسوأ مستوياته منذ الأحداث التي وقعت في ميدان “تيانانمن” عام 1989 – مجموعة من المظاهرات الوطنية التي وقعت في جمهورية الصين الشعبية، وتمركزت في ساحة تيانانمن في بكين التي كانت محتلة من قبل طلاب جامعيين صينيين طالبوا بالديمقراطية والإصلاح – ويزعم  أن التقرير خلص إلى أن الولايات المتحدة كانت عازمة على تقويض الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، واعتبرت البلاد تهديدا اقتصاديا وأمنيا.

وقد أشار أحد المطلعين على التقرير إلى أن بعض أجهزة المخابرات الصينية اعتبروه نسخة صينية من “نوفيكوم تيليغرام”، وهي برقية أرسلها السفير السوفييتي لدى واشنطن عام 1946 نيكولاي نوفيكوف، تؤكد/تشدد على مخاطر الطموح الاقتصادي والعسكري الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وكانت رسالة نوفيكوف ردا على برقية للدبلوماسي الأمريكي جورج كينان من موسكو قال فيها إن الاتحاد السوفييتي لا يرى إمكانية للتعايش السلمي مع الغرب، وإن الاحتواء هو أفضل استراتيجية على المدى البعيد.

وأعلن رئيس مجلس النوّاب السابق نيوت غينغريتش أنّه “إذا رسمتم المقارنة مع الحرب الباردة، فنحن الآن بالضبط في اللحظة التي سبقت مباشرة كتابة الديبلوماسيي الأميركيي جورج كينان التيليغرام الطويل (تحليل مطوول عن الأسباب التي توجب تحرّك واشنطن لاحتواء الاتّحاد السوفياتيّ كُتب سنة 1946)”. وقد أسمت الوثيقتان في تمهيد الساحة للتفكير الاستراتيجي الذي حدد جانبي الحرب الباردة.

وعلى إثر اتهامات واشنطن لبكين ومسؤوليتها عن تفشي الوباء، عمدت الإدارة الأمريكية إلى قطع التمويل للباحثين الأمريكيين الذين تعاونوا مع مختبر  ووهان، وكذا وقف التمويل الأمريكي لمنظمة الصحة العالمية لاتهامه لها بالسماح بتدخل الصين في عملياتها. كما وضع ترامب قيودا على عدد من المواطنين الصينيين الذين يمكنهم العمل في الولايات المتحدة الأمريكية لخمس وكالات أنباء صينية تديرها الدولة، كما طردت الصين ردا على ذلك في شهر مارس الصحفيين الذين يعملون في ثلاث من أبرز الصحف الأمريكية. كما يعمل الرئيس ترامب وحلفاؤه بالضغط على مجلس الشيوخ من أجل فرض عقوبات جديدة تهدف إلى معاقبة الصين، لدورها المزعوم في التستر على المراحل الأولى من تفشي المرض، وقد قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتقليص تأشيرات الصحفيين الصينيين العاملين في الولايات المتحدة الأمريكية، كجزء من استمرار الانتقادات الموجهة لبكين.

هذا التوتر  الحاصل بين البلدين لم يبق على المستوى الحكومي، أو على مستوى أجهزة الدولة الخارجية لكلا البلدين، بل انتقلت المشاعر السلبية إلى الشعب الأمريكي، فوفقا لمسح مركز بيو للأبحاث “Pew Research Center” الذي أجري شهر أبريل من هذه السنة، ينظر الأمريكيون إلى الصين بشكل سلبي أكثر من أي وقت مضى منذ أن بدأت المنظمة في مسح المشاعر المعادية للصين بهذه الطريقة في عام 2005.

إن استمرار المشاعر السلبية الحاصلة بين البلدين، وتطورها إلى اعتماد كل طرف لخطوات تصعيدية أو إجراءات مضادة ضد الطرف الآخر ، من شأنها ليس فقط أن تدخل البلدين في حرب باردة جديدة، ولكن أن تكون تداعياتها على دول أخرى مرتبطة بالدولتين، بل وقد يصل التأثير  إلى قضايا عالمية كبرى، ومنه إلى النظام العالمي ككل.

ثالثا: تداعيات  حرب باردة جديدة على النظام العالمي

رغم الفروقات/الاختلافات الجوهرية والكبيرة بين بكين وواشنطن، وطبيعة رؤية الطرفين للعامل وللنظام ككل، إلا أنهما مرتبطان بشكل أكثر تعقيدا، خاصة على المستوى الاقتصادي وهو المحرك الأساسي لباقي المستويات، فأوجه الارتباط متعددة؛ تختلف عن تلك التي كانت سائدة إبان نظام يالطا، وكمثال على ذلك ما قاله رئيس الوزراء البريطاني “توني بلير” في مقابلة أجراها مع شبكة CNN، حيث أكد على أن أمريكا كانت تستورد من الاتحاد السوفياتي سابقا ما يقارب 200 مليون دولار من السلع، أما الآن فالولايات المتحدة الأمريكية استوردت سنة 2018 ما يقارب 500 مليار دولار، كما أن ديون الولايات المتحدة الأمريكية المستحقة للصين حوالي 1.09 تريليون دولا.

فحجم الترابط التجاري كبير جدا، فقد أنشأت الآلاف من الشركات الأمريكية أعمالها في الصين، كما تبيع شركات صناعة السيارات الأمريكية مثل “جنرال موتورز” سيارات في الصين أكثرمما تبيعه في الولايات المتحدة الأمريكية، ويدرس حوالي 370 ألف طالب صيني في الولايات المتحدة الأمريكية. زد على ذلك أن الصين تستحوذ على عناصر الأرض النادرة – تستعمل في صناعة الأجهزة الإلكتروني -، والتي تنتج منها أكثر من 95 في المائة من الإنتاج العالمي، وتعتمد أمريكا على 80 في المائة من وارداتها من هذه العناصر…

وانطلاقا من حجم الترابط بين الدولتين، وكذا الديناميكية المثيرة للجدل بين بكين وواشنطن في عصر الفيروس التاجي والتي توحي بتعثر القوتين العظميين في الأيام الأولى للحرب الباردة الجديدة، يمكن القول أن من شأن هذا الوضع أن يطيل من الوباء، ويفاقم الدمار الاقتصادي المرتبط به – الوباء-، ويضعف قدرة العالم على إحباط التهديدات المشتركة، كما سيفرض على النظام الدولي تحديات جديدة، ويفاقم التحديات العالمية القائمة؛ كتغير المناخ والإرهاب، ويجعل التعاون أصعب ويجبر الدول على اختيار جانب معين، في عملية مبادلة صعبة للغاية ومن المحتمل أن تكشف عن عدد من الحقائق القبيحة؛ كالإعلاء من أهمية الأمن وسبل العيش على القيم الإنسانية.

 إن احتمالية فك الارتباط وقطع العلاقات  الأمريكية مع الصين بالكامل كما لوح الرئيس ترامب بذلك، ليجعل عملية التعافي بعد فيروس كورونا أكثر صعوبة، على الكثير من المستويات، وذلك لأن الصين تمثل ما يقرب 20 في المائة من الناتج المحلي العالمي.  هذا يجعل العالم يدخل مرحلة جديدة قد  تشهد تغييرا في شكل النظام الدولي، إذ سرعت شعبوية ترامب، واتباعه لحمائية تجارية، وسياسته التي أثارت هواجس حلفاء أمريكا قبل خصومها، وكورونا التي أصابت أركان النظام العالمي، من إمكانية حدوث تغيير في طبيعة وشكل هذا النظام.

كل ما سبق ذكره يوحي بدخول العالم الحرب الباردة الجديدة بين بكين وواشنطن، لكنها ليست كسابقتها زمن الاتحاد السوفياتي فأوجه الاختلاف كثيرة جدا لا يسع المقال للتطرق إليها، فإذا ما سلمنا بأنها حرب باردة جديدة فهي لن تكون صراعا بين قطبين كما كانت، بل هي صراع من أجل أن يتحول العالم إلى ثنائي القطبية؛ فإما يبقى العالم على حاله، أو أن تنجح الصين في تغيير شكل النظام الدولي؛ من نظام أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، إلى نظام ثنائي القطبية رأسه الأول في بكين والثاني في واشنطن.

     إن دراسة إمكانية عودة النظام العالمي لثنائي القطبية، يجعل الصين _وعلى المدى البعيد غالبا_ المرشح  الرئيسي ليكون ندا للولايات المتحدة الأمريكية، فالكثير من المفكرين والكتاب أمثال بريجنسكي وكيسنجر وجوزف ناي وآخرون، جعلوا الصين في صدارة الدول القادرة على منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في النظام العالمي، والطامحة لأن تكون قطبا عالميا إلى جانب أمريكا، بل والقادرة على الوصول لذلك.

   في عالم قريب لما كان يعاش إبان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكي بين عامي 1945-1991، ستدخل الصين خصوصا _علما أن الولايات المتحدة الأمريكية حاليا هي القطب الوحيد والأحد حاليا _ في عملية استقطاب الدول وجعلها أقرب لها من الطرف الآخر، وقد تستخدم لتلك الغاية إمكاناتها الإقتصادية الضخمة، إما قروض أو مساعدات، وهو ما بدا واضحا زمن كورونا وإرسال الصين لمساعدات طبية لدول كانت تعاني من الوباء، في حين كانت أمريكا عاجزة عن ذلك، بل وتعاني من جراء الوباء، تبقى عملية الاستقطاب صعبة على الصين خصوصا في محيطها الإقليمي، علما أنها محاطة بدول تربطها مع الولايات المتحدة الأمريكية علاقات يصعب تجاوزها بسرعة، كاليابان وكوريا الجنوبية، وأخرى لازالت بعض المشاكل بينها وبين الصين كالهند وتايوان، ودولة كبرى قد لا ترغب في بقائها كالمتفرج كروسيا رغم علاقاتها المميزة مع الصين، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا شك ستلعب على هذه العوائق أمام الصين للحد من تأثيرها، فحسب أحد رواد المدرسة الواقعية الجديدة “جون ميرشايمر” فإنه لا يمكن للصين أن تصير قطبا ندا للولايات المتحدة الأمريكية دون هيمنتها على محيطها الإقليمي، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي سابقا.

ستعمل روسيا على تعزيز التحالفات الاقتصادية كمنظمة شنغهاي أمام مجموعة بريكس، كما ستعمل على تطوير قدراتها العسكرية موازاة مع قدراتها الاقتصادية الكبيرة، إذ عرف الإنفاق العسكري الصيني زيادات متتالية منذ سنة 2010 ليصل سنة 2019 إلى 177.5 مليار دولار أمريكي بزيادة بنسبة 7.5 في المائة، علما أن الإنفاق العسكري الأمريكي وصل سنة 2019 إلى 750 مليار دولار أمريكي، لتكون الدولتان الأكثر إنفاقا على المستوى العسكري في العالم وبفارق كبير جدا عن الدول الأخرى.

كما سيظل النفط والغاز كأحد أهم العوامل المحددة للسياسة وصور التنافس بين أمريكا والصين، وستحاول الصين مجارات الولايات المتحدة الأمريكية وإنشاء قواعد عسكرية لها، وحماية مصالحها الإستراتيجية عبر العالم، وقد أقامت أولى قواعدها العسكرية في جيبوتي عام 2017، وربما تبحث عن إقامة قاعدة عسكرية أخرى في باكستان، أو في دولة من دول الشرق، إن إقامة قواعد عسكرية صينية خارج الأراضي الصينية يحتاج إلى حماية تلك القواعد، ولذات الغاية بدأت الصين برنامجا عملاقا سريا  لبناء 10 حاملات طائرات، وقد انتهت سنة 2017 من تصنيع “شاندونغ” كأول حاملة طائرات محلية الصنع، بعد الحاملة السوفييتية الوحيدة “لياونينغ” التي كانت تمتلكها الصين، وأشارت معلومات استخباراتية أمريكية إلى اقتراب حاملة طائرات ثالثة من الاكتمال، وتحاول الصين مجارات أمريكا التي تمتلك فعليا 10 حاملات طائرات.   

مع تعدد واختلاف مستويات القوة، فإن التنافس العسكري قد تخبو حدّته، ويطغى بدل ذلك الصراع الاقتصادي، وكسب الأسواق، وبروز الحرب التجارية، والتي بدت بعض معالمها في هذه الأيام بين الصين وأمريكا.

إن استفحال العولمة في تفاصيل حياتنا سيلعب دوراً جديداً في مظاهر حرب باردة بين الطرفين، لذا قد نشهد حروبا إلكترونية يكون أبطالها الهكرز، كما قد تحتدم المنافسة في مجال التكنولوجيا، فأزمة هواوي والعقوبات الأمريكية التي طالتها قد تكون مثالاً على ذلك،، وقد يُحاول الطرفان كسب الفواعل من غير الدول، مثل المنظمات غير الحكومية، ورؤساء الشركات العالمية الكبرى، والشخصيات والوسائل الإعلامية وغير ذلك، وقد يتخذ الطرفان من الإرهاب حجة في كثير من تدخلاتهم، وبناء سياساتهم الخارجية.

وقد يجري بعض الاختلافات في طبيعة الصراع والتنافس بين الصين والولايات المتحدة. لعلّ دعاية الأيدولوجيا ستكون أقل مما كانت عليه بين السوفييت والأمريكان، وتحل مكانها شعارات مثل الحرية، والقانون، والاستقرار، والديمقراطية وغيرها، والكفة هنا لصالح الغرب، حيث أن الشرق لا يلقى قبولا من الكثير من شعوب العالم، خصوصا مع وضع حقوق الإنسان والحريات في الصين والانتقادات الموجهة لها في هذا الشأن.

 قد يزداد التنافس في مجال القوة الناعمة، على حساب التنافس في المجال العسكري، لأن أهميته تضاءلت عما سبق، قد يُوسم الصراع بتنافس النموذج الشرقي في مواجهة النموذج الغربي، بطابع إقليمي وليس فكرياً، كما كان بين الرأسمالية والاشتراكية.

تجدر التأكيد في الأخير  أن تشبيه الحرب الباردة ليس كاملا، مقارنة بما وقع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث المنافسة لم تصل بعد إلى نوع النظام الذي يجب أن يسود، وكذا لم تصل المنافسة العسكرية بين البلدين إلى مستويات متقدمة، بل لا زال هناك بون/فرق شاسع. إلا أن ما يقع من حرب تجارية وعلاقات متوترة…لا يوحي بنهاية في الأفق، باستثناء انتخابات مختلفة في نونبر.

 باحث في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية المعاصرة

Share
  • Link copied
المقال التالي