وردت في القرآن الكريم آيات متعددة حول قضية الأمر الموجه إلى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، ورفْض إبليس لذلك تمردا على الله واستكبارا، ومن هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا، إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين”.
وقد توقف عند هذه الآية وأمثالها عدد من المفسرين، ومنهم من صرح بناء على هذه الآيات أن إبليس كان فردا من أفراد الملائكة كما في تفسير المنار لمحمد عبده، وأضاف بأنه لا يوجد دليل على أن بين الملائكة والجن فصلا جوهريا يميز أحدهما عن الآخر، ليستظهر في الأخير أن الجن صنف من الملائكة، وتبنى هذا الرأيَ ابنُ العربي المعافري في “المتوسط” تقليدا لأبي الحسن الأشعري، وذهب إلى أن بعض الملائكة يعصون الله تعالى، وضرب لذلك مثلا بإبليس وهاروت وماروت.
وقد اتخذ كثير من الملاحدة هذا الفهم تكأة للنيل من القرآن خصوصا ومن الإسلام عموما، وذلك من خلال الحديث عن عصيان الله تعالى الصادر عن فرد من الملائكة، وهو ما يتناقض مع القرآن نفسه الذي صرح بأنهم لا يعصون الله أبدا ويفعلون ما يؤمرون.
فهل كان إبليس ملكا كما يقال؟
بالعودة إلى القرآن الكريم، يتبين لنا أن الآية التي يعتمدها الجميع تتضمن الآتي:
أ – الأمر الموجه إلى الملائكة،
ب – أداة “إلا”،
ج – رفض السجود من قبل إبليس.
وهذه البنية اللغوية توهمها البعض استثناء، وهذا التوهم قد يتبدد بعد الاحتكام إلى منطق القرآن ومنطق اللغة على السواء.
لا يمكن اعتبار جملةٍ ما جملةً استثنائية إلا إذا تضمنت الآتي:
أولا: وجود المستثنى منه قبل أداة الاستثناء، وهو [العام].
ثانيا: وجود أداة الاستثناء.
ثالثا: وجود المستثنى بعد أداة الاستثناء، وهو [الخاص].
رابعا: وجود علاقة الانتماء بين الخاص والعام، فحين نقول مثلا: “دخل اللاعبون إلا شجرةً”، فإننا قد نعدّ هذه الجملة من حيث المبنى استثناء، ولكننا لا نعدها من حيث المعنى كذلك، لانعدام علاقة الانتماء بين المستثنى والمستثنى منه [العام والخاص].
خامسا: ضرورة اتحاد الحُكم في المستثنى والمستثنى منه، وهو أن لا تتعدد الأفعال في الجملة وأن يحتكما معا إلى نفس الفعل، فنقول: “دخل التلاميذ إلا واحدا”، فالفعل واحد وهو [دخل]، ومن هذه الزاوية سميت البنية استثناء، وهو مشتق من [ث ن ي]، ومعناه التثنية، وسمي الاستثناء بذلك لأننا نثني الحكم على الخاص، فنحكم على الخاص بالدخول أولا، لأنه مندرج في العام/المستثنى منه، ونحكم عليه ثانيةً بعدم الدخول حين ننفيه عنه بأداة الاستثناء، فتقدير الجملة: دخل التلاميذ إلا واحدا لم يدخل، ولذلك يجوز استعمال كلمة “ثنيا” بدل “استثناء”.
وإذا انخرم شرط من هذه الشروط، فإن الجملة لا تكون استثنائية، ومن أمثلة ذلك:
أ – دخل اللاعبون إلا شجرة، فإنها ليست استثناء لعدم وجود علاقة الانتماء بين الخاص والعام.
ب – دخل التلاميذ إلا واحدا امتنع عن الكتابة، فهنا التلاميذ/العام لهم حكم مستقل وهو [دخل]، والواحد له حكم آخر وهو [امتنع]، ولما تعدد الفعل/الحكم، فإن التثنية لم تتحقق، ولذلك لا يسوغ تسمية هذه الجملة استثناء.
انطلاقا من هذا المنطق اللغوي، نحاول فهم الآية القرآنية، وذلك وفق الآتي:
قال الله تعالى في سورة الكهف: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه”.
هذه الآية تبين لنا أن علاقة الانتماء بين الخاص/إبليس والعام/الملائكة غير موجودة، ومن غير السائغ أن يكون الجن صنفا من الملائكة، وبنية الآية لا تسعف في ذلك، ولو أسعفتنا لجاز لنا أن نقول: [دخل التلاميذ إلا محمدا كان من الأساتذة لم يدخل]، وهذه ركاكة وتشتيت للمعاني.
كما أن هذه الآية لا تتضمن تثنيةً في الحكم/الفعل الواحد حتى يتحقق تسميتها استثناءً، لأن الله تعالى جعل للملائكة فعلا خاصا هو [اسجدوا]، وجعل لإبليس حكما ثانيا هو: [فَسَقَ]، فكيف يتحقق الاستثناء ولم تتحقق التثنية في الحكم؟
وفي الآيات الأخرى، تتكرر نفس المسألة، مثل:
** اسجدوا // أبى واستكبر.
** اسجدوا // لم يكن من الساجدين.
** فسجد الملائكة // أبى أن يكون.
** اسجدوا // قال أأسجد لمن خلقت
** فسجد الملائكة // استكبر.
هذه الثنائية في الحكم – إضافة إلى عدم وجود علاقة الانتماء – تحُول دون اعتبار الجملة خاضعةً لمنطق الاستثناء، وهو ما يفرض علينا البحث عن بديل عنه، وقد أفادنا أستاذنا الدكتور محمد الأوراغي حفظه الله وبارك فيه أن في الآية تقارضا وتعاوضا.
والتقارض والتعاوض؛ وهناك من يسميها ظاهرة التقارض والتعارض؛ يعني أن بعض الأدوات أو الحروف قد تتعارض مع أدوات وحروف أخرى، ولكنها تقترض منها معناها وتُستعمل به، مثال ذلك:
** قوله جل وعز: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”، فالآية تتضمن [هل]، وهي تفيد الاستفهام، لكنها في هذه الآية تفيد النفي، وهي بمعنى [لا]، ومعناها نفي الاستواء بين العلم والجهل، واستُعمل فيها الاستفهام لأنه أبلغ.
** قوله تعالى: “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا”، استُعملت [إلا] هنا بمعنى [غير].
وفي آية سجود الملائكة، استعمل الله تعالى [إلا] استعمال [لكن]، ومعناها: قال الله للملائكة اسجدوا، لكن إبليس لم يسجد.
يؤيد هذا المعنى ما تقرر في الوقف والابتداء في قراءة القرآن، إذ لا يجوز الوقف بعد [إلا] لكيلا نفصل بين المستثنى والمستثنى منه، مثال ذلك قوله تعالى: “كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه”، فإنه لا يجوز لنا أن نقف على “إسرائيل”، ثم نستأنف بـ”إلا”، للخلل في المعنى.
أما في آية سجود الملائكة، فإنه يجوز الوقوف على ما بعد [إلا]، فنقول: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا”، ثم نستأنف بعد ذلك بـ”إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين”، لأن الجزء الأول أفاد معنى مستقلا، وهو الأمر بالسجود الموجه إلى الملائكة، والجزء الثاني أفاد معنى ثانيا وهو استكبار وإباء إبليس، والوقوف بينهما لا تترتب عليه ركاكة أو خلل في المعنى.
بناء على ما سلف، يتبادر إلى الأذهان سؤال وجيه، وهو لماذا كان الحديث عن إبليس ما دام أنه غير مندرج في عموم الملائكة الذين وُجّه إليهم الخطاب ابتداء؟
هنا توجيهان متقاربان:
التوجيه الأول: لم يكن في المخلوقات آنئذ إلا الملائكة وإبليس، وهذا الأخير كان معهم وقريبا منهم ومخالطا لهم، لذلك كان الخطاب موجها إلى الجميع واستُعمل الجنس الغالب [الملائكة] دون سواه، لندرته مقارنة معهم.
التوجيه الثاني: الخطاب وُجّه إلى الأعلى واندرج فيه الأدنى كما هي العادة، ونظيره في القرآن: “يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة”، وهذا الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأصالة، وموجه إلى أمته بالتبع، لأن الخطاب الموجه إلى الأعلى يندرج فيه الأدنى كما هو معهود في نماذج إنسانية متعددة.
وإذا تقرر هذان الوجهان سلم القرآن من وهم التعارض، وتبين أن إبليس لم يكن من الملائكة ابتداء، لعدم تحقق الاستثناء في الآية، وأن الملائكة لا يعصون الله ولا يوصفون بالفسق ولا ينتقلون إلى الكفر أبدا.
تعليقات الزوار ( 0 )